دبت الحياة أخيراً في جسم التضامن العالمي مع ضحايا العدوان البربري على غزة، وذلك بعد لحظة تأخر وتفرج وارتباك استفاد منها قتلة الأطفال وناشرو الرعب والدمار. هناك في العالم قوى خيرة، تناضل من أجل استتباب الأمن والسلام في مختلف ربوع العالم، وتناهض الظلم والاستعمار والمخططات الامبريالية والهيمنة أيا كان مصدرها، وتدافع عن حقوق جميع الناس في كل مكان. هذه القوى تستطيع فعل الشيء الكثير لصالح قضايانا. وهناك أيضاً في العالم، قوى تنشد الربح ولو على حساب أمن وسلامة وسعادة الإنسان، وتحتقر ثقافات الشعوب الأخرى، وتغذي شرايين الحروب وتحاول إطالة أمدها، وتريد عالماً تحكمه الشركات متعددة الجنسيات وتجار الأسلحة والمتلهفون للسيطرة على موارد الطاقة ومدمرو البيئة. في الحرب الأولى على العراق، لم تستطع القوى المحبة للسلام أن تبني جبهة فعالة لمواجهة النزعة الحربية الأمريكية، ولم يتعد التضامن مع العراق حدوداً معينة، رغم أن المبدأ العام الذي يجب أن يحكم علاقات المجتمعات والشعوب هو ألا يكون اللجوء إلى الحرب والقوة أول اختيار لمواجهة المشاكل. كانت نقطة الضعف الأساسية في ملف العراق، أن نظامه آنذاك عمد إلى احتلال الكويت، فقدمت الحرب على العراق كحرب لتحرير الكويت. في الحرب الثانية على العراق، كانت نقطة القوة الأساسية في الملف العراقي، أن الحرب انطلقت بدون سند شرعي أو تفويض دولي، ولهذا بلغ التضامن العالمي أوجه، وخرج الملايين من المواطنين في مختلف بقاع العالم للتنديد بالهجوم على بلاد الرافدين، وفاق عدد المتظاهرين في الغرب عدد المتظاهرين في العالم العربي والإسلامي، واستطاع الناخبون الأوربيون أحيانا إسقاط الحكومات التي شاركت بقواتها في احتلال العراق، وفرضوا عودة تلك القوات. أما موقف الرأي العام العالمي من العدوان على غزة، والذي اتسم في بدايته بنوع من اللامبالاة، فلا يمكن قراءته بمعزل عن جملة من التصورات التي تهيمن على تفكير قطاع واسع من ذلك الرأي العام بفعل الدعاية المعادية للحق الفلسطيني. وتقوم تلك التصورات على اعتبار إسرائيل ضحية تهديد مستمر في رقعة جغرافية معادية، يحيط بها المتعصبون من كل جهة، ويتربصون بها الدوائر ويستهدفون وجودها، ويكنون لمجتمعها مشاعر كراهية تاريخية مستحكمة. وبالتالي فإن إسرائيل تعيش مشكلة أمنية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار كأسبقية في كل معالجة لقضية الشرق الأوسط. أما بالنسبة إلى ضحية العدوان، وهي غزة، فينظر إليها على أنها مجرد مرتع لمنظمة متطرفة، لا يمكن التعامل معها دولياً أو استئمان جانبها أو الثقة بها، لأنها في نظر عدد من الأوساط الغربية: - تشخص تيار التطرف الديني والنزعة المعادية لليهودية. - تمثل ذراع إيران في المنطقة وأداة هيمنتها الإقليمية وتتحرك بناء على أجندة إيرانية لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية. - تستهدف حق الإسرائيليين في العيش بسلام. - تشكل مصدر توتر ووسيلة لزعزعة الاستقرار ومنع أي تقدم ممكن على طريق السلام والتعايش والمصالحة. وهكذا استغلت الدعاية الصهيونية أحداث 11 شتنبر وما تلاها من تفاعلات لتقدم حربها ضد الفلسطينيين كجزء من محاربة الإرهاب، وقدمت أعمال المقاومة المسلحة التي يباشرها الفلسطيني ضد مغتصب أرضه كجزء من التفجيرات وأعمال التخريب التي تهز مناطق مختلفة من العالم وتعلن منظمة القاعدة أو غيرها مسؤوليتها عنها. ومن المعلوم أن الشهيد ياسر عرفات كان قد نجح سابقاً في الدفاع باقتدار عال عن الحق الفلسطيني، وتمكن من استمالة جزء كبير من الرأي العام العالمي وشرفاء العالم، ودخلت لفظة «الانتفاضة» القاموس الغربي كرمز للدفاع عن الأرض والحرية والاستقلال. لقد عاش سكان غزة ظلما مزدوجاً، فبالإضافة إلى العدوان العسكري، لوحظ أن الرأي العام العالمي تعامل في البداية ببرود وتجاهل مع الجرائم الإسرائيلية، ولم ينطلق في ذلك بالضرورة من حكم مسبق على العرب والمسلمين، بل من تأثير الصورة المسوقة عن حماس، باعتبارها في نظره نموذجاً للتنظيمات المتطرفة. والضمير الغربي يقف ضد التنظيمات المذكورة بما فيها تلك التي نشأت بين ظهرانيه، ولا تحمل أي طابع عربي أو إسلامي، ففي النمسا مثلا ما إن ظهرت إمكانية تحكم اليمين المتطرف في الحكومة، حتى بدأ الشروع في تطارح صيغ مقاطعتها أوروبيا، وفي فرنسا أدى وصول اليمين المتطرف إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية إلى تعبئة شاملة لكل الفصائل الأخرى لحماية قيم الجمهورية، وكان المهاجرون من العرب والمسلمين أحد المستفيدين من تلك التعبئة طبعاً. ولعل أهم إنجاز حققه العرب حتى الآن، هو الأداء الإعلامي الجيد الذي وضع الإنسانية جمعاء أمام مسؤولياتها، فصور أشلاء الأطفال ومشاهد التدمير والتقتيل كانت من الفظاعة، بحيث فرضت تحرك الشارع في البلدان الغربية التي لم تعد المظاهرات فيها مقتصرة فقط على الجالية العربية والمسلمة. ومع ذلك فمازالت المسيرات المنظمة في العالم العربي والإسلامي تعرف كثافة أكبر. وهذا النوع الأخير من المسيرات، قد يسمح لنا ربما بمغامرة الخروج على الأقل بثلاث خلاصات حوله: - الأولى هي أن الشارع العربي والإسلامي ليس قطبا متجمداً وليس أداة في يد الحكام دائما، ولا يعاني بالضرورة من شلل دائم، بل يمكن له أن يدخل وبسرعة قياسية في ديناميكية مبدعة وحية، وأن يحتل الواجهة كبؤرة للفعل والحركة. - الثانية هي أن القضايا التي تهم مجموع أقطارنا، يمكن أحياناً أن تكون مصدراً للتعبئة والتجنيد أكثر من القضايا الداخلية الخاصة بقطر بعينه. - الثالثة هي وجود شرخ كبير وهوة عميقة بين تصورات الحكام من جهة، وتصورات الشعوب كما أظهرها تحرك الشارع من جهة أخرى، حول قضايا استراتيجية. طبعاً لا نستطيع الجزم، في كل حالة من الحالات، بأن المشهد القائم بالشارع يترجم بأمانة وصدق مشاعر الشعب، فقد تنجح أقلية منظمة في عرض تصوراتها الخاصة كتصورات للشعب برمته. ولذلك فإننا نقصد بمواقف الشعوب، تلك المعروضة في الشارع العام كمواقف للشعوب. أي إننا نقصد بمواقف الشعوب تلك المقدمة باسم الشعوب. إن الشعارات والمطالب والتقييمات والمواقف التي عبرت عنها شعوبنا خلال العدوان على غزة حتى الآن، تختلف كلية عما يتبناه الحكام، وما ينتهجونه من سياسات ويأتونه من سلوكات. فشعوبنا عموماً ترفض التطبيع مع إسرائيل، وتعتبره خيانة قومية ووطنية، وتطالب بمقاطعة إسرائيل وأمريكا، وبقيام جيش عربي واحد، وأمة عربية أو إسلامية واحدة، وبالموت لإسرائيل. وشعوبنا تعتبر أن الحكام نكثوا وعودهم وتخلوا عن التزاماتهم وأهملوا القيام بالواجب، وتواطؤوا أو سهلوا أو تعاونوا مع الجهات المعادية للحق الفلسطيني، وأن الحكام ضالعون حتى النخاع في المخطط الذي يستهدف القضية الفلسطينية ويرمي إلى تصفيتها. وشعوبنا ترفع دعاء «لا إله إلا الله، عليها نحيى، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله»، وترفض اتفاق أنابوليس، وتعتبر أكثر المفاوضات التي جرت مناورة وتضليلاً واستسلاماً. أما الأنظمة عموماً فتشارك في الحرب الأمريكية على الإرهاب، بالرغم من أن أمريكا تعتبر حماس وحزب الله منظمتين إرهابيتين. والأنظمة تنصاع إلى المخططات الأمريكية، وتربط صلات سرية وعلنية مع إسرائيل، وتعتبر أن ما يُعقد من مفاوضات واجتماعات يمكن وحده أن يشكل السبيل إلى تسوية كل المشاكل ويضمن الوصول إلى الحلول. والأدهى من ذلك، أن الشعوب لا تتوفر لها في أكثر الأحوال فرص تغيير استراتيجيات الحكام عبر تغيير هؤلاء بواسطة التداول السلمي على السلطة. وكلما وجدت الحركات التي تمارس تأثيراً حاسما على أوسع فئات المجتمع أبواب السلطة موصدة أمامها، كلما أوغلت في التوسل إلى الشعارات غير الواقعية، نكاية في الحكومات القائمة. هناك حد معقول من الاختلاف والتباين يمكن أن يقوم في كل المجتمعات بين مواقف الحكام ومواقف الشعوب، وبين اختيارات الأنظمة واختيارات الشارع. فالشعوب تطالب بالحد الأقصى، والأنظمة تخضع لإكراهات داخلية وخارجية وتحقق حدا أدنى من مطالب الشعوب. الرأي العام يرفع شعارات معينة، والحكومات تستلهم منها ما تراه قابلاً للإنجاز، وصندوق الاقتراع يمد بين الطرفين جسور الحوار والتواصل والتفاعل. لكن أن يصل الأمر إلى الحد الذي ظهرت بعض معالمه من خلال تداعيات العدوان على غزة، فهذا يعني أننا أمام أزمة سياسية حقيقية. فما شاهدناه عندنا هو بمثابة تنازع للشرعية بين الأنظمة والشعوب، وهذه الأخيرة تكاد لا تعتبر الأنظمة أنظمتها، بل تحس كما لو كانت مفروضة عليها وليست جزءاً من لحمتها، والمسالك الكافية للتفاعل والإنصات غير متوفرة. لو كانت الانتقالات قد تمت في مجتمعاتنا، لما كنا في هذه الحالة من التقابل والجفاء بين الشعوب والأنظمة. وتأجيل الانتقال يجعل الذين يؤطرون الشعب ويحركون الشارع يتصرفون بمنطق أنهم لن يصبحوا رجال دولة يوما ما، وأنهم سيظلون فقط «قادة الشعب الميدانيين»، لذلك فإنهم يطلقون العنان للخطابات اللاعقلانية ويشبعون حاجة الجماهير إلى الأسطورة في زمن الأزمة، منطلقين من أنهم لن يخسروا شيئاً في جميع الأحوال! وإذا فوجئوا يوما بأن مقاليد السلطة آلت إليهم، عجزوا عن تحويل شعاراتهم إلى برنامج واقعي مقبول من طرف الشعب وقادر على حماية الحقوق القومية والدفاع عنها في كل المحافل والمنتديات، وتصرفوا بقدر من اللامسؤولية والارتباك والهروب إلى الأمام وادعاء وجود مؤامرات تمنعهم من الوفاء بالتعهدات التي قطعوها على أنفسهم أمام شعوبهم. وأشد ما يمكن أن نخشاه في مثل ظروفنا الحالية وفي عز الأزمة بين الشعوب والأنظمة، أن يعمد المثقفون: - إما إلى الانزواء وعدم الانخراط في نضالات شعوبهم واحتقار حاجياتها ومطالبها وطموحاتها. - وإما الامتناع عن التدخل لضمان التوجيه الفكري لمعارك الشعب، وجعل العقل حاضراً أيضاً حيث تحضر العواطف الجياشة، حتى تحقق النضالات هدفها وتخدم القضية وتكفل شروط التقدم والنهضة.