في البداية، لا بد من القول إنّ مسألة الهوية مرتبطة اجتماعيا وسيكولوجيا بفكرة التموقع أو التموضع داخل نسق معين، حيث لا يمكن أن يتم تصورها إلا من خلال ذلك النزوع نحو الانتماء إلى جماعة ما أو إلى جماعات متعددة. فمجموعة الانتماء تتأسّس انطلاقا من مجموعة من المحدّدات، منها الجنس أو العرق أو الجانبية أو التخصص أو المهنية.. وليس من الصعب على المرء أن يدرك بكيفية، شبه تلقائية، أن المُحدّدات المذكورة تبقى ضعيفة أو منعدمة الورود، مقارنة مع القوة التمييزية التي يوفرها المحدد الأخير، أي محدد المهنة الذي يمنح لأعضاء هيئة التفتيش التربوي فضاء ثقافيا وسوسيومهنيا رحبا قابلا لاحتضانهم ومنحهم تلك الهوية التي لطالما سعوا إلى بنائها. علينا، إذن، أن نفكر بهذه الحدود ونحن نتناول قضية شائكة كقضية الهوية المهنية لأسرة التفتيش التربوي، وعلينا كذلك أن نفكر في إرساء بعض الطقوس المهنية المؤسسة والمميزة لملامح المهنة في شكل ميثاق أدبي وأخلاقي يكون بمثابة ثقافة مرجعية يمتلك حدودَها الدنيا كل المنتمين إلى المهنة. إن مسألة الهوية تقتضي أن يحدث لدى المفتش وعيٌ بانتماءٍ ما، وهذا الانتماء إنما يستمد مشروعيته من القاسم المشترَك الذي يربط بين أفراد الهيئة، ألا وهو رابط التفتيش التربوي.. والسؤال الكبير المطروح هو: كيف السبيل إلى تحديد هذا التفتيش التربوي، أهو مهنة أم وظيفة، مجموعة مهام؟.. ماذا نعني بمجموعة مهام؟ نعني بها مجموعة من الأدوار التي يعود إلى المفتش التربوي أداؤها. ولكنها على تعددها واختلافها تبقى محصورة في الزمان والمكان، إذ تنتهي بانتهاء تحقيق أهدافها أو عدم تحقيقها. وعادة ما يكون التكليف بمهام من طرفٍ خارج عن الهيئة في شكل سلطة هرمية ويكون الإنجاز موكولا إلى المفتش باعتباره أداة للتنفيذ لا غير.. وأحيل بهذا الصدد إلى ما جاء في المرسوم المعتبَر بمثابة نظام أساسي خاص بموظفي وزارة التربية الوطنية بشأن تنظيم واختصاصات هيئة المراقبة التربوية، حيث يكثر استعمال لفظة «مهام» وفعل «يكلف» وعبارة «يتم تكليف»... وغيرُ خاف أن التكليف بمهمة وحتى بمجموعة مهام لا يمكن أبدا أن يحيل على هوية معينة لأنّ المكلف بمهمة في جميع المجالات يكون صاحب تكليف ظرفيّ ولا يكون مشروطا بانتماء وظيفي معين (هناك مجموعة من المكلفين بمهام في دواوين الوزارء وفي غيرها من الدواوين وهم ليسو بهذا يشكلون هيئة واحدة) فتجد رئيس المصلحة التربوية مكلفا بتفتيش هيئة الإدارة التربوية، وتجد المفتش مكلفا بالملاحظة في امتحانات البكالوريا أو غيرها، وتجده مكلفا بمواضيع الامتحانات أو بالتنسيق الجهوي أو المركزي... إلخ. والخطأ الكبير هو أن يعتقد المرء أن بتكليفه ذاك يكتسب هوية متميزة، وهذا ما حذا بالمفتشين في المغرب وفي غيره من الدول إلى الدفاع عن وحدة الإطار حتى لا تتخلخل هذه الهوية النسبية والمضطربة أصلا.. كما لا يخفى على الجميع أنّ هذه المهام قد تتسع أو تضيق حسب الأمزجة والأمكنة، في غياب شبه تام للنصوص التنظيمية والقانونية التي تؤطرها (الملاحظة في الامتحانات كمثال على ذلك). أما إذا اعتبرنا التفتيش التربوي وظيفة، فإن هذا التحديد يُحيل على حقل متشعب يجعل هذه الوظيفة تدخل في مجموعة من التعالقات العمودية والأفقية. فالوظيفة هي بطبيعتها مُلزِمة لصاحبها، حيث تُدْرجه في إطار تراتبيّ تجاه مشغله تحت طائلة التأديب إن هو أخلّ بمبدأ احترام السلطة الرئاسية، وهو ما يُستشفّ من منطوق المذكرات ال80، بدءا من المذكرة الصادرة سنة 1989 في موضوع تنظيم المراقبة التربوية، وصولا إلى المذكرات 113، 114، 115... والتي تجمع كلها على ما مفاده أنْ يزاول المفتشون مهامّهم تحت سلطة النائب الإقليمي أو مدير الأكاديمية التي يعملون فيها. كما يتولى النواب والمديرون الجهويون تحديد مناطق التفتيش الموكولة إلى المفتشين العاملين تحت إمرتهم ويقومون بمراقبة وتقويم عملهم واقتراح القرارات المتعلقة بحياتهم الإدارية. لا تقرّ هذه التدابير القانونية، بطبيعتها، بمبدأ الجودة في الأداء ولا بمبدأ الاستحقاق ولا تشجع على احترام المبادارت وتحريرها، بل إنها تُموضع المفتش التربوي داخل مجال يقوم على تنفيذ الأوامر وإنجاز المطلوب في حدوده الدنيا: فهو موظف يؤدّي عملا معينا مقابل أجْر معين، وانتهى الأمر!.. والسؤال الذي يَطرح نفسه بإلحاح هنا هو: إلى أي حد يمكن اعتبار التفتيش التربوي مجرّدَ وظيفة مبرَّرة أو غير مبررة حسب البعض؟ (انظر التصريحات المتأرجحة في الموضوع لكل الوزراء الذين تعاقبوا على قطاع التربية الوطنية حول دور الهيئة). أما إذا قاربنا التفتيش التربوي باعتباره مهنة فإنّ لهذه الأخيرة شروطا ومواصفات تختلف تمامَ الاختلاف عن مفهوم الوظيفة وتتجاوزه بكثير. وربما هذا ما يفسر المنحى الذي أخذ يسير نحوه الخطاب الرسمي الصادر عن الجهات المسؤولة عن التربية والتكوين حول «تمهين» أو «مهننة» العاملين في القطاع، بالتخلي التدريجيّ عن اعتبار الشهادات الجامعية والأكاديمية في تطور وسيرورة حياة المُدرّسين لفائدة الشهادات المهنية. وهنا لا بد من الإشارة إلى التسمية الجديدة التي أصبحت تحملها مراكز التكوين التابعة للوزارة، والتي تنمّ عن حدوث وعي بأهمية التمهين أو المهننة داخل القطاع: «المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين». فمفهوم المهنة يرتبط ارتباطا وثيقا بخصائص، من قبيل الإتقان في الأداء والإبداع والسّرعة في الإنجاز، مع التركيز على هامش من الحرية والاستقلالية الوظيفية، حتى يتأتى لصاحب المهنة رفعُ تحدي المُستجَدّات، ومن ثمة الحفاظ على مكانة وصورة مرموقة من داخل المجال المهني المعني. إلى ذلك، ينضاف شرط آخرُ هو شرط الجودة في المنتوج، وهذه الجودة والإتقان يتطلبان -بدورهما- إضافة إلى المجهودات الشخصية، مستلزمات أخرى باتت تعرَف اليوم بإعادة التكوين وإعادة الجانبية والتكوين المستمرّ.. فأين نحن من هذا كله؟ الهوية المنشودة هنا هي هوية دينامية ومتجددة وقابلة للتطوير والتحديث حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وهي لا تعني -أبدا- حصرَ المعنيين داخل هيئة شبه مغلقة على نفسها.. إنها هوية مهنية لها جزء أساس أو نواة صلبة من المُقومات الضرورية، مع وجود هامش للحرية، متروك لكل مفتش على حدة، لأنّ المهنية لا تقبل الاختزال والتكرار في نموذج نمطيّ..