: بين بؤس قوى الردة الديمقراطية ، وتفكك جبهة الإصلاح بين ادعاءات البعض من مكونات الطيف السياسي والحزبي، بأن المغرب أصبح قريبا من دولة فاشلة رخوة –هكذا يتبدى مضمون خطابهم السياسي وادائهم الاعلامي الدعائي– وبين تردى الوضع الاقتصادى والاجتماعي العام، مع ارتفاع حجم الانتظارات التي فجرتها المرحلة الحبلى بثورة التطلعات الكبرى ، بين هذا وذاك مسافة مقدرة ومعتبرة من الاحتمالات والتقديرات ، يتبادر الى ذهن المتابع والمناضل والمحلل –من خلال وصفها ومعاينتها- الإشكال التالي والمتجلي على شكل استفهام : كيف وصل الحال إلى هذه المرحلة ؟ هو سؤال اذن في الصيرورة والمسار المعقد الذي انتهجته البلاد سبيلا للاصلاح في ظل الاستقرار، وقد أفضى الى تشكل الوضع على تلك الصورة المتناقضة والشاكلة الفريدة ، هذا السؤال ينطبق -بالقطع -على السياسة والاقتصاد وكذلك نمط إدارة الدولة برمتها بشكل عام. بعد بضعة أشهر –لا تجاوز السنة-على وصول العدالة والتنمية معية التحالف المتشكل عقب الاستشارة الانتخابية لسدة الحكم وللتدقيق تدبير السياسات العمومية من موقع المسؤولية السياسية في السلطة التنفيذية ، يصعُب إجراء تقييم متكامل للتجربة على أرضية وقاعدة الانجاز وشرعية الانجاز وبالتالي الاحالة على التقدير التقني لذلك التقييم ، وكذلك يصعُب الجزم مما يرصع من خطاب ويصدر في الواجهة الاعلامية من حكم عليها بالفشل والتداعي، ولكن يمكن تحليل ونقد أداء هذه الصيغة في التدبير السياسي للمرحلة واستقراء فلسفتها فى إدارة دفة القرار داخل السلطة المنتخبة بالتوافق مع باقي المكونات المؤسساتية للدولة. فإذا أردنا حُكماً موضوعياً لمجمل التجربة لا بد أن ننظر لأداء الفريق المدبر للشأن العام في المرحلة على قاعدة العنوان السياسي الذي هو انجاح الانتقال ، وكذلك وبالموازاة معه لابد من النظر النقدي الفاحص للعقبات التى تشكلها معارضة الخطوات الاصلاحية التي تكون مسؤولة عنها بعض من المعارضة المؤسساتية وكذا شبكات المصالح والمركبات التقليدية التي راكمت امتيازات زمن الريع والتحكم والسلطوية ،يجب أن نكون متوازنين في النظر منصفين في التقييم والتقدير السياسي للموقف. وعلى الرغم من إيمانى بالدور السلبى لهذه المعارضة التي تنذر أحد الظرفاء بوصفها بكونها تثير الشفقة ،بل هي بئيسة ورديئة ورخوة ومرتبكو وعاجزة ومحافظة ،تعارض الحكومة لصالح قوى الحكم العتيق والمحافظة المؤسساتية ،بالرغم من كل ذلك وغيره ، فإننى سأقتصر فى هذا المقام على فلسفة التدبير السياسي للمرحلة للقوى السياسية المشكلة لصيغة الحكومة الحالية ،وفي طليعتها حزب العدالة والتنمية ، فقط لسببين، أولاً: أسهل شىء هو المجانية في النقد والمغامرة في الطرح والامعان في إلقاء اللوم على الآخر كوسيلة للهروب من حقيقة الإدارة السيئة للدولة عبر عقود زادت في توطيد أركان القدرة الافسادية للدولة ودعم تعميق شبكات المصالح المتراكمة والمتشكلة عبر عقود من نمط الحكم الذي كان سائدا ، ثانياً: أننا ما زلنا لا نملك أدلة مباشرة لاتهام بعض مكونات المعارضة المؤسساتية وحتى عناصر الحزب السري وقوى الردة الديمقراطية الماسكة بمفاصل الدولة والمؤسسات العمومية زمن السيطرة السلطوية ما قبل الربيع الديمقراطي بالمؤامرات الكيدية التي قد تصل فداحتها الى مستوى الاتهام الجنائي في ملفات لا زال بعضها يتفاعل ، فمن الأفضل –لهذا الاعتبار- توجيه الحديث والفحص والنقد عمن يدير زمام الأمور ويباشر التدبير ،من خلال قراءة فلسفتهفي الحكم أو لنقل في تدبير المسؤولية السياسية على امتداد المرحلة . ورغم حرمانهم لعقود مديدة من المساهمة فى إدارة الدولة، اندفع حزب العدالة والتنمية لحصد أصوات فارقة مع باقي المنافسين السياسيين جعلتهم يتصدرون المشهد السياسي الوليد ومكنتهم من كسب انتصار سياسي غير مسبوق لقوة حزبية رديفة في التاريخ الانتخابي المغربي ،مما اعطتهم امكانية اعتلاء مناصب سياسية تنفيدية والتمكن من تشكيل حكومة انتقال ديمقراطي بامتيار تنهض بمهام الاصلاح ، بطبيعة الحال فإن النخبة التدبيرية التي انتجتها المرحلة لم تجعل قادتها يسعون للفشل الذاتي من خلال ما يترائى للبعض سوءا للتدبير والتسيير ، ومن الواضح أنها بنت فلسفتها فى إدارة دفة القرار العمومي داخل دواليب السلطة السياسية ومؤسسات الدولة على عدة افتراضات دفعتها لإعطاء انطباعات سياسية ارتقت فيها في الوعي الجماعي للناس الى حسبانها وعودا في الانتخابات رفعت سقوف التطلعات والانتظارات . وبالنظر إلى برنامج الحزب القائد للتجربة ثم نموذجه التنموي ومشروعه السياسي وكذلك ما رسخ فى ساحات الحوار السياسي المجتمعى وفي فضاء المؤسسات الدستورية المتمخضة عن الدستور الجديد ، نستطيع أن نستخلص عناصر رؤية فى إدارة دوالب السلطة داخل مؤسسات الدولة باقتصادها ومؤسساتها العمومية ، بناءً على ثلاثة افتراضات رئيسية نناقشها تباعا: الأول: افتراض أن المغرب دولة غنية ، بها موارد كثيرة ولديها القدرة على إحداث فورة تنمية فى قطاعات مختلفة ،وأن المشكل فقط وبالتحديد والحصر هو . وهذا الافتراض به الكثير من الصواب، فالمغرب دولة بها موارد متعددة وتستطيع الارتكاز على قطاعات مختلفة ومتنوعة ، ولكن الخطأ هو المبالغة فى حساب الموارد وعائداتها على مجمل الدورة الانتاجية والاقتصادية . وكذلك عدم إدراك أن البلد تعانى لعقود من عجز هيكلى فى ميزانيتها قد يتطلب سنوات طويلة لمجرد إرجاع الميزانية تحت السيطرة،وهذا يتطلب اعادة الهيكلة واصلاحا عاجلا للنظام المالي للدولة . الثانى: أن هذه الدولة الغنية بالموارد المفترضة ينقصها مشروع تنموي طموح حتى تنطلق وتحقق نهوضها. وبالرغم من أهمية هذه النوعية من المشاريع، فإن ما أُطلق من مشاريع كبرى مهيكلة -هكذا سميت - كانت فى غاية التفاؤل الالم بدرجة تفوق المنطق العملي . ولم يأبه المدبرون والحالمون بالتحديات التى ستقابلهم وقت مباشرة اجراءات التنفيذ ، مثل قلة الإمكانيات المالية والعقبات الإدارية والشبكات المصالحية المتراكمة عبر عقود مديدة من الزمن السياسي ، ولكن تفانى البعض فى التسويق السطحي لهذه البرامج وغيرها مع السخاء في ارسال الاماني وإطلاق الوعود، وأدى ذلك فيما بعد إلى الشعور بالإحباط في بعض الدوائر من انخفاض سقف الانجاز والاستنهاض ، خاصةً فى الجانب الاقتصادى الذى أصابه تراجع كبيروفادح ربما ،ان لم يتم التدارك ،سيكون ايلا الى مزيد من التعقيد . الثالث: الوهم والاعتقاد من قبل البعض من الممجدين والاستسهاليين والتسطيحيين ، بأن مؤسسات الدولة تسير بقوة الدفع الذاتى بحسبانها منيعة ومحصنة بالنظر للشرعية التاريخية للنظام السياسي وفرادة النموذج المغربي ، هكذا يتوهمون ، لكن الواقع أن كثيرا من المؤسسات العمومية بل ومجمل النسق الاداري للدولة ،قلت في مجملها كانت تدار وتدبر من قبل مجموعة غير مخلصة لوطنها وفاسدة فى كثيرٍ من الأحيان ولا تحمل كثيرا من الود –سماها بن كيراان الكبدة –لوطنها واستقراره . ولذلك اعتقد البعض من القوى الوطنية و الديمقراطية المخلصة الصادقة –في طليعتها العدالة والتنمية - ومعهم طيف واسع وعريض من الشعب وقادة الرأي العام ، أن مؤسسات الدولة-التي كانت تدبر على تلك الشاكلة - ستسير بشكل أفضل بمجرد تعيين الحكومة وتنصيبها ،وبمجرد مباشرتها لمهام الاصلاح السياسي والتطوير الاداري ،بعيدا عن شرطي الزمن المتاح للاصلاح ، وميزان القوى الراجح لصالح قوى الاصلاح والتحويل الديمقراطي للدولة، بل ان البعض الاخر من اولائك يعتقد أنه بتعيين وتكليف بعض الافراد من أهل الثقة والاخلاص يتسمون بالحد الأدنى من الكفاءة والأمانة سيعالج وحده هذا المشكل المزمن . الواقع أن أجهزة الدولة لها ثقافة فساد مختلفة متجذرة وماسكة بتلابيب المؤسسات العامة والخاصة ،حيث أصبحت فيها الرشاوي الكبرى والصغرى جزءاً من الحياة اليومية للنسق الاداري من خلال الصفقات والمحسوبيات وتكريس النمط الزبوني والابوي في الاقتصاد والتدبير العمومي ، بحيث نجد أن الفساد له تعريفات أخرى غير المتداول ف بعض الاوساط ، فكان لدخول أهل الثقة وتلويحهم اللفظي والخطابي بنزعة منبرية بمحاربة الفساد بشكل علنى وفوري وحاسم –بدون توفير العدة لمجابهته- آثار سيئة، حتى وإن اتسم بعض من تم تعيينهم بالكفاءة والاقتدار ، فقد أدى ذلك إلى استنفار قطاع كبير من شبكات المصالح لتستعيد المبادرة من جديد وتعلن تضامناتها بقوة وتجمع صفوفها وتختبر قدراتها على المناورة والتصدي وارباك خطط الاصلاح ، حتى أن بعض الموظفين الكبار وتحالفاتهم عبر النسق الاداري والذين شعروا بالخطر أصبحوا يتحصنون برفع سقف المطالب الفئوية المعجزة محاولة منهم للاربام وتفكيك مسار الاصلاح –نموذج قطاع العدالة وملف اصلاح القضاء - ، لأن ذلك الاسلوب المبني على القطيعة يهدد ما اعتادوا عليه حتى وإن لم يكونوا فاسدين ذاتيا في اشخاصهم ، كما أحدث ذلك حالة من الشلل فلا تجد مسئولاً لديه رغبة فى التوقيع على ورقةنالا وهو متحسر مرتبك ومتشكك . هذه الافتراضات الثلاثة شكلت إلى حد كبير فلسفة ناظمة –ربما غير مفكر فيها بالشكل الرزين والهادئ-فى الشقين الاقتصادى والإدارى لتدبير اصلاح بنية عطب الدولة العليلة على امتداد عقود . انه ،وبالنظر لكل ذلك ،ما زال الوقت مبكراً على إصدار حكم نهائى ينمط التجربة، وما زال لدى قادة المرحلة الموسومة بالانتقال الفرصة أن يعيدوا النظر فى الاولويات واسلوب التصدي وتدبير الاصلاح السياسي من موقع المسؤولية السياسية والعمومية ، وأن يعدلوا عن الافتراضات السهلة ،من قبيل المشار اليها سلفا : - موارد الدولة الغنية - والبرامج الطموحة هى أهم ما تحتاجه البلد - وسير الدولة بقوة الدفع الذاتى وتعيين أهل الثقة والكفاءة التدبيرية فقط ، تلك الاوهام والاحتمالات والافتراضات ظهر الكثير من آثارها العكسية والسلبية . المطلوب من الجميع أن يقوموا بتغييرات فى السياسات والبنيات والثقافة والنخب المؤهلة من ذوي التمرس الاداري والحنكة السياسية معا والالتزام الوطني ،والذين يتصدرون المشهد بكفاءات قادرة على تدارك الموقف وتغيير المسار ،المسار التنموي والتدبيري والديمقراطي ،والوطني بكلمة جامعة . لم تفت فرصة تغيير المسار بعد وتسديد القرار الحاسم والشجاع ، ولكن لم يبقَ أمامنا الكثير من الوقت ومن الطاقة. *عضو الامانة العامة للعدالة والتنمية