إذا كانت الحكومة -أي حكومة، باعتبارها سلطة تنفيذية- تريد أن تنجح في عملها الإصلاحي العام وأدائها التنفيذي المباشر لفاعلية الإنجاز والمتقدم في تطوير وإصلاح الدولة وإنهاض المجتمع، يجب عليها، أولا، أن تكون ناجحة في اختيارها لموظفيها وأطرها، وخاصة الكبار منهم أو ما يعرف بالإدارة العليا، بسبب أهمية المراكز التي يشغلها أصحاب تلك المهام والدرجات، وكبر مسؤولياتهم ودورهم الحاسم في إنفاذ السياسات العمومية وتفعيل مشاريع وخطط السلطة التنفيذية، فإذا ما فشلوا في إدارتهم وتدبيرهم أصبح الفشل يشمل جميع الأطر المؤسسية التي تخضع لمسؤولياتهم والإدارات التابعة لسلطتهم التراتبية الإدارية والوظيفية، فكيفما يكن الراعي تكن الرعية، والناس على دين ملوكهم، ذلك هدي ثقافتنا ورابط المواطنة فيها موصول بالأداء الإنجازي وبالقدرة على الفعل والعطاء والأداء. فالفساد الكبير والسرقات الفضائحية العمومية التي اشتهرت ويتم الكشف عنها في العديد من المؤسسات العمومية والإدارات العليا والمصالح المركزية والخارجية لجل القطاعات الحكومية، وبنسب متفاوتة، لا يقف وراءها -أساسا- الموظفون الصغار أو من تكون لديهم مسؤوليات بسيطة ومحدودة، بل نلمس خلفها تربص شبكات ومراكز قوى إدارية، وفي طليعتها نجد كبار المسؤولين الإداريين والحكوميين السابقين والقطاعيين. وما يزيد الأمور جورا وظلما أن من كان يعاقب على بعض من تلك التجاوزات والاختلالات الإدارية والمحاسبية والمالية، من السرقات أو الفساد المالي والإداري، هم في الغالب صغار المسؤولين والموظفين بينما يتم ترك الحيتان الكبيرة أو المافيات والشبكات المتينة والمحكمة دون مساءلة تذكر، بل على العكس قد يتم تكريمها وتبرئتها في كثير من الأحيان. بيد أن المهادنة مع الفساد الإداري للكبار والاستهانة في التصدي له قد يزيد في إرباك عمل الحكومة الإصلاحي، وقد يوهن عزيمتها في مجابهة مراكز الفساد الإداري والمالي، والتهاون في ذلك قد يخل بمنهجها الإصلاحي ذاك وبشعارها العام المبني على المصداقية والصرامة في مجابهة قوى الفساد وشبكاته المافيوزية المنظمة. وبالتأكيد، فإن الإبطاء والتلكؤ في التصدي لتلك القوى والمراكز المصلحية قد يعطل من فعالية برامجها ويشل نجاعة خططها، وقد يصل إلى حجب الثقة عنها مجتمعيا والإنقاص من مصداقيتها، بل ويمضي في اتجاه العصف بشرعيتها السياسية وتجذرها الشعبي في دولة تريد الانعطاف بثبات لمغادرة طابع السلطوية في التدبير والحكم والتخلف والركود السياسيين في الإنماء الاقتصادي، ويحول بينها وبين ارتياد آفاق الأنماط السياسية والدولتية التي تتمتع بنظام حكم ديمقراطي تعددي متقدم وحديث ورشيد وعقلاني، فتجد الدولة نفسها ضحية محاولات الإطاحة بها في أتون الفشل الاقتصادي والشلل التنموي والتدبيري لترتكس إلى درك الدول التي انتهجت الفساد العمومي والقهر السياسي سبيلا إلى تداول السلطة وتصدر المسؤولية العمومية وبناء نمط للنفوذ أساسه عدم الجدارة والاقتدار. إن العديد من دول العالم الأوربي المتقدم سياسيا واقتصاديا والقريبة منا في الضفة الأخرى، انهارت بسبب الأداء الحكومي المرتبك والسياسات العمومية الفاشلة التي انتهجها كبار المسؤولين من موظفي الدولة فيها إزاء التعاطي مع مخلفات الأزمة المالية العالمية. وبتحليل سريع للأسباب الكامنة وراء ذلك الانهيار المدوي، فإننا نجدها ترتد إلى جملة أمور وشبكة أسباب مفسرة وموضحة لذلك، ونجدها تشترك مع الأنماط الثالثية المتخلفة من الدول التي تعاني من التسلطية السياسية، ونذكر منها الأسباب التالية، على التوالي بغاية الاستفادة والقراءة الفاحصة والنقدية، كما تكشف لبعض الخبراء في مجمل تلك الدول: أولا، إن شغل بعض المناصب الإدارية وجزء من المواقع العمومية كان يتم على أساس ولاء حزبي أو انحياز قرابي، أو كان يمر عبر سلك مسارات وطرق المحسوبية والمنسوبية والوصولية والعلاقات الزبائنية، بعيدا عن معايير الكفاءة والاقتدار والاستحقاق، وهي المعايير التي يجب أن تتوفر في أغلب الأطر الإدارية والموظفين السامين بعامة، وبخاصة أصحاب المسؤوليات الكبيرة في الإدارة العليا والمناصب السياسية والإدارية السامية، هذا بالإضافة إلى ضرورة توفر مقاييس الكفاءة والخبرة والالتزام المهني والقدرة في مجال العمل المنوط بتلك الأطر لتحمل مسؤولياتها فيها، بغض النظر عن مقاييس الالتزام السياسي والارتباط الحزبي والمناطقي والولاء العائلي والقبلي والجهوي والعائلي وما شاكل؛ ثانيا، تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة أو العليا للبلد، واستغلال المناصب الحكومية لاستعمالها من أجل توطين المصالح الفئوية وتأكيد الذات الحزبية وتمكين النزوات الشخصية ذات المطامح الغريزية غير القانونية ولا المستحقة؛ ثالثا، ضعف مستوى أداء أجهزة الرقابة المالية والمساءلة الإدارية، والبعد عن التقييم الدوري والتتبع الدائم لأداء النخب الإدارية والأطر المؤسساتية والأجهزة الحكومية العمومية خلال مدد زمنية متقاربة ليست بالبعيدة، أو السيطرة عليها من قبل المتنفذين من ذوي الثروة والسلطة وقوى الحكم والنفوذ؛ رابعا، تعطيل بناء دولة الحق والقانون وإعاقتها عن التشكل، وذلك بالإمعان في العمل على تعطيل مرجعية القوانين، الدستورية منها والتنظيمية، وإنفاذ التشريعات العادية المنبثقة من المرجعية الدستورية الجامعة للدولة، مع الحرص على العمل على أسس سياسية توافقية بين الأحزاب والقوى السياسية التي تتشكل منها الحكومة والمعارضة على حد سواء، بما يستجيب لمعايير ومبادئ تدعي التشاركية لتكريس تجاوز تلك المرجعيات القانونية والدستورية والتعاقدية، بحيث يتم النظر إلى المسؤولية والسلطة والسياسة كغنيمة ويتم تقديرها بمنطق الوزيعة؛ خامسا، استغلال الظروف المعيشية الصعبة للناس، وتفشي حالة الفقر والأمية وعدم النضج والوعي السياسي اللازم لدى عامة المواطنين، والتسلط على رقابهم من خلال نهج سياسة تتوسل القمع سبيلا إلى الأداء العمومي والحضور السلطوي، وذلك بواسطة استغلال الفاقة والحاجة، من جهة، أو استعمال القوة في بناء الشرعية السياسية وتكريس هيبة السلطة، من جهة أخرى؛ سادسا، خضوع السلطة القضائية لمنطق التعليمات وإرجاعها لأوامر الماسك الحقيقي بجوهر السلطة التنفيذية، وعدم تنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة في مواجهة النخب القائدة والموجهة ضد كبار المفسدين المرتبطين بالأجهزة الادارية للسلطة التنفيذية، وأيضا تلك الخاضعة للقوى المصالحية ذات النفوذ السلطوي. بالنظر إلى ما سلف، ومن خلال الاطلاع الفاحص والمعاينة النقدية المجملة لأداء بعض من الحكومات في جملة من الدول القريبة من تجربتنا الديمقراطية الوليدة، فإننا نجد أن هنالك منها من يعتمد على خبراته المؤسساتية الداخلية فقط ويريد أن يقف ندا مكافئا في وجه الخبرات السياسية والإدارية والمؤسسية الخارجية -استحضار نماذج مقارنة في هذا الشأن- وبالتالي فإنه يتأخر كثيرا في أداء وتنفيذ برامجه السياسية وخططه التنموية والاقتصادية، وهناك من يهمل أغلب ما هو موجود لديه من خبرات وقدرات وإمكانيات إدارية داخلية بغية السعي وراء الخبرات الأجنبية، فقط لاستلهامها أو استعارتها بشكل مطلق وتكرارها بشكل تقني وغير نقدي، لأنه يرى أن التجارب تستنسخ وتستعاد في دورة تقنية وراجعة بلا إعمال لآلية الفرز النقدي والتدقيق العلمي والتمحيص التجريبي. والعمل على هذه الشاكلة بالاعتماد على الخبرات الدولية والنماذج الأجنبية الجاهزة فقط، مع ترك الطاقات والقدرات المحلية، يعد نوعا من أنواع التخطيط الفاشل المكرور في النظر إلى أداء كبار الموظفين الإداريين، ونهوضهم بمهامهم في إدارة وتدبير وتنفيذ الخطط التنموية والبرامج الحكومية الملقاة على عاتقهم لتطويرها والوفاء بحسن إنجازها بذكاء وتميز وإتقان والتزام. إنه بوضع الحبل على الغارب -من قبل الحكومة وموظفيها ومن طرف كبار المسؤولين داخلها- بدون مراقبة أو تقييم دوري لأعمالهم، تتفشى حالة الأداء السلبي الخامل والكسول لدى كبار موظفي الإدارة العليا من المسؤولين، وتنعكس بصورة مباشرة على صغار الموظفين والمسؤولين، من خلال شيوع نفس اللامبالاة والتقصير -المتعمد أو غير المتعمد- في المسؤولية العمومية، وذلك بعدم توفر آليات المراقبة وأساليب المحاسبة، وجعل المفسدين في مأمن من دروب المعاقبة القانونية، وكأننا نجد أنفسنا أمام تكريس غير مقصود ربما لسياسة اللاعقاب. إزاء كل ذلك، يُطرح أمامنا السؤال الحاسم والمُلح حول معايير ومقاييس تسلم زمام المسؤوليات العمومية داخل أجهزة الدولة وفي رحاب مؤسساتها العامة والإدارية: هل المدراء في تلك الأجهزة الإدارية والحكومية والمؤسسات العامة يتم تعيينهم وفقا للكفاءة؟ وحتى إذا كان كبار المسؤولين الإداريين والحكوميين على درجة كبيرة من الكفاءة والأهلية، فكم عدد الذين يولون عملهم أهمية مواطنية وأولوية تدبيرية؟ وكم عدد الساعات الفعلية التي يقضيها أولئك المسؤولون في أداء العمل الإداري والمهني على أكمل وجه، بمعنى أن السؤال يُطرح بحدة حول النجاعة في الأداء والإنتاجية في العطاء. العديد من الموظفين الإداريين الكبار، والمراجعين من المرتفقين لدوائر المسؤولية الإدارية والمؤسسات الحكومية، من المواطنين وغيرهم من المرتفقين، ذاتيين أو معنويين، يراقبون ويرون أن كبار المسؤولين الإداريين يمارسون أعمالهم في وقت محدود، وكأنهم في زمن إداري مهدر ومنساب بنسب عالية من اللانتاجية، وإذا استخدم أحدهم الموظفين التابعين لمؤسسته للقيام بعمل ما فيكون بشكل غير ناضج ولا مسؤول ولا مهني في أغلب الأحوال، مع ضرورة الانتباه إلى ظاهرة خطيرة لا زالت مستشرية، وهي تسخير أغلب إمكانيات الإدارة ومقدراتها للأمور الشخصية، بل وتصييرها لخدمة العائلة والأقارب والأزلام. بجملة واحدة، لا بد للحكومة من وضع برامج رقابية ومحاسبية واضحة والعناية بإنفاذها والتحقق من أعمالها في واقع الحياة الإدارية اليومية للمواطنين، عبر آليات تسهل متابعة ومحاسبة الموظفين الإداريين عن تقصيرهم، مع العمل على مكافأة ذوي الإنتاجية العالية والكفاءة المقتدرة والعطاء المبدع. خلاصة القول أن فعالية ونجاعة وسرعة الإصلاح الشامل والعام، الذي هو مشروع حكومة الانتقال الديمقراطي الحقيقي الماثلة الآن في المغرب، تظل متوقفة ومرتبطة بدرجة أولى بمستوى التقدم في دينامية الإصلاح الإداري، وبكفاءة إعمال مقاييس ومعايير النزاهة والشفافية والكفاءة التدبيرية في تسلم واكتساب المسؤوليات العامة المفصلية في الإدارة المغربية، فكسب رهان التخليق الإداري ورفع منسوب الأداء المهني الكفء والجرأة في تطوير البنيات والمؤسسات الإدارية، هو نفسه رهين بشروط عدة، من جملتها التقدم في إحداث ثورة في أداء وإنفاذ البرنامج الإصلاحي للحكومة في جملة من القطاعات والوزارات، أي ربط المسؤولية بالكفاءة والجدارة والاقتدار لا بالولاء والقرب والزبائنية والحزبية، ولذلك وجب الإسراع في تجاوز أعطاب أداة الإصلاح التي هي الإدارة، فورش الإصلاح الإداري انطلق ولزم فيه الحزم والشجاعة والإصرار.