ربما كانت هناك حاجة إلى رصد وملاحظة طبيعة العلاقة بين الأحداث الكبرى التي عاشتها القضية الفلسطينية وبين التحولات المفصلية التي عرفتها الحركة الإسلامية، ذلك أن هناك شبه اتفاق بين الذين يتابعون نشأة الحركة الإسلامية على أن نكسة 1967 كانت سببا مباشرا في بداية مراجعة الخيار القومي الاشتراكي والانعطاف على الخيار الإسلامي، بحيث صار من مسلما به في الأدبيات والكتابات التي تقارب الظاهرة الحركية الإسلامية، بل حتى في الكتابات التي تؤرخ من الداخل لنشأة الحركة الإسلامية، أن المد الحركي الإسلامي إنما انطلق مع تداعيات نكسة ,1967 وبدأ يؤسس لمفاهيمه وأدوات اشتغاله على طول ثلاثة عقود إلى أن أصبح فاعلا سياسيا وطرفا لا يستغنى عنه في أي معادلة سياسية، غير أن العقد الأخير، أي مع نهاية التسعينيات بدأت الكثير من الكتابات تعرض لكسب الحركة الإسلامية وتقيم أداءها وبشكل خاص تجربتها السياسية، إلى درجة حديث بعضها عن بوادر أزمة في فكر الحركة الإسلامية وبشكل خاص في سلوكها السياسي بسبب عدم قدرة العديد من أطيافها تحقيق مشروعها السياسي، وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية لهذه الأزمة، وبغض النظر عن كونها حالة من حالات النمو، أو تعبيرا عن حالة الانسداد السياسي الذي يطبع الحياة السياسية في بلداننا العربية، فإن الكتابات التي أعقبت النصر الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان سنة ,2002 تواضعت على أن هذا الانتصار أعطى نفسا جديدا للحركة الإسلامية، وعزز مواقعها وحرك فعاليتها التعبوية والجماهيرية، وأكسب خطابها الممانع قدرا من الواقعية والمقبولية السياسية والجماهيرية، بحيث لم يعد خطاب الحركة الإسلامية مجرد خطاب عدمي يقفز على معطيات الواقع السياسي الدولي وميزان القوى المستحكمة في صناعة القرار السياسي، وإنما صارت مفردات خطابها السياسي جزءا من حقائق الواقع السياسي والتي كشفتها بوضوح المقاومة الإسلامية في لبنان على الأرض. الحركة الإسلامية غذاة الحرب على غزة لم تغادر الحركة الإسلامية وسائلها وأدواتها التقليدية في التعاطي مع العدوان الصهيوني مع غزة، فقد صرفت جزءا كبيرا من فاعليتها التنظيمية والجماهيرية إلى الجانب التعبوي والاحتجاجي ونزلت بأعضائها ومتعاطفيها إلى الشارع، وشكلت قوة ضاغطة على القرار السياسي العربي بما يدفعه على الأقل إلى رفع سقف موقفه السياسي وعدم الارتهان إلى أطروحة ما يسمى بمحور الاعتدال العربي التي تركز على تهديء الجبهة وضمان أمن إسرائيل على حساب المقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن ضغوط الحركة الإسلامية إلى جانب بقية مكونات الطيف السياسي لم تصل إلى مستوى التغيير الجدري للموقف العربي إلى جهة نصرة المقاومة إلا أنها على الأقل زحزحت هذا الموقف وخلخلت مكوناته وأحدثت فرزا واضحا بين أطروحتين عربيتين جسدتهما بوضوح قمة الدوحة وقمة الكويت. وفي جميع الأحوال، فقد استطاعت هذه الضغوط الشعبية التي لعبت فيها الحركة الإسلامية الدور البارز، أن تحدث تغييرا في الموقف العربي لجهة جعل المقاومة مكونا سياسيا لا يمكن الاستغناء عنه ولا ترتيب أي خريطة سياسية دون أخذ رأيه وموقفه بعين الاعتبار. الحركة الإسلامية وتحديات ما بعد غزة إذا كان نصر المقاومة الإسلامية في لبنان سنة 2002 أعطى نفسا جديدا للحركة الإسلامية، وأتاح للمخيال السياسي العربي أن يدخل إلى اعتباره إمكانية أن تلعب المقاومة الدور الأكبر في تغيير خريطة الصراع في المنطقة العربية، فإن الانتصار الذي حققته المقاومة في غزة جاء ليؤكد هذه الإمكانية وينقلها لدرجة الحقيقة، الواقعية، ويثبت حسب الدكتور عبد العالي حامي الدين أن خطاب الحركة الإسلامية بخصوص قضية فلسطين ليس خطابا حالما ولا عدميا، ولكنه خطاب سياسي واقعي، يضع المقاومة كجزء لا يتجزأ من معادلة الصراع السياسي في المنطقة، بالشكل الذي يجعل قوتها وأداءها شرطا من شروط تحقيق أي مكسب سياسي على الأرض، وهو الأمر الذي صار له أكثر من شاهد سواء تعلق الأمر بتحرير جنوب لبنان، أو النجاح في صفقة الأسرى التي أبرمها حزب الله مع الجانب الإسرائيلي بوساطة ألمانية، أو بالنصر الذي حققته المقاومة اللبنانية سنة 2002 عسكريا وسياسيا، أو بانسحاب العدو الصهيوني من قطاع غزة. التحديات الخارجية بيد أن وضوح هذا النصر الذي حققته المقاومة على مستوى إفشالها العدو الصهيوني تحقيق أهدافه العسكرية، بات يطرح تحديات كثيرة بعد وقف إطلاق النار من جهة واحدة وتحرك الأجندة السياسية الصهيونية والأمريكية والأوربية بتنسيق مع بعض الجهات العربية لمنع المقاومة من تحويل نصرها إلى الواجهة السياسية، وهو الأمر الذي بات يطرح على الحركة الإسلامية تحديا كبيرا، إذ في العادة ما يكون وقف الحرب ذريعة لتحريك الآلية السياسية لتحقق ما عجزت الحرب عن تحقيقه، وهو ما يعني أن المعركة ما تزال مستمرة، وأن التحركات السياسية التي تجري على الأرض تسعى إلى احتواء النجاحات الميدانية للمقاومة ومحاصرة تداعياتها وتأثيراتها على الساحة العربية والإسلامية، وهو الأمر الذي بات يفرض على الحركة الإسلامية بشكل خاص وعلى عموم أنصار مقاومة الشعب الفلسطيني تحدي تجديد وسائل وأدوات نصرة المقاومة في الاتجاه الذي يجعلها قادرة على الكسب في معركة السياسة كما كسبت في الحرب. على أن الباحث محمد أبو رمان يطرح تحديا آخر بهذا الخصوص إذ يؤكد أن المقاومة إن لم تنقل نصرها من الحرب إلى ميدان السياسية ، فإن هذا سيكون نقطة إيجابية تستغلها العديد من التنظيمات الجهادية الفلسطينية القريبة من تيار القاعدة ليس فقط داخل غزة (مثل جيش الإسلام وجيش الأمة)، ولكن أيضا في الأردن ولبنان، وسوريا ....، بما يعزز من حركات الجهاد السياسي، ويضعف من الحركات الإسلامية المعتدلة في المنطقة العربية. وينضاف إلى هذا تحد آخر لا يقل أهمية عن سابقيه، إذ ثمة حاجة أكيدة إلى استثمار هذا النصر، واستثمار الجريمة اللاأخلاقية التي ارتكبها العدو الصهيوني للدفع في أطروحة التمييز بين المقاومة والإرهاب، وفي كشف تناقضات الخطاب الغربي، وتبني خطاب حقوقي قانوني هجومي يدفع الغرب إلى إعادة النظر في المعايير التي يعتمدها في تصنيف الحركات الإسلامية إلى جبهة اعتدال وجبهة تطرف، وفتح المجال للتعاطي مع كل الحركات الإسلامية الوسطية من غير وضع معيار تأييد المقاومة كضابط للاستثناء في التعاطي أو معيار للوسم بالتطرف. على أن للأستاذ عبد الله بها رأيا أكثر تفاؤلا في الموضوع، فهو يرى أن العدوان على غزة كان آخر حلقة في فترة حكم بوش التي كانت محكومة حسب نظره بثلاث خصائص، التطرف الديني والتطرف السياسي والجشع الاقتصادي، وأن فشل العدو الصهيوني في تحقيق أهدافه العسكرية سيدفع الإدارة الجديدة لإعادة النظر في أسلوب التعاطي مع القضايا العربية والإسلامية وبشكل خاص القضية الفلسطينية بالشكل الذي يقطع مع ما سماه القوة المفرطة ويتيح الفرصة لدبلوماسية القوة الناعمة التي تتعامل بواقعية مع الحقائق الموجودة على الأرض ومنها المقاومة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في الوجود والعيش الكريم في أرضه في كامل السيادة، وهو ما يطرح على الحركة الإسلامية أن تستثمر الانتصار الذي حققته المقاومة وأن تستثمر التحول الذي حدث في الإدارة الأمريكية وأن تضغط ليشمل هذا التغيير أسلوب التعاطي مع القضية الفلسطينية في الاتجاه الذي يعترف بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة ومواجهة الاحتلال. تحديات الداخل: تحدي الانفتاح على النخب لعل الملمح البارز الذي ظهر مع العدوان على غزة هو الالتقاء الموضوعي الذي حدث بين تيارات الأمة ومكوناتها التي نزلت إلى الشارع للتعاطف مع القضية الفلسطينية، وبغض النظر عن الدوافع التي تؤطر كل مكون من هذه المكونات، وبغض النظر عن المقاربة التي يبني عليها كل مكون تعاطفه مع غزة، فالمؤكد أن هذا العدوان قرب بين هذه المكونات وجعلها تقف على أرضية واحدة رغم اختلاف أطيافها السياسية، بل إن الأمر لم يتوقف عند حدود النخبة السياسية، إنما امتد لنخب أخرى كانت بعيدة أو موظفة أو مصروفة عن هذا الاتجاه، فلأول مرة، تتجسد وحدة الموقف بين النخب السياسية والفنية والاقتصادية النخبة الحاكمة، وهو ما بات يطرح على الحركة الإسلامية تحدي إعادة النظر في علاقتها بمحيطها بما يعزز افتتاحها على هذه النخب في اتجاه تعزيز دعم خيار المقاومة ولوازمه وبشكل خاص قضية مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني بشتى ألوانه وأصنافه الثقافية والفنية والتجارية والسياسية. فحسب الأستاذ عمر أحرشان، فالنصر الذي حققته المقاومة في غزة سيكون له انعكاس إيجابي بالأساس على الحركة الإسلامية، ولذلك فالواجب على هذه الحركة أن تتعامل معه بمنطق بنائي بعيدا عن الرؤية الحزبية الضيقة، بحيث يكون الاستثمار لهذا النصر في اتجاه مزيد من الانفتاح على كل شرائح المجتمع ومكوناته مهما كان خلافهم للحركة الإسلامية، بل يجب يذهب الأستاذ عمر أحرشان بعيدا ويرى أن حجم التعاطف مع خيار المقاومة ومع القضية الفلسطينية يسلتزم من الحركة الإسلامية أن تعزز انفتاحها على كل مكونات الشعب في نصرة القضايا المصيرية للأمة وليست فقط قضية فلسطين. أما الباحث مصطفى الخلفي، فيتتبع مواقف كل من النخبة الفنية والسياسية والاقتصادية والأمازيغية والطائفة اليهودية في المغرب ويخلص في مقاله المعنون ب تحديات ما بعـد العدوان..من تازة قبل غزة إلى تازةوغزة معا إلى أن استثمار الحركة الإسلامية للتحول الذي عبرت عنه هذه النخب في تعاطفها مع القضية الفلسطينية يمكن أن يشكل نقطة تحول فارقة في مسار الحركة الإسلامية المغربية في حالة ما إذا نجحت- بعد نجاحها في كسب القسم الأكبر من النخبة اليسارية- في تعميق هذا الكسب المتحقق وفتح قنوات الاتصال وتقويتها مع كل هذه النخب ، ضمن رؤية تعزز موقع القضية الفلسطينية كقضية وطنية فوق حسابات الاستثمار السياسي أو الحركي أو الأيديولوجي لهذا الطرف أو ذاك. تحديات الداخل: تحدي العلاقة بالشعب والنخبة الحاكمة لقد أظهر التعاطف الكبير مع غزة ومع المقاومة لاسيما في صفوف فئات الشباب فشل كل الرهانات على برامج ومناهج التعليم والتي أريد لها أن تمضي باسم التسامح ونبذ الكراهية إلى فك الارتباط بين المتعلمين وقضاياهم المصرية، وإلى بناء شخصية مهزومة تنبذ خيار المقاومة وتعتبره خيارا عدميا مدمرا، وعلى خلاف هذه الرهانات أثبتت أحداث غزة عمق انتماء هذه الفئة العمرية لأمتها ومركزية قضية فلسطين في وعيها وتطلعاتها، وهو ما بات يطرح على الحركة الإسلامية - بعد ما بدأت بعض الأوساط تتحدث عن حالة أزمة في مستقبل الحركة الإسلامية- أن تجدد علاقتها بهذه الفئة العمرية وأن تدشن مرحلة جديدة من مراحل الصحوة الإسلامية، يكون هذه الفئة عمقها الاستراتيجي.على أن تحدي العلاقة بالنخبة الحاكمة لا يقل أهمية عن هذا التحدي، خاصة وأن أية محاولة لخلق التضارب بين الموقف الرسمي والشعبي من شأنها أن تضر بالطرفين: الحركة الإسلامية والنخبة الحاكمة، وتضر بالقضية نفسها، وهو ما أصبح يتطلب بعد ما ارتفع سقف الموقف الرسمي في هذه القضية إلى مستوى عال من النضج جمع بين ثابت الحفاظ على وحدة الصف العربي، وبين ما يتطلبه الدعم السياسي والإنساني، وهو ما عبر عنه المغرب بشكل رسمي في حضوره لكل من قمة الدوحة والكويت، وما عبر عنه من خلال مبادراته الإنسانية والإغاثية. تقارب في الموقف يتطلب من الحركة الإسلامية أن تلتقط دلالته السياسية في اتجاه منع أي فتيل يفجر العلاقة بين الطرفين أو يشوش عليها، ويمنع حصول أي تضارب في الموقف يمكن أن يستغل لحسابات سياسية ضيقة، وهو ما بات يفرض على هذه الحركة حسب الأستاذ مصطفى الخلفي أن تنتهج خطابا أكثر نضجا يستوعب تحديات المرحلة المقبلة، ويفوت الفرصة على دعاة الانقلاب على ما تحقق من مكتسبات، ويعزز من الموقف الشعبي والرسمي المرتبطة بقضية فلسطين، بما يقوي من خيار الجمع بين العمل لقضايا الأمة وقضايا الوطن وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية في السياسة الخارجية.