سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أدونيس:النخب السياسية جاهلة والميت هو الذي يُسِّير الحي في العالم العربي الشاعر السوري الكبير يؤكد ل« المساء » بأن أسوأ كابوس أن تمارس الثورة القائمة أعمالا أشد وحشية من أعمال الطاغية الذي تثور عليه
- في البداية، لا بد أن أتوقف معك عند دلالة الاسم، فالكثير من قرائك ومحبي شعرك وأدبك وفكرك يتساءلون عن دلالة الاسم، وسر الانتقال من الاسم الرباعي، علي أحمد سعيد إسبر، إلى اسم العلم المفرد أدونيس. في رأيك ما دلالة هذا الانتقال؟ وما أثره على منظورك للفعل الإبداعي عامة؟ في البداية، لم أكن أعي دلالة هذا الانتقال ولا حمولات هذا الاسم، لكن في ما بعد أخذت أكتشف أنه، أحيانا، عندما يكون الانتقال تلقائيا وبسيطا قد يكون مقبولا، خصوصا إذا كان ذلك يدخل في إطار التنوع والتعدد والانفتاح على الآخر، حضاريا وإنسانيا، وبالتالي رأيت في تسمية أدونيس ما يحقق هذه التعددية في الوحدة. وهكذا أضيف إلى الاسم العربي الذي أحمله، والحافل بمرجعيته التاريخية الكبيرة والواضحة، اسم آخر يحتفل بمعنى التعددية والتنوع الحضاري والثقافي. بمعنى أني اتخذت اسما واحدا يشتمل على تعدديات ثقافية وفكرية وحضارية مختلفة. - هل استطبت الإقامة تحت الاسم الجديد «أدونيس»؟ وهل كان له أثر مباشر على عملك الإبداعي؟ أنا أعتبر، دائما، أن أجمل شيء ألا يكون لك اسم. فمتى سميت حددت، وإذا حددت اختزلت. إنما الجانب العملي من الحياة يدفع ويرغم على التسمية، وكل شيء، طبقا لذلك، لا بد له من اسم. وهذا في حد ذاته نوع من الحجاب. لكن يكفي أن تقيم جدالا بين المسمى واللايسمى حتى لا يستوعب الاسم المسمى، لأن المسمى دائما أوسع من الاسم. - وهل استطعت الإفلات من هذا الأثر للاسم؟ مرجعية «أدونيس» مرجعية كنعانية بالأحرى، والمرجعية الكنعانية هي مرجعية سامية، إذا ما سلمنا بهذه التسميات. لكن أدونيس تخطى مرجعيته، ودخل كشريان في جسم الحضارة الكونية، وقد أخذ من اليونان، ومن ثَمّ جرى بثه في جميع أنحاء العالم. وهو، كاسم، أهم بعد فيه أنه يجمع بين ما يرى وما لا يرى، ويجمع بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، بمعنى توحد في البعدين. بصدد تجربتك الشعرية، ومنذ «أغاني مهيار الدمشقي» وتجارب مجلة «شعر» و مجلة «مواقف» وما تلا ذلك من أثر شعري كبير تجاوز، ما بين المجموعات والكتب الشعرية، أكثر من 50 عملا، زيادة على ترجمات كثيرة إلى اللغات العالمية الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها... هل بعد هذا المسار تبدو مقتنعا بتجربتك وراضيا عنها، أم أن هناك هوامش أخرى للكتابة والإبداع ما تزال تنتظرك، وتعمل على ملء فراغاتها؟ - في رأيي، هذا هو سر الشعر. ذلك أنه يستحيل على الكلمة أن تكون أكثر وأوسع. إنها في مجال معين ومكان مخصوص تسمي لا الشيء في المطلق، ولكن تسمي جانبا من الشيء. لأننا لو تصورنا أن الكلام يستنفد الأشياء، ويستنفد العالم، لكان العالم انتهى. ومن هنا خطر الإيديولوجيات، وخطر الأديان المؤدلجة، لأنها تقدم نفسها على أنها تقول قناعتها الأخيرة، وحقيقتها المطلقة والنهائية، بينما الشعر بقدر ما يسمي الأشياء، يشعرك بأن هذه الأشياء لا تزال في حاجة إلى تسميات جديدة. وإذن، فالعالم مفتوح إلى ما لا نهاية، بينما هو، في الإيديولوجيات وفي الأديان، عالم مغلق إلى ما لا نهاية. وعلى هذا المستوى، فالشاعر، مهما كتب ومهما أوغل في التعبير عن الأشياء في كتابته، يأخذه شعور بأنه لم يقل شيئا بعد، أو لنقل إنه يشعر بأن ما يحلم به وما يحلم أن يقوله لم يقله بعد. ولذلك من يرض عن نفسه يفقد شعره ونصه. - في تجربتك الشعرية التي اخترت لها عنوانا دالا «الكتاب» محاولة لإرسال إشارة ما، ف»الكتاب»، كعنوان بمرجعيته العربية الإسلامية، يرتبط عندنا بنص معروف، الذي هو القرآن الكريم، هل كنت بصدد إنجاز نصك الكبير، وأنت تضع نصب عينيك هذا النص؟ تجربة «الكتاب» داخل تجربتي الشعرية والفكرية هي تجربة على حدة. فأنا أعتقد أن تاريخنا الثقافي العربي مكتوب بطريقة غير دقيقة، وبطريقة لم تعد مقنعة. لذلك كان لا بد من مراجعة كل هذا وإعادة النظر فيه. وحتى الآن مر على تاريخ الدولة الإسلامية حوالي 15 قرنا، ولا نجد إلا تاريخا واحدا، أو مؤرخا واحدا يعيد النظر في الأحداث التي طبعت هذا التاريخ الضخم. فجميع من كتبوا عن هذا التاريخ، كتبوا انطلاقا من مسلمات لا يطرح عليها أي سؤال. وحين تنطلق من مسلمات جاهزة لا تطرح عليها أي سؤال، فكأنك لا تعمل شيئا. المؤرخ والمفكر والكاتب والشاعر الحقيقي هو الذي يبدأ من إعادة النظر جذريا في كل شيء. ومن المؤسف أننا في حياتنا المعاصرة ننتج مسلمات كل يوم، ولدينا، كعرب، مسلمات كثيرة لا زالت تفعل فعلها حتى الآن في حياتنا اليومية. فعندنا معتقدات وقناعات لا يطرح عليها أي سؤال، رغم أنها توجه حياة الآخرين. وهذا متحقق وسائد حتى في حياتنا السياسية. وقلما نجد شعبا، في التاريخ المعاصر، مثلما نجد عند العرب، اليوم، يسيّرهم عمليا وعلى جميع المستويات ما نسميه بالماضي. وهذا يعني أن الشيء الذي مات هو الذي يسيّر الشيء الحي. وحسب ذلك، نحن غير موجودين لأن الماضي هو الذي ينوب عنا في حاضرنا ويتكلم بدلا عنا، وبالتالي إذا لم أستطع أن أزلزل هذا الواقع على جميع المستويات، أكون قد فشلت في مهمتي. وكتاب «الكتاب»، كمشروع، يدخل في إطار إحداث هذه الزلزلة. طبعا، هذا يحتاج، للأسف، إلى أكثر من طريقة في الكتابة، لكن هذا إسهام أرجو أن تتبعه إسهامات أخرى، وأرجو أن تكون إسهامات غيري من المفكرين ومن المبدعين العرب أكثر جدية في هذا المسار. - هل أحسست أن مشاريعك الثقافية والفكرية تم استيعابها من طرف الوسط الثقافي العربي ومن النخب السياسية والمجتمعية، أم كانت مجرد صيحة في واد؟ للأسف، لم يتم استيعاب الكثير من طروحاتي الفكرية أو التجاوب معها من طرف النخب الثقافية نفسها. أما عن النخب السياسية العربية، فأقول إنها لا تقرأ. النخب العربية السياسية، مع الأسف، يمثل هذا آخر اهتماماتها. فأنا لا أجد في النخب السياسية في البلدان العربية سياسيا واحدا يعرف كيف يدبج خطابا ويوجهه إلى شعبه. ولهذا أقول إن السياسة في العالم العربي سياسة جاهلة، فلم توجد لدينا سياسة لها علاقة بالثقافة، لأن هذه الأخيرة سياسة ذكية وفعالة في بناء المجتمع، بالتأسيس لحضارة جديدة، وبمشاركة الإبداع الكوني. وعليه، إذا نظرنا، من هذا المستوى، فإن نخبنا السياسية نخب جاهلة بامتياز. - لكن المشاريع النهضوية، التي عرفها العالم العربي منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، كان يقودها رجال سياسة بالدرجة الأولى؟ في الحقيقة، كان يقودها رجال فكر في المقام الأول، ففي مصر وفي لبنان كان المفكرون هم من يقود المشاريع النهضوية، والسياسي الوحيد الذي حاول أن يصنع لحظة سياسية فارقة في الوطن العربي كان هو محمد علي. وقد أسس محمد علي دولة حديثة، ومع ذلك بعد حوالي 150 أو 200 سنة انتهت مصر إلى ما تعيش عليه الآن. وهذا راجع إلى أن محمد علي، الذي أراد أن يفتح العرب على الحداثة فقط، نجد أن مشروعه النهضوي لم ينجح في التأسيس للدولة الحديثة، فمصر، اليوم، تدار بعقلية تقليدية دينية ضيقة. - في هذا الصدد، ما هو معروف عنك، هو موقفك المتحفظ من الثورات العربية، أو ما يعرف بالربيع العربي. عَلاَمَ بنيت هذا الموقف، أم أن القراءة الدقيقة لمشهد الحراك العربي خانتك في هذه اللحظة التاريخية؟ ما قلته عن الربيع العربي لم يكن كلاما عاما، فقد أثبت صحته ما تعيشه بلدان الربيع العربي يوميا. ولذلك، لا بد، حتى لا يساء فهمي، كما يحدث عادة، أن أوضح أنه لا اعتراض لدي على حق الإنسان في أن يؤمن بما يشاء، لكن هذا الأمر يجب أن يظل شخصيا وفي إطار تجربة فردية، أي أن يؤمن من يشاء بما يشاء، وهناك جملة مأثورة تأخذ معناها الحقيقي في هذا السياق، والتي تقول: «لا إكراه في الدين». غير أني ضد أن تسيطر العقيدة الفردية، حيث تفرض على مجتمع بكامله. فهذا يعتبر عدوانا على حريات الأفراد الآخرين، ويصبح نوعا من الإكراه. فكما أنه من حق الإنسان أن يؤمن بما يشاء، وكما يشاء، عليه أن لا يفرض ما يؤمن به على الآخرين. ولذلك، فإن من بين الأشياء التي يجب أن تكون مصانة هي حرية المعتقد، فإذا لم يكن المجتمع يؤمن بالحرية، يكون مجتمعا منتجا للدكتاتوريات في السياسة وفي شتى مناحي الحياة. وعليه، يجب أن لا يكون للدين دخل في الممارسات التي هي من طبيعة ثقافية أو فنية، فالدين مسألة شخصية، ويجب أن نحترمه وندافع عنه من هذا المنظور. وفي هذا الإطار قلت إنه لا يمكن لي النزول إلى تظاهرة تخرج من الجامع بشعارات سياسية، وأنا لا زلت على هذا القول، فأنا ضد أن تكون الدولة دينية، وبديلي هو دولة اجتماعية وإنسانية وثقافية. - هل تعتقد أنه تم السطو على حركات الربيع العربي من قبل قوى معينة، هي التي توجد اليوم في السلطة؟ أظن أن قسما من المثقفين العرب ومن النخب الفكرية في الوطن العربي راجعوا آراءهم ومواقفهم وصاروا أقرب إلى رأيي وموقفي مما آل إليه الربيع العربي. لقد بينت التجربة أنك لما تثور على نظام طاغ، فأنت مطالب بأن تقدم مقابل هذا الطغيان قيما ومسلكيات جديدة، وأخلاقا أخرى، وعقلية منفتحة، وتؤسس لاحترام الإنسان، كما تؤسس وتثور على كل ما كان هذا الطاغية يمارسه. أما أن تقوم بثورة، وتمارس أعمالا أشد سوءا من أعمال الطاغية الذي تثور عليه، فهذا هو الأسوأ. لقد رأينا كيف تم الاستخفاف بالحقوق وابتداع طرق قتل وتعذيب وتنكيل من قبل هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الثورات. لقد تم الإجهاز على الإرث الحضاري، فما ذنب تدمير متحف، بني بأموال الشعب وبكده وألمه وتعبه؟ ما معنى تدمير حصن تاريخي هو جزء من الهوية التاريخية العربية وشاهد على تاريخ طويل. - مثل ما حدث مع تمثال أبي العلاء المعري، الذي قطع رأسه... ما معنى هذا؟ إن الإجهاز على تمثال وقتل شخص مقتول مرة ثانية واقعة أكثر من مأساوية. وواقعة قطع رأس أبي العلاء المعري وغيرها من أعمال، أثرت إلى حد كبير في أحكام الذين تسرعوا من المثقفين والمفكرين العرب، لكنهم لا يستطيعون أن يدينوا أي عمل من هذه الأعمال التي تتناسل يوميا في بلدان الربيع العربي تلك. لم يصدر أي بيان يدين هذه الأعمال، وهذا يدل على أن هناك عنفا يقود الحركات الثورية، وهو عنف مفروض على الجميع، ولا يستطيع أحد أن يقول في وجهه لا، وكأننا بطغيان يثور على طغيان آخر. - اليوم، تبدو مواقفك من الموضوع السوري محل جذب لعدد من الذين كانوا يتهمونك جهرا بموالاة النظام. كيف تقرأ هذا التحول في المواقف؟ (يضحك) صاروا ميالين إلى رأيي. - هل بسبب المعطيات المستجدة على الأرض؟ لا، الأمر لا يعود إلى هذا السبب وحده. لقد تبين بأن الثورة التي تقوم ليست كذلك، وأنه لا توجد استقلالية في اتخاذ القرار من طرف هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم الثوار. كما تبين أنه لا يمكن أن تقوم ثورة بأياد خارجية. زيادة على أن قيادات الخارج هي التي تهيمن. كما ظهرت أشياء أخرى، من بينها، مثلا، أنه كيف لإمام أو شيخ، من واجبه أن يدافع عن استقلال بلاده وبلاد المسلمين، أن يدعو الدول الأجنبية إلى التدخل علانية في شؤون دولة إسلامية أخرى. - هل الضربة الإسرائيلية على سوريا خلطت أوراق الثوار وخلقت واقعا جديدا على الأرض؟ أظن أن الضربة الإسرائيلية أثرت كثيرا. لقد كان النظام يتهم بأن له تحالفا موضوعيا مع إسرائيل، لكن الضربة كشفت أن الثوار كان لهم، أيضا، تحالف موضوعي مع إسرائيل. وباختصار شديد، ليست هناك، قضية أخلاقية أو معرفية لهذه السلط المتصارعة، وإذا تبين أن هناك صراعا بين سلطة تريد أن تحل محل أخرى، فالإنسان وحقوقه وتحرير المرأة وحقوقها كاملة هي آخر انشغالات هذه السلط المتصارعة. - بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تأليفك «الثابت والمتحول»، هل ما تزال تؤكد على أن بنية المحافظة هي المستحكمة في المجتمعات العربية صالحا للتحليل؟ في أي بلد عربي نجد أن لدى الأفراد ميولا إلى التحول والتغيير، بينما المثقفون لديهم ميول إلى الثبات. وبالتالي، فإن معيار تعلم الأفراد ليس معيارا للتقدم، ولو كان ذلك صحيحا لكان لبنان في المقدمة. إن المعيار هو المؤسسة، وما لم تتغير مؤسسات المجتمع فلا تحول سيحدث. وما دامت كل المؤسسات في المجتمعات العربية مؤسسات تقليدية، وذات بعد ديني، فالمجتمع لا يمكن أن يتغير، مهما كثر عدد المتعلمين فيه. ولذلك فإن البداية يجب أن تكون بالتغيير المؤسسي، أما الاكتفاء بتغيير الأنظمة والسلط، فإنه يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية. ولذلك، بدون تغيير المجتمع لا معنى للثورة. وكتابي «الثابت والمتحول» يوضح هذا منذ عقود، بكل التفاصيل. - في مسارك الإبداعي رافقك منبران، الأول هو مجلة «شعر»، والثاني هو مجلة «مواقف» التي احتجبت عن الصدور سنة 1994 بعد ثلاثة عقود من الصدور. هل تعتقد أن المثقف صاحب المشروع يحتاج إلى ذراع إعلامي ليتواصل ويؤثر في محيطه وجمهوره الثقافي؟ الأمر ملتبس كثيرا، فما تقدمه وتدعمه وسائل الإعلام والتلفزيون قد لا يساهم، بالضرورة، في خلق الكتاب أو المبدعين، وقد لا يكون لوسائل الإعلام تلك تأثير كبير. فمثلا هناك كتب تبيع مئات الآلاف من النسخ لكتاب لا تأثير لهم، بخلاف كتب تطبع في بضعة آلاف من النسخ، لكن لها تأثيرا كبيرا على الفكر الإنساني. وإذن، فالمسألة الإعلامية شيء والمسألة الإبداعية شيء آخر. فكتب جيل دولوز تطبع بكمية محدودة على سبيل المثال، لكن تأثيرها سيظل حاضرا على مدار تاريخ الإنسانية، بينما بإمكان أي كاتب روائي عادي أن يطبع بالآلاف، وتعاد طباعة كتبه عشرات المرات، لكن الذي يخلق الوعي الثقافي هم أمثال جيل دولوز ودريدا، وليس أمثال هؤلاء الروائيين. - هل هذا يدخل في إطار البروباغندا التي توفرها آلة الدعاية الإعلامية اليوم؟ طبعا، الآلة الإعلامية تشتغل بمنطق مختلف. وأذكر أنه قبل أكثر من ثلاثين سنة، وقعت لي واقعة طريفة مع كتاب النفري «المواقف والمخاطبات». هذا الكتاب الذي بقي منذ القرن الرابع الهجري مهملا، ولم ينتبه إليه أحد، حتى جاء المستشرقون ولفتوا انتباه العرب إلى جانب من تراثهم الثري والمضيء نالا وهو التراث الصوفي، فكان أن بدأت حياة نصوص صوفية مغمورة وغير معروفة مرة أخرى لتعيش في الزمن. وأذكر أني قرأت أن نسخة من «المواقف والمخاطبات» كانت موجودة بالمكتبة الجامعية الأمريكية في بيروت، لم تستعمل ولا مرة واحدة ما بين 1945 و1965، وكأن الكتاب غير موجود ضمن رفوف المكتبة. وعندما قرأت هذه الملاحظة لم أصدق ذلك أبدا. ومن 1965 إلى الآن، عندما أعدت الاهتمام بهذا النص وتقديمه للقارئ العربي، صار كتاب النفري هذا، الكتاب الأكثر مبيعا في العالم العربي. وقد استنتجت الخلاصة التالية: ليس مهما أن تبدع كثيرا، بل المهم أن تبدع شيئا متميزا وفريدا. - لماذا أوقفت مجلة «مواقف»؟ هل بسبب اليأس من الحالة الثقافية العربية العامة، أم لأسباب أخرى؟ أريد أن أشير، وهذا كلام أكشف عنه لأول مرة، أن مجلة «مواقف» لم يتم إيقافها لأسباب مادية، فقد كانت المجلة تباع بشكل جيد، ومرتاحة ماليا، لكن السبب يعود إلى مشكل ثقافي بالأساس. فقد كنا في فريق المجلة بصدد إنجاز عدد خاص عن الإسلام والمرأة، وحين استكتبنا عددا من الأسماء الثقافية في العالم العربي، لم نجد من يساهم معنا في هذا الملف. كان الأمر مخيبا لنا، ذلك أنه لم يتجرأ أحد على هذا الموضوع. آنذاك قلت إنه لا حاجة لنا بهذه المجلة، فماذا تجدي «مواقف» إذا كانت لا تستطيع أن تطرح موضوعا من صميم الثقافة العربية، وبالأخص موضوع حرية المرأة، وإذا كانت لا تجد من يساندها من الكتاب ومن المثقفين الذين ألفوا المساهمة في أعدادها. - هل كان قرار الإيقاف احتجاجا على الوضع الثقافي العربي المحترب؟ طبعا، هذا ما كان. لقد بدا واضحا أن المثقفين العرب محروسين بجيش من الرقباء، أقساهم الرقابات الذاتية. فعندما تسكن عقل المبدع سلطة الرقابة كيف سيبدع ومن أين له ذلك. الكاتب العربي يعيش تحت طائلة رقابات كثيرة، من الرقابة الاجتماعية إلى الرقابة الذاتية، وصولا إلى رقابة الدولة. إن الكاتب العربي يكتب في غرفة سوداء، ويخاف من الكلمة. كل هذا كنا نأمل أن تغيره الثروة. لكن تأتي الثورة فتصير الرقابة أشد. الحل إذن يكمن في إحداث قطيعة كاملة مع ماضينا الثقافي والسياسي، وما لم تحدث هذه القطيعة سنظل ندور في حلقة مفرغة. - أخيرا، ماذا عن نوبل، أما زلت المترشح الأبدي لها كما يقول خصومك؟ لا جواب لدي، لم أعد أهتم بجائزة نوبل. لم يعد الأمر يهمني مطلقا، وما يشغلني الآن هو استكمال مشاريعي الابداعية والفكرية.
من قصيدة «هذا ما كتبه محمد بن عيسى الصيداني قبيل موته»
1 سبقوني إلى زَمَنٍ آخرٍ دخلوا في عيونٍ من الحلْمِ في جسَدٍ من ضياءِ... إنّ جسمي يُقاتِل جسمي، وحنيني جارِفٌ كي أسافِرَ، كي أتحدّثَ مع رُفَقائي. 2 كلُّ هذي النّجوم التي تَتَكوكَبُ تَيّاهةٌ كَتِفٌ واحدَه، تَعِبَ الليلُ من عِبْئِها وأنا مثلَهُ أتقلّبُ في نارها الخامِدَهْ. 3 - «الدّروبُ بِلا منفذٍ والبيوتُ وأيّامها رمادُ، عَبثٌ موتُكَ الآن، لا شيءَ غيرُ الضّياعْ». ... لا تَسدُّوا فضائي بتعاويذكم، واتركوني لهذا الشُّعاع الذي سأسمّيه أرْضي: إنّها الشّمسُ بيتيَ - بيتٌ لَنا، وأنا لست إلا انعكاسَ الشّعاعْ. 4 خائِفٌ... هل نسيتُ الطّريقَ التي أخذتني مرّةً، والتقيْنا؟ ... كان ما يُشبه الظّلامْ كان موجٌ رمينا في غواياتِه جَسَديْنا وَهَوى جامحاً، وهَوَيْنا. ... خائِفٌ... وكأنّي نسيتُ أساريرَها ونسيتُ أحاديثَنا ونسيتُ الكلامْ. 5 سَكَنَتْ وجهها سَكَنَتْ في نخيلٍ من الصّمتِ بين رؤاها وأجفانها... بيتُها شارِدٌ في قطيع الرّياحِ ، وأيّامُها سَعَفٌ يابِسٌ، ورمالٌ. مَنْ يَقولُ لزِيْنَبَ : عينايَ ماءٌ ووجهيَ بيتٌ، لأحزانِها؟ 6 قَطْرَةٌ من دَمٍ إنّها قَطرةُ الدّمع في جَوْفِ هذا المساءْ حملتني إلى صدرها،- صدرُها كلُّ هذا الفَضاءْ. 7 ألمحُ الآنَ أحزانَها كالفراشاتِ، تضربُ قِنديلَها حُرّةٌ، ذاهِلَهْ وأراهَا تُمزّق مِنديلها... ألمحُ الآنَ أمّي: وَجْهُها حُفْرةٌ، ويدَاها وردةٌ ذابِلَهْ. 8 بين وقتٍ ووقتٍ، أحِسُّ كأَني غَيْري وأحِسُّ كأنّي دَمٌ يَتَدَفَّقُ - أتبعُ خيطَ التّدفُّقِ، أسألُ: ما اسْمي؟ ولكي أتخيّلَ ما سيكونُ، أُخَيِّلُ أنّي أضُمُّ بِلادي- الحقولَ، الجبالَ، البيوتْ وأقولُ: لكي أَتَيَقَّنَ أنّيَ نَفْسيَ، لا بُدَّ مِن أنْ أموتْ. 9 زَهَرُ الأقْحُوانْ لا يَزالُ يُغنّي لموتي، ويُؤْثِرُ موتيّ ليلاً ليكونَ البياضَ الذي يَتَلألأُ في غُرّةِ المكانْ. 10 شُهُبٌ تَتَساقَطُ من شُرُفاتِ الفضاءْ وأراها تطوفُ،- إذن، أتقدّمُ، أسألُ عن حالِها وأُحيّي خيالاتِها وأقدّم جسمي لها والغبارَ الذي ضمّه والرِّداءْ. 11 أعْطِني ما تَرسَّب في جَرّة الأزمنهْ أعْطِني ما تَرَسَّبَ في الرّوح مِن تَعَبِ الأمكِنَهْ أعطني كلّ هذي الثُّمالَهْ، جَسَدي طافِحٌ بِسِواهُ. جسدي كلّ بيتٍ والشّوارع فيّ شرايينُ، والبحرُ نَبْضٌ: هذه صورتي وأنا هذه الرّسالَهْ. 12 جَسدٌ فاضَ عن قبرِه: عَمَّرَ الأفْقَ داراً، وبالشّمس حَصَّن أسْوارَها. ويقول أحبّاؤهُ: مُوغِلٌ في مداراتِه يَتَهجّى الحقولَ ويكتبُ أزهارَها. 13 - هَلْ تآخيتَ مع صوتِه وتنوّرْتَ أغوارَهُ النّائيهْ؟ - أمْسِ، كنّا معاً، وافترقْنا: نجمةٌ مِن فضاءاتِهِ أخذتهُ إلى دارها العاليَهْ. 14 «كان طفلاً من البحر، طفلاً صديقاً لأمواجِه جسمُهُ لُجّةٌ وخُطاهُ الشّواطئُ مفْتوحةٌ» ... إنها آخر الأغنياتْ هل سمعتم صداها يتردّدُ بين الحقولِ، ويَشْردُ في غابة الذّكرياتْ؟ 15 لم تمت أمّهُ: شعرُها ابْيَضّ، لكنّ هذا اللّهيبَ الذي يَتناسلُ في بَيْتها يَتناسَلُ في شَعْرها،- أَدْخلتْنيَ من أوّلٍ عِبْرَ هذا اللّهيبِ وعِبْرَ الرَّمادْ في بهاء السّوادْ.