محمد يتيم من القيادات الأولى التي شهدت مرحلة التأسيس وتتبعت مسار الحركة الإسلامية من بدايتها الأولى، وكان له إسهام كبير في العديد من التحولات الفكرية والسياسية التي عرفتها الحركة. في هذا الحوار يتتبع محمد يتيم بدقة المنعطفات الرئيسة التي مرت بها علاقة الدولة بالحركة الإسلامية ويرصد العناوين الكبرى لكل مرحلة، ويعزز تحليله ورصده لطبيعة العلاقة بين الدولة والحركة الإسلامية بالعديد من الشواهد والاعتبارات التاريخية: ترى كثيرا من التحليلات التي قاربت أصل نشأة الحركة الإسلامية أن الدولة المغربية في سياق مواجهتها للمد اليساري الراديكالي مكنت للحركة الإسلامية في بداية السبعينات وشجعتها على الامتداد الجماهيري خاصة داخل الأوساط الشبيبة في المؤسسات التعليمية والجامعية. في نظركم ما هي المحددات التي كانت تؤطر علاقة الدولة بالشبيبة الإسلامية ما قبل سنة 1975؟ ينطلق سؤالك من نموذج جاهز في التفسير هو نظرية المؤامرة والقدرة الخارقة للدولة على التحكم في كل شيء. وافتراض نظرية المؤامرة في نشأة الحركة الإسلامية وربطها بإرادة الدولة لاستخدامها في مواجهة اليسار تفسير تبسبطي اختزالي، وفيه تأليه للدولة وكأن الدولة قادرة على كل شيء لا يعزب عن علمها أي شيء، في حين أن الدولة كل دولة هي أضعف وأعجز مما نتصور. الدولة عاجزة على أن تنشئ حركة ثقافية أو حركة سياسية إيديولوجية، وعاجزة على أن تواجه أو تصفي حركة ثقافية أو سياسية إيديولوجية، ولكن بإمكانها أن تستفيد من وجود حركة سياسية معينة أو تتغاضى عنها لتحقيق توازنات معينة. والحقيقة، إن الشبيبة الإسلامية إلى غاية بداية الثمانينات لم تكن حدثا سياسيا أو أمنيا بالنسبة للدولة، بل كانت مجرد جمعية مثلها مثل عشرات الجمعيات المشتغلة في الحقل الإسلامي. ولم تصل في يوم من الأيام إلى مستوى حركة جماهيرية، وإنما توسعت في البداية في أوساط التلاميذ والمدرسين وتدريجيا في أوساط الطلبة. لذلك، كانت العلاقة بين الدولة والشبيبة الإسلامية حسب علمي علاقة عادية وبسيطة. ولم تشكل الشبيبة الإسلامية قوة سياسية يمكن الاستفادة منها في إقامة التوازن السياسي، ثم النظام السياسي وقتها كان يستعد للدخول فيما سمي بالمسلسل الديمقراطي والاستعداد لطرح قضية الصحراء وكانت المعارضة كانت تستعد لإجراء تعديلات جوهرية في خطها السياسي ورؤيتها الاستراتيجية. هل يمكن القول بأنه مع اغتيال عمر بن جلون تغير تعاطي الدولة مع الشبيبة الإسلامية لصالح اعتماد المقاربة الأمنية؟ أم أن الدولة استصحبت ثنائية التوظيف والتحجيم في التعاطي مع الحركة الإسلامية في هذه المرحلة؟ الحديث عن ثنائية التوظيف والتحجيم يفترض وجود هذا التصور القبلي عند الدولة، والواقع أن كثيرا من الأجهزة كانت أقل وعيا من هذا الذي تشير إليه، إذ لم تمتلك بعض الأجهزة آنذاك أبسط الأبجديات المتعلقة بالشعائر والممارسات الدينية ناهيك عن المعرفة بالحركات الإسلامية. والواقع، أن بعض الصحفيين وبعض من يعتبرون باحثين في الحركة الإسلامية يسقطون على هذه الحقبة تصورات أو فرضيات نظرية جاهزة غير ملائمة، والذين كانوا يمارسون خلال هذه الفترة يعرفون أن الأجهزة الأمنية كانت جاهلة بأبسط الحقائق عن تفكير الحركة الإسلامية وأدواتها النظرية، ولم يكونوا يميزون لا بين تبليغي ولا حركي أو سلفي، وان الصورة بدأت تتكون لديهم تدريجيا بغد خضوعهم لدورات تدريبية في الموضوع بل كانت السلطات الأمنية عند توزيع منشور معين يمس بالنظام من بعض أعضاء الشبيبة الإسلامية في بداية الثمانينات تضطر للقيام بمسح شامل من الاستدعاءات والاعتقالات. ومما يؤكد ذلك أنه وقع انفصال جماعي عن الشبيبة الإسلامية في أبريل 1981 وتم تأسيس الجماعة الإسلامية في صيف نفس السنة وفي شهر دجنبر من نفس السنة أو يناير من 1982 تم اعتقال أغلب قياديي الجماعة الإسلامية وتم إيداعهم لدى الفرقة الوطنية للشرطة بدرب مولاي الشريف ودام التحقيق معهم لمدة ثلاثة أشهر على أساس أنهم لا زالوا في الشبيبة الإسلامية التي خطت لنفسها بعد محاكمة 22 شتنبر 1980 خطا جديدا ترجمه صدور مجلة المجاهد وعددها الأول الذي ورد على صفحته الأولى : ياخيل الله أركبي . في هذه المرحلة الثانية لا يمكن إذن الحديث عن التحجيم لأن التحجيم يفترض أننا أمام حركة سياسية منافسة ومربكة للتوازن السياسي ولا عن التوظيف، لأننا لا يمكن أن نوظف شيئا نجهله ولم تكن الدولة في حاجة إلى توظيف الحركة الإسلامية لأنها كانت لها أجندنها السياسية وآلياتها في ضبط التوازنات والمتمثلة في ما كان يسمى بالأحزاب الإدارية وجمعيات السهول والجبال والوديان ووزارة الداخلية بقيادة إدريس البصري رحمه الله ، وكانت هناك شخصية الحسن الثاني وقدرنه على الاستباق والاختراق وضبط الأمور . في تقديركم، هل أحدث التحول الفكري داخل الحركة الإسلامية في اتجاه المشاركة السياسية ما بين مرحلة 1987 و 1990 أي تحول في نظرة الدولة لحركة الإصلاح والتجديد؟ لم تتحول الحركة الإسلامية إلى حدث سياسي وأمني إلا مع بداية الثمانينات، إذ دخلت إلى حيز المراقبة والدراسة الأمنية خاصة مع الانعطاف الذي عرفته الشبيبة الإسلامية، وقد تعزز ذلك مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران ونزوعها في بداياتها الأولى إلى نظرية تصدير الثورة وانتشار الافتتان بها. كلنا يتذكر حدث توزيع بعض المنشورات التي تتهجم على النظام أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي بالمغرب ستة 1984 وكيف كانت غضبة الراحل الحسن الثاني واضحة في خطاب للأمة وإشارته إلى المنشورات المذكورة، مما يؤكد ما قلت سابقا. بطبيعة الحال، كان علينا نحن في الجماعة الإسلامية في هذه الظروف أن نقوم بجهد مضاعف: جهد داخلي في إطار النقد الذاتي والقطع مع السرية والتفكير الانقلابي والتنظير للعمل الإسلامي المدني الديمقراطي وتأصيل فكر المشاركة، ومن جهة ثانية إقناع السلطة بالسماح لنا بالعمل في إطار الأطر الدستورية والقانونية. لكن انتماءنا السابق والسياق العام لم يكن مشجعا، حيث ظللنا في منزلة بين المنزلتين. ولكن أهم عمل تم في هذه المرحلة هو التحول الفكري والمنهجي الداخلي الذي سمي آنذاك بالتوجه الجديد ، ويمكن أن أقول بأن تأثير هذا التحول في موقف الدولة ظل بطيئا وظل موقفها هو الحذر والمراقبة والترقب ، ولذلك ظلت تمانع لوقت طويل في الترخيص للحركة ورفضه الترخيص سنة 1991 لحزب التجديد الوطني . لذلك، يمكن القول أنه بدل نظرية التحجيم أو التوظيف يمكن الحديث خلال هذه المرحلة عن المراقبة والترقب. عرفت سنة 1996 استقرار الحركة على صيغة المشاركة السياسية من خلال العمل في إطار الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية (المؤتمر الاستثنائي) هل كان لهذا الحدث أي تأثير على موقف الدولة المغربية من الحركة الإسلامية؟ . هذه الصيغة كانت إحدى الصيغ التي توقعتها ورقة الرؤية السياسية التي صادق عليها الجمع العام لحركة الإصلاح والتجديد سنة 1988، بعد خطوة تأسيس حزب سياسي قائم بذاته. ويبدو أن السلطة وجدت في هذه الصيغة مخرجا من مأزق عدم الاعتراف ورفض استقلال الحركة بحزب قائم بذاته، وبين حقيقة أن هناك تحولات فكرية وسياسية حقيقية واقعة في الحركة ومواقفها الصريحة نظرا وعمليا من الملكية وإمارة المؤمنين ومن العنف ومن الخيار الديمقراطي. ويمكن القول إن فكرة المراقبة والترقب قد أثمرت دوائر القرار اقتناعا بضرورة الانتقال إلى مستوى ثان من التعامل وهو عدم الاعتراض على انخراط جماعي للحركة في الحركة الشعبية الدستورية، خاصة وأن الملك الراحل كان معنيا بترتيب أمر انتقال الحكم إلى خلفه وضمان كل الشروط لذلك، وفي نفس السياق جاء ت تجربة التناوب وجاء الانفتاح على الحركة الإسلامية وتزكية هذا التوجه في بداية عهد محمد السادس، و كان هناك سعي للتحاور مع العدل والإحسان واستدعاء للدكتور أحمد الريسوني لإلقاء درس حسني. المشاركة السياسية في إطار الحركة الشعبية الدستورية هو إذن مرحلة من مراحل تطور موقف الدولة من الحركة الإسلامية أي الإدماج المتدرج المحكوم أصلا بسياق سياسي معين، هو سياق انتقال السلطة ثم بعد ذلك الآلية العامة المتحكمة في النسق السياسي المغربي أي هو سياق المحافظة دوما على التوازن وضبطه وهي الآلية التي يبدو أنها تستخدم اليوم لتحجيم الحزب والاتجاه إلى آليات جديدة للضبط من أسفل أي الضبط غير المباشر وليس السعي للضبط المباشر أو الضغط عليه من أعلى. هل يمكن القول إن موقف الدولة قد انتهى إلى مراجعة إستراتيجية الإدماج المقدر لصالح التعامل مع الفاعل السياسي الإسلامي كباقي مكونات الخريطة السياسية المغربية؟ كان التوجه العام يسير في هذا الاتجاه لكن تنبغي الإشارة من جديد أن الدولة ليست كيانا واحدا ستاتيكيا بل هناك بعض المواقف غير المتجانسة، ومن قد يكون له موقف متحفظ أو معارض لتطبيع العلاقة مع الحركة الإسلامية، وهذه المراكز لها امتدادات ونفوذ في بعض الأوساط الإعلامية واستطاعت أن تستقطب بعض قدامي المناضلين المتساقطين الذين أصبحوا يحسون بمنافسة الحركة الإسلامية لهم على مواقعهم وامتيازاتهم وبالتالي فهذه الجهات ما فتئت تستغل كل مناسبة للتشكيك في نوايا الحركة الإسلامية المعتدلة والدفاع عن الطرح الاستئصالي. لكن أعتقد أن الدولة بطبيعتها لا يمكن أن تنجرف إلى المقاربة الاستئصالية الشاملة، فالدولة المغربية بهذا قد تصبح رهينة فئة معينة وقد يأتي الزمن الذي تستأسد فيه على الدولة نفسها. الدولة حسب رأيي لا تزال وفية لمنطقها القائم على ضبط التوازن وإن كانت الأساليب تتغير من مرحلة لأخرى. وفي هذا السياق أفهم تأسيس حركة لكل الديمقراطيين بمشروعها من حيث أن هناك رجوع إلى الآليات التي اعتمدتها السلطة لضبط التوازن من خلال الضبط من أسفل بدل التحكم من أعلى، أي منطق المنافسة في الساحة السياسية، وكان من الممكن تقبله لولا أن أصحابه يستثمرون رأسمالا رمزيا هو القرب من الملك أو تنفيذ رغبة الملك ومخططات الملك. نحن اليوم ربما نوجد في منطق إعادة صياغة الخريطة السياسية لفائدة تكريس مقاربة تحجيم موقع الحركة الإسلامية في المعادلة السياسية وليس في منطق الاستئصال. و موقع التحفظ هو اقتناعنا أن التطور السياسي والفكري الحاصل في المغرب، وتبلور إجماع أو شبة إجماع على الثوابت والمقومات الأساسية للدولة قد أصبح يغني ويعفي من أساليب الضبط المتحكم فيها والتي يجري إخراجها أحيانا بطريقة رديئة تفقدها أية جدوى، بسبب توسع دائرة الوعي السياسي ودائرة الحذر والتشكك في كل المبادرات السلطوية والفوقية.