لم تكتب للسياسات الاجتماعية المتعاقبة فضيلة التوقف الفلسفي والمعرفي والتأملي للترسانة والأجهزة المفاهيمية التي تقود برامجها نحو الأهداف الموضوعة، وعبر المناهج والمسالك المعتمدة والخرائط الكمية والنوعية المتوقعة، بل حتى القوانين التي تم التنصيص عليها لحماية هذه السياسات من عدم الأجرأة والفعل والتنزيل كانت حيادية إلى درجة السلبية، حيث وقفت أحيانا موقف المتفرج أمام المعادلات الإنسانية الصعبة ولم تستطع، رغم حجيتها القانونية وقوتها المسطرية، أن تربط السبب بالنتيجة، وأن تصنع عالما غير افتراضي تتحقق فيه جميعُ المطالب والحقوق، حتى الروحية والنفسية، وتتكامل معه السياساتُ بالقوانين والمخططات والآفاق والتنمية بشكل عام؛ فوجود فئات مجتمعية في وضعية هشاشة أو إقصاء أو فقر واحتياج، ومعها بالضرورة، حسب الاختيارات الاستراتيجية والأولويات الحكومية، سياسات اجتماعية مقابلة وموازية، وبرفقتها قوانين تفصل بين حقوقها وواجباتها، لا يمكن بالضرورة أن يقيم جهازا تواصليا وتفاعليا بكافة مكوناته وعناصره السببية والغائية، نظرا إلى عدم انسجام وتناغم الأجهزة المفاهيمية لأدوات الاشتغال، والحب الأعمى في إقرار قوانين وسياسات وتدابير تتهيب أولا ترصدات الشركاء خارج الحدود أكثر من هواجس وانتظارات الفئات والفرقاء الاجتماعيين داخل الحدود، حيث يصير لمفهوم التكفل بالغير Prise en Charge -المنتظم داخل ما يسمى بمؤسسات الرعاية الاجتماعية، تحت أعين قوانين الترخيص والفتح والتدبير، والمحتضن للفئات ذات الاحتياج المشهود- أكثر من إشكالية وتأويل في المعرفة والفهم والتحديد والتنزيل السليم؛ وفي مقدمة ذلك إشكاليات الاستهداف Ciblage والأثر الاجتماعي Impact Social التي تعطي لزاما لقانونه روحه الإنسانية ولسياسته الاجتماعية مصداقيتها ونجاعتها ونفعيتها للمجتمع الذي تتقلص فيه مؤشرات الخصاص أكثر من الدوران في الحلقة التنموية المفرغة. إن الجهاز المفاهيمي للاستهداف المرتبط عضويا بالأثر الاجتماعي يطرح، نظريا وأخلاقيا وواقعيا، أسئلة متناسلة حول الفئات التي تشملها برعايتها هذه المؤسسات التي تتكفل بالغير، وهل هي فئات من المحظوظين المشمولين بالوسائط Pistonnés، أو فئات من الدرجة الثالثة والثانية أو الأولى التي تستحق شارة المرور دون تأشيرة مسبقة؟ الأكيد أن القوانين الموضوعة إلى غاية شتنبر 2007 تحدثت عن لحظة إيجاد وميلاد هذه المؤسسات وشروط فتحها وتدبيرها، وانتهت عند الخدمات المقدمة داخل هذه المؤسسات، سواء كانت تعنى بالأطفال المهملين أو الأشخاص في وضعية صعبة أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو المسنين بدون عائل أو المشردين والمتسولين، لكن حلقاتها القانونية ومعها الإنسانية ظلت مبتورة، في حاجة إلى أوصياء وشركاء يعيدون تجميعها وتناغمها، وهو ما بدا صعبا في مرحلة ما قبل البداية، أي الاستهداف، ومرحلة ما بعد النهاية، أي الأثر الاجتماعي. وخصوصية هذه المؤسسات أنها ليست مفتوحة للعموم، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولا يمكن أن تخصص لها اعتمادات ودعم من المال العام، كما هو الحال بالنسبة إلى صندوق المقاصة، ليستفيد من خدماتها ومخصصاتها الجميع، المحظوظون بالوسائط والفئات من الدرجة الثالثة والثانية قبل الأولى؛ فالاستهداف، الذي كان يجب أن يكون من ضمانات الدولة وفق روح الدستور الجديد، وآلية حكومية تنبني على جوهر السياسة العمومية التي لها أخلاق وتترك للخصوصية الجهوية والمحلية هامش التقدير والاجتهاد وحتى المناورة المحمودة، يتأسس اليوم على وجوه متباينة، وأحيانا متنافرة يختلط فيها الفطري بالعشوائي بالارتجالي بالسياسوي، وتتعايش في حضنه الفئات المستهدفة مع غير المستهدفة من الدرجة الثالثة والثانية ودرجة الوسائط، في غياب معايير محددة للاستهداف وأدوات وآليات دقيقة للانتقاء؛ فالأشخاص المسنون بدون عائل يقتسمون فضاءاتهم مع أشخاص مسنين بعائل متنكر رغم صراحة وسلطة وقوة القانون في هذا الجانب، والأطفال المهملون أو المنحدرون من الأسر الفقيرة ينامون جنبا إلى جنب مع أبناء الفئات القروية شبه الميسورة التي لها فقط مشكل المؤسسات التعليمية البعيدة عن بواديها، والنساء في وضعية صعبة يقتسمن الفراش الجماعي مع نساء لم تصل أوضاعهن الاجتماعية والنفسية إلى مرحلة الذروة في الصعوبة، والأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة تجمعهم الإعاقات المتشابهة أو المختلفة وتفرقهم الإمكانات المادية الأسرية المتفاوتة، حتى تكاد الفئات المستحقة من الدرجة الأولى لا تزيد على ربع الفئات المشمولة بالخدمات من الدرجة الثانية والثالثة ودرجة الوسائط، هذا ناهيك عن إسقاطات فئات الدرجة الأولى التي هي في قوائم الانتظار، أو ربما هي في واقع الأمر مهملة عن قصد، ومنسية في الشوارع والبيوت الهشة تنتظر فرصتها الذهبية للانضمام، قبل غيرها من المزاحمين، إلى ملجأ هذه المؤسسات. والخلل يكمن هنا في علمية آلية الاستهداف المعطلة رغم دراسات الجدوى ولجن الإيواء وبرامج عقود العمل والأهداف العامة والخاصة والأحياء والأسر المستهدفة والأولويات الاجتماعية والترابية، لأن اعتبارات سيئة يتداخل فيها السلطوي بالخيري بالسياسي بالتدبيري بالتأطيري تكون حائلا ضمنيا أو صريحا لجهة الاستحقاق، ويغيب عنصر الفقر الذي على درجات، وعنصر الاحتياج المتفاوت بين الأقسى والأخف، وعنصر الإعاقة المعدمة والإعاقة الخفيفة. ولو كانت منظومة الاستهداف قائمة وملزمة لكل الأطراف، ومضمنة ومصادق عليها بكناش التحملات، بمساطرها وآلياتها وأدواتها وغراماتها كذلك، تبحث بين الفئات المرشحة للاستفادة من خدمات هذه المؤسسات عن الفئات من الدرجة الأولى في الفقر ومن معه، لتحركت عجلة التنمية، وبدأت مثالية محاربة الفقر والهشاشة تأخذ مكانها الطبيعي في المواجهة وتقليص المؤشرات السلبية التي تحرج وتضايق البلاد في الداخل والخارج. والأكيد أنه حتى الفئات من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة هي في حاجة إلى احتضان ودعم ومواكبة بالنظر إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الهشة للبلاد، والتي من المرشح أن تلج إليها مرغمة الطبقة الوسطى مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية العالمية وأزمة منطقة اليورو الشريك الأول للبلاد، لكن سلم الأولويات في محاربة الهشاشة القصوى يستلزم تقديم الفئات التي ليس لها دخل أو عائل، أو التي تعيش أوضاعا اجتماعية فوق الصعبة قبل النظر إلى الفئات الأخرى الأقل عيشا في نمط الصعوبة والاحتياج. غير أن هذا الاستهداف، بعدالته وإنصافه ودقة اختياره، لا يمكن أن يكون غاية في حد ذاته، لأن الغرض منه في البداية والنهاية إعطاء الحق لمن يستحقه، وفتح الطريق أمام فرص التربية والتكوين والتأهيل والاندماج في نسيج الحياة العامة دون صعوبات أو إكراهات أو عراقيل؛ فالشخص المسن يجب أن يعود إلى دورة الحياة الإنتاجية وإلى حميمية الجماعة بمعناها الأسري الصغير والكبير، والطفل المهمل يجب أن يجد بديلا للأسرة المفقودة ينشأ فيه على قيم الانتماء والمواطنة، والمرأة في وضعية صعبة تحصل على مورد كرامتها قبل رزقها لاستئناف مسيرة حياتها الخاصة والعامة، وذو الاحتياجات الخاصة يصنع لنفسه، وبتحفيز مجتمعه المحلي، تعويضا لسنين حرمانه للمساهمة في صناعة مستقبله ومستقبل بلاده، والشابة أو الشاب المنحدر من الأوساط الفقيرة يشد على فرص إدماجه السوسيو مهني كي يعود أثر ذلك على نفسه وعلى أهله الفقراء. وهذه هي دورة الحياة الطبيعية التي تجيب عن أسئلة الأثر الاجتماعي الذي يبقى عنصرا شبه غائب في فلسفة كثير من مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تؤوي المستفيدين من خدماتها بعقد عمل يبتدئ في التاريخ كذا وينتهي في التاريخ كذا، وليس بعقد أبوة وأمومة أكبر في روحه من قوانين ومساطر وأنظمة المؤسسة. وهذا يظهر، للأسف، في كثير من المؤسسات التي يبتر فيها المسار التعليمي أو التكويني لأبنائها بحكم التخصص المجحف في السن أو الفئة الاجتماعية والترابية، وتضيع فرص الإدماج والأثر الاجتماعي في غيبة نظام تراتبي وتفاعلي وتكاملي للمؤسسات المحتضنة لهذه الفئة من الشباب. ولعل الأثر الاجتماعي بهذا الشكل سيصير مشوها أو بدون وجود رغم ما استنزفه الاستهداف والإيواء والتكوين والخدمات الاجتماعية والصحية الموازية من طاقات مادية وبشرية ساهمت فيها الدولة بمختلف مكوناتها والمجتمع المدني بنصيب أوفر على حساب مناحي أخرى في تنمية البلاد. غير أن هذه النماذج السيئة التي تهدر الطاقات البشرية والمادية لا يمكن أن تكون لوحدها القائمة في تجربة هذه المؤسسات، حيث يجب الاعتراف بإيجابية النماذج الأخرى التي كان لها أثر تنموي في تسيير دواليب الإدارة والرقي بعجلة الاقتصاد والمساهمة المميزة في مجالات الفنون والآداب والرياضات والمعارف والكفاءات المختلفة، غير أن تقلص الأثر الاجتماعي الإيجابي بمختلف هذه المؤسسات في الوقت الراهن يجعل كل المبادرات المتخذة من قوانين واعتمادات وبرامج ومواكبة موازية غير ذات قيمة أو أهمية؛ فلا بد من وصول هذه المؤسسات إلى محاربة الهدر المدرسي، والإدماج السوسيو مهني والاقتصادي، وتكريس مبادئ وقيم تكافؤ الفرص، والانتقال السلس بين المسارات التعليمية والتكوينية، وعودة دورة الحياة إلى الأشخاص المحكومين بالعزلة والإقصاء، وهذه مهمة تشاركية، من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والتعاقدية، بين الدولة والمجتمع، لإعادة التوازن لغير المحظوظين، وضمان شروط أفضل لمنظومة الاستهداف والأثر الاجتماعي، وتحقيق إقلاع جديد يكون فيه لهذه المؤسسات دور القاطرة في التنمية المحلية إلى جانب الأوراش الاقتصادية والاجتماعية الكبرى والصغرى للبلاد.