من النتائج الإيجابية للعدوان الصهيوني على غزة تزايد فرص التقارب بين اليسار والإسلاميين في العالم العربي، فالتقاؤهم الموضوعي على أرضية دعم خيار المقاومة ساهم في تزايد الإحساس بضرورة التفكير في تطوير أدوات التواصل السياسي بين التيارين في مواجهة التحديات المشتركة، وهو ما يقتضي استثمار اللحظة التاريخية الراهنة لإطلاق مبادرات متعددة للحوار ولبلورة عناصر للتفاهم المشترك بين هذه النخب الوطنية لخدمة مصالح البلاد والعباد. في المغرب لا يشكل الإسلاميون كتلة متجانسة كما أن اليسار ليس كتلة متجانسة، فهناك اختلافات حقيقية بين الإسلاميين على المستوى الفكري والسياسي، كما أن اليسار المغربي تفرعت عنه مسلكيات سياسية وفكرية متباينة تصل إلى درجة التعارض فيما بينها في العديد من القضايا والمواقف. ومن تم فإن طبيعة العلاقة بين الاتجاهات المحسوبة على اليسار والاتجاهات المحسوبة على الإسلاميين هي علاقة متشابكة ومتداخلة وليس من السليم تناولها على سبيل التعميم أو إصدار أحكام قطعية بصددها، بل إن الكثير من المقولات تحتاج إلى إعادة تقليب النظر فيها من زوايا مختلفة: فمقولة اليسار ارتبطت تاريخيا بموقع سياسي ينحاز إلى الدفاع عن القضايا الاجتماعية وعن دور الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وعن دعم حركات التحرر الوطني، ثم تطورت رسالته فيما بعد للنضال من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان والنضال من أجل الحريات ومن أجل البيئة والتنمية. في زمن الإيديولوجيات ارتبطت نشأة اليسار بالاشتراكية والحلم الشيوعي، لكن لا ينبغي اعتبار الإيديولوجية الماركسية جزءا من هوية اليسار، بحيث يمكن للإسلامي أن يكون يساريا (بالمعنى المذكور) إذا تبنى المقولات السابقة التي لا تتعارض في شيء مع القيم الإسلامية الداعية إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومناهضة الاستبداد ورفض الظلم...كما تبدو مقولة الإسلاميين بدورها في حاجة إلى مراجعة فالإسلاميون الذين يمارسون السياسة من خلال تنظيمات سياسية معينة، هم في الواقع عبارة عن أحزاب سياسية عادية، ما يميزها عن باقي الأحزاب هو طبيعة نشأتها المرتبطة بالحركات الإسلامية التي ظهرت مع بداية التسعينات وتطورت مع مرور الوقت من تنظيمات شمولية تهتم بالدعوة والعمل الاجتماعي إلى أحزاب سياسية تحمل برامج سياسية تلتقي في الكثير من مضامينها مع الأفكار التي كان يطرحها بعض اليسار في مرحلة معينة، ربما بحمولة إسلامية واضحة لكنها في الجوهر تخدم نفس المقاصد والغايات.... هناك اليوم على العموم تعايش بين أغلب الاتجاهات اليسارية والاتجاهات الإسلامية، يتطور في بعض الأحيان إلى التنسيق المشترك في بعض القضايا القومية والإسلامية كمناهضة الاحتلال الأمريكي للعراق ونصرة القضية الفلسطينية ثم يتراجع على أرضية بعض القضايا المرتبطة بقوانين الأسرة وبحدود المواثيق الدولية....وطبعا داخل كل اتجاه هناك الغلاة والمتطرفون الذين يوجدون إما في أقصى اليسار أو في أقصى الإسلاميين لكنهم يمثلون أقلية لا يعتد بها من الناحية الكمية والنوعية كذلك.. هناك اليوم إمكانيات للفعل المشترك بين بعض التنظيمات «الإسلامية» وبعض التنظيمات «اليسارية» إذا تم التخلص من بعض الأحكام المسبقة بين الطرفين وتأجيل النقاش حول بعض القضايا ذات الطبيعة الفكرية من أجل ترسيخ قواعد الفعل الديمقراطي وبناء دولة القانون ... وهنا لابد من التأكيد مرة أخرى على أن الإسلاميين لا يقفون على مسافة واحدة من مفهوم الديمقراطية، كما أن اليسار المغربي ليس متجانسا بصدد مقولة العلمانية التي يتخوف منها البعض. فإذا تأملنا في أدبيات الإسلاميين سنجد اختلافا واضحا بينها فيما يتعلق بالموقف من الديموقراطية، وإذا تأملنا في الممارسة فسنكتشف بأن البعض يعبر في مواقفه اليومية عن قناعات ديمقراطية حقيقية بينما يخفق بعض الإسلاميين في تأكيد هذه القناعة في بعض المحطات، كما أن الفصائل اليسارية بدورها تتوفر على تيارات ديمقراطية وأخرى تصدر عن نزعة براغماتية غير ديمقراطية تعبر عن نفسها في بعض المحطات كما حصل بعد أحداث 16 ماي بالنسبة لبعض الأصوات «اليسارية» التي حاولت تصفية حساباتها مع خصمها السياسي(العدالة والتنمية) بطريقة غير ديمقراطية وغير أخلاقية. كما أنه إذا تأملنا في أدبيات الأحزاب «اليسارية» سنلاحظ أن بينها شبه إجماع على تجاهل مصطلح العلمانية، وتشير في وثائقها بشكل أو بآخر إلى انتمائها الحضاري الإسلامي، بل إن مذكرات الكتلة للإصلاحات الدستورية في التسعينات كانت تنص على ضرورة ضمان عدم التعارض بين القوانين والتشريعات مع تعاليم الدين الإسلامي، ولذلك فإنه من الناحية النظرية لا توجد لدينا أحزاب علمانية بالمعنى الفلسفي للكلمة..ولكن لدينا –في الاتجاه الآخر- اتجاهات سياسية أكثر قدرة على استلهام القيم الإسلامية في برامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية(الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية)، بينما تراجع الخطاب «الإسلامي» في برامج الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية وخاصة الأحزاب اليسارية.. ولا شك أن المستقبل هو للاتجاهات التي تستطيع داخل كلا الطرفين بلورة برامج واقعية لها عمق إسلامي وطني ديمقراطي، وتستطيع رسم خطاطة واضحة للتمييز بين مجال الدين ومجال السياسة وتجاوز فكرة الارتهان بثنائية الخلط المطلق بين الدين والسياسة( النموذج الثيوقراطي) أو الفصل الحدي بينهما (العلمانية المتطرفة). إنجاح العلاقة بين الطرفين مرتبط بتجاوز بعض القيم السلبية ، ومنها أسلوب الإقصاء، فالإقصاء مرتبط بالثقافة السياسية التي أفرزتها البيئة السياسية المغربية منذ السنوات الأولى للاستقلال، بل وقبل أن يتبلور اليسار أو الإسلاميين في أطروحات سياسية متباينة، فقد كانت هناك محاولات لإقرار مبدأ الحزب الوحيد في المغرب، وشهدت السنوات الأولى للاستقلال صراعا عنيفا بين الفرقاء السياسيين وصل إلى حد القيام بتصفيات جسدية متبادلة بين بعض الأحزاب السياسية كما تأخرت بعض التشكيلات اليسارية كثيرا في القبول بمبدإ الديمقراطية، ولازالت بعض امتداداتها موجودة إلى اليوم، كما أن بعض الاتجاهات الإسلامية لا زالت مترددة بخصوص موضوع الديموقراطية ولم تستطع الحسم فيه بشكل واضح... ولكن مع ذلك يمكن القول بأن ثقافة الإقصاء بدأت بالتراجع مادام كل طرف مقتنع بمشروعية تواجد الطرف الآخر وحاجة البلاد إلى جميع أبنائها لخدمتها في إطار مشاريع مجتمعية واضحة وقادرة على التنافس النزيه فيما بينها على أرضية ديمقراطية صلبة تضمن للجميع- سواء كان أغلبية أو أقلية- حق التعبير والمشاركة والتداول السلمي على السلطة.... صحيح أن هناك حواجز نفسية بين التيارين ساهمت في تعميقها بعض الدوائر التي كانت لها مصلحة في تعميق حدة الصراع بين الطرفين وتغذية نزعات الحقد والكراهية اتجاه بعضهما البعض، وانجرت بعض وسائل الإعلام في هذا المسلسل، ولازالت بعض الأصوات الإعلامية إلى اليوم تقوم بهذه الوظيفة لخدمة بعض مراكز النفوذ داخل السلطة التي ترى بأن مصلحتها تكمن في استمرار الصراع بين الطرفين.. وأعتقد بأن كل طرف عليه أن يقوم بنقد ذاتي موضوعي لتجربته في علاقته بالطرف الآخر في أفق تجاوز حالة الاحتراب الذي يصب في مصلحة من يهمهم قتل السياسة في المغرب والإجهاز على ما تبقى من ثقة المواطن في الحياة السياسية، وفي الفاعلين السياسيين. ليس في مصلحة بعض مراكز النفوذ داخل السلطة أن تترسخ في بلادنا قواعد التنافس الديمقراطي الحقيقي بين مشاريع مجتمعية واضحة، ولذلك فهم يعمدون لخلط الأوراق بين يدي المواطن عن طريق ترسانة قانونية تخدم البلقنة السياسية وتساهم في تشتيت ذهن المواطن من جهة، ومن جهة أخرى يعمدون إلى تغذية المواجهات العقيمة بين بعض الأطراف السياسية الإسلامية واليسارية، التي يوجد لدى بعضها القابلية للانجرار وراء مسلسل الصدام خدمة لوظيفة التوازن السياسي الذي يبحث عنه من يتحكمون في تدبير الشأن العام. وأعتقد أن السلطة استطاعت اختراق كلا الاتجاهين(الاختراق بالمعنى الفكري للكلمة وليس بالمنظور الأمني) لاختزال حقيقة الصراع في الآخر المختلف معه إيديولوجيا أو فكريا والتغاضي عن الجهات المسؤولة عن الاختيارات الاقتصادية والسياسية والأمنية الكبرى في البلد منذ الاستقلال إلى اليوم..وهنا لابد من بذل مجهود فكري كبير لمعالجة هذا الخلل..