في آفاق الإصلاح الشامل : فعالية الإصلاح العام ، مرتبطة بكفاءة وفعالية الأداء الإداري تأملات على هامش حركة التعيينات الجارية في المناصب العليا اذا كانت الحكومة - أي حكومة ،باعتبارها سلطة تنفيذية - تريد أن تنجح في عملها الاصلاحي العام وأداءها التنفيذي المباشر لفاعلية الانجاز والمتقدم في تطوير واصلاح الدولة وانهاض المجتمع ، يجب عليها اولا أن تكون ناجحة في اختيارها لموظفيها وأطرها وخاصة الكبار منهم ، أو ما يعرف بالادارة العليا، بسبب أهمية المراكز التي يشغلها أصحاب تلك المهام والدرجات ، وكبر مسؤولياتهم ودورهم الحاسم في انفاذ السياسات العمومية وتفعيل مشاريع وخطط السلطة التنفيذية، فإذا ما فشلوا في إدارتهم وتدبيرهم أصبح الفشل يشمل جميع الاطر المؤسسية التي تخضع لمسؤولياتهم و الإدارات التابعة لسلطتهم التراتبية الادارية والوظيفية ، فكيفما يكن الراعي تكن الرعية ، والناس على دين ملوكهم، ذلك هدي ثقافتنا ورابط المواطنة فيها موصول بالاداء الانجازي وبالقدرة على الفعل والعطاء والاداء . فالفساد الكبير والسرقات الفضائحية العمومية التي اشتهرت ويتم الكشف عنها في العديد من المؤسسات العمومية والادارات العليا والمصالح المركزية والخارجية لجل القطاعات الحكومية ، وبنسب متفاوتة، لا يقف ورائها -اساسا -الموظفون الصغار أو من تكون لديهم مسؤوليات بسيطة ومحدودة ، بل نلمس خلفها تربص شبكات ومراكز قوى ادارية ، وفي طليعتها نجد كبار المسئولين الاداريين والحكوميين السابقين والقطاعيين ، وما يزيد في الأمور جوراً وظلما ، أن من كان يعاقب على بعض من تلك التجاوزات والاختلالات الادارية والمحاسبية والمالية من السرقات أو الفساد المالي والاداري ، هم في الغالب صغار المسئولين والموظفين ويتم ترك (الحيتان الكبيرة أو المافيات والشبكات المتينة والمحكمة ) دون مسائلة تذكر، بل على العكس قد يتم تكريمهم وتبرئتهم في كثير من الأحيان. بيد أن المهادنة في هذا الامر ، والاستهانة في التصدي له - الفساد الاداري للكبار- قد يزيد في إرباك عمل الحكومة الاصلاحي ، وقد يوهن من عزيمتها في مجابهة مراكز الفساد الاداري والمالي ، و التهاون في ذلك قد يخل بمنهجها الاصلاحي ذاك وشعارها العام المبني على المصداقية والصرامة في مجابهة قوى الفساد وشبكاته المافيوزية المنظمة ، و بالتأكيد فإن الابطاء والتلكؤ في التصدي لتلك القوى والمراكز المصلحية قد يعطل من فعالية برامجها و يشل نجاعة خططها ، وقد يصل إلى حجب الثقة عنها مجتمعيا والانقاص من مصداقيتها ، بل و يمضي في اتجاه العصف بشرعيتها السياسية وتجذرها الشعبي ، في دولة تريد الانعطاف بثبات لمغادرة طابع السلطوية في التدبير والحكم والتخلف والركود السياسيين في الانماء الاقتصادي ، ويحول بينها وبين ارتياد افاق الانماط السياسية والدولتية التي تتمتع بنظام حكم ديمقراطي تعددي متقدم وحديث ورشيد وعقلاني، فتجد نفسها – الدولة – ضحية محاولات الإطاحة بها في اتون الفشل الاقتصادي والشلل التنموي والتدبيري لترتكس في مصاف الدول التي انتهجت الفساد العمومي والقهر السياسي سبيلا لتداول السلطة وتصدر المسؤولية العمومية وبناء نمط للنفوذ أساسه عدم الجدارة والاقتدار. إن العديد من دول العالم الاوروبي المتقدم سياسيا واقتصاديا والقريبة منا في الضفة الاخرى، انهارت بسبب الأداء الحكومي المرتبك والسياسات العمومية الفاشلة التي انتهجها كبار المسؤولين من موظفي الدولة فيها ازاء التعاطي مع مخلفات الازمة المالية العالمية ، و بتحليل سريع للاسباب الكامنة وراء ذلك الانهيار المدوي ، فاننا نجدها ترتد إلى جملة أمور وشبكة اسباب مفسرة وموضحة لذلك ، ونجدها تشترك مع الانماط الثالثية المتخلفة من الدول التي تعاني من التسلطية السياسية ، ونذكر منها الاسباب التالة ، على التوالي بغاية الاستفادة والقراءة الفاحصة والنقدية ، كما تكشفت لبعض الخبراء في مجمل تلك الدول : أولاً- إن شغل بعض المناصب الادارية وجزء من المواقع العمومية كان يتم على أساس ولاء حزبي أو أو انحياز قرابي ، أو كان يمرعن سلوك مسارات و طرق المحسوبية و المنسوبية والوصولية و العلاقات الزبائنية ، بعيداً عن معايير الكفاءة والاقتدار والاستحقاق ، وهي المعايير التي يجب أن تتوفر في أغلب الاطر الادارية و الموظفين السامين بعامة ، وبخاصة أصحاب المسؤوليات الكبيرة في الادارة العليا والمناصب السياسية والادارية السامية ، هذا بالإضافة إلى ضرورة توفر مقاييس الكفاءة و الخبرة والالتزام المهني والقدرة في مجال العمل المناط بتلك الاطر لتحمل مسؤولياتها فيها ، بغض النظر عن مقاييس الالتزام السياسي والارتباط الحزبي والمناطقي والولاء العائلي والقبلي والجهوي والعائلي وما شاكل . ثانياً- تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة أو العليا للبلد ، واستغلال المناصب الحكومية لاستعمالها لتوطين المصالح الفئوية وتأكيد الذات الحزبية وتمكين النزوات الشخصية ذات المطامح الغريزية غير القانونية ولا المستحقة . ثالثاً- ضعف مستوى أداء أجهزة الرقابة المالية والمساءلة الإدارية، والبعد عن التقييم الدوري والتتبع الدائم لأداء النخب الادارية والاطر المؤسساتية و الاجهزية الحكومية العمومية خلال مدد زمنية متقاربة ليست بالبعيدة ، أو السيطرة عليها من قبل المتنفذين من ذوي الثروة و السلطة وقوى الحكم والنفوذ . رابعاً-تعطيل بناء دولة الحق والقانون وإعاقتها عن التشكل ، وذلك بالامعان في العمل على تعطيل مرجعية القوانين الدستورية منها والتنظيمية و إنفاذ التشريعات العادية المنبثقة من المرجعية الدستورية الجامعة للدولة ، مع الحرص على العمل على أسس سياسية توافقية بين الأحزاب والقوى السياسية التي تتشكل منها الحكومة والمعارضة على حد السواء ، بما يعمل معايير ومبادئ تدعي التشاركية لتكريس تجاوز تلك المرجعيات القانونية والدستورية والتعاقدية ، بحيث يتم النظر الى المسؤولية والسلطة والسياسة كغنيمة ويتم تقديرها بمنطق الوزيعة . خامساً- استغلال الظروف المعيشية الصعبة للناس ، وتفشي حالة الفقر والأمية وعدم النضج والوعي السياسي اللازم لدى عامة المواطنين ، والتسلط على رقابهم من خلال نهج سياسة تتوسل القمع سبيلا للاداء العمومي والحضور السلطوي ، وذلك بواسطة استغلال الفاقة والحاجة من جهة ، أو استعمال القوة في بناء الشرعية السياسية وتكريس هسية السلطة من جهة اخرى . سادساً- خضوع السلطة القضائية لمنطق التعليمات و إرجاعها لأوامر الماسك الحقيقي بجوهر السلطة التنفيذية ، وعدم تنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة في مواجهة النخب القائدة ، والموجهة ضد كبار المفسدين المرتبطين بالأجهزة الادارية للسلطة التنفيذية وأيضا تلك الخاضعة للقوى المصالحية ذات النفوذ السلطوي . إنه بالنظر لما سلف ، ومن خلال الاطلاع الفاحص والمعاينة النقدية المجملة على أداء بعض من الحكومات في جملة من الدول القريبة من تجربتنا الديمقراطية الوليدة ، فإننا نجد أن هنالك منها من يعتمد على خبراته المؤسساتية الداخلية فقط ويريد أن يقف نداً مكافئا بوجه الخبرات السياسية والادارية والمؤسسية الخارجية- استحضار نماذج مقارنة في هذا الشأن - ، وبالتالي فإنه يتأخر كثيراً في أداء وتنفيذ برامجه السياسية وخططه التنموية والاقتصادية ، وهناك من يهمل أغلب ما هو موجود لديه من خبرات وقدرات وإمكانيات ادارية داخلية بغية السعي وراء الخبرات الأجنبية ، فقط لاستلهامها أو استعارتها بشكل مطلق وتكرارها بشكل تقني وغير نقدي ، لأنه يرى أن التجارب تستنسخ وتستعاد في دورة تقنية وراجعة بلا اعمال لالية الفرز النقدي والتدقيق العلمي والتمحيص التجريبي، والعمل على هذه الشاكلة بالاعتماد على الخبرات الدولية والنماذج الأجنبية الجاهزة فقط ، مع ترك الطاقات والقدرات المحلية ، وهذا يعد نوعا من أنواع التخطيط الفاشل المكرور في النظر لأداء كبار الموظفين الاداريين ، ونهوضهم بمهامهم في إدارة و تدبير و تنفيذ الخطط التنموية والبرامج الحكومية الملقاة على عاتقهم لتطويرها والوفاء بحسن انجازها بذكاء وتميز واتقان والتزام . إنه بوضع الحبل على الغارب - من قبل الحكومة وموظفيها ومن طرف كبار المسئولين داخلها - من دون مراقبة أو تقييم دوري لأعمالهم ، تتفشى حالة الأداء السلبي الخامل والكسول لدى كبار موظفي الادارة العليا من المسؤولين ، وتنعكس بصورة مباشرة على صغار الموظفين و المسئولين ، من خلال شيوع نفس اللامبالاة والتقصير- المتعمد أو غير المتعمد- في المسؤولية العمومية ، وذلك بعدم توفر اليات المراقبة واساليب المحاسبة ، وجعل المفسدين في مأمن من دروب المعاقبة القانونية ، وكأننا نجد أنفسنا أمام تكريس غير مقصود ربما لسياسة اللاعقاب . إزاء كل ذلك ، ينطرح أمامنا السؤال الحاسم والملح ، حول معايير ومقاييس تسلم زمام المسؤوليات العمومية داخل أجهزة الدولة وفي رحاب مؤسساتها العامة والادارية : هل المدراء في تلك الأجهزة الادارية والحكومية والمؤسسات العامة يتم تعيينهم وفقا للكفاءة ؟ وحتى إذا كان كبار المسئولين الاداريين والحكوميين على درجة كبيرة من الكفاءة والاهلية ، فكم عدد الذين يولون عملهم أهمية مواطنبة وأولوية تدبيرية ؟ وكم هو عدد الساعات الفعلية التي يقضيها أولئك المسؤولون لأداء العمل الاداري والمهني على أكمل وجه ، بمعنى أن السؤال ينطرح بحدة حول النجاعة في الاداء والانتاجية في العطاء ؟. العديد من الموظفين الادارييين الكبار ، والمراجعين من المرتفقين لدوائر المسؤولية الادارية والمؤسسات الحكومية ، من المواطنين وغيرهم من المرتفقين ذاتيين أو معنويين ، يراقبون و يرون أن كبار المسئولين الاداريين يمارسون اعمالهم في وقت محدود ، وكأنهم في زمن اداري مهدر ومنساب بنسب عالية من اللانتاجية ، وإذا استخدم أحدهم الموظفين التابعين لمؤسسته للقيام بعمل ما فيكون بشكل غير ناضج ولا مسؤول ولا مهني في اغلب الاحوال ، مع ضوررة الانتباه الى ظاهرة خطيرة لا زالت مستشرية ، وهي تسخير أغلب إمكانيات الادارة ومقدراتها للأمور الشخصية ، بل وتصييرها لخدمة العائلة والاقارب والازلام . بجملة واحدة ، فلابد للحكومة من وضع برامج رقابية ومحاسبية واضحة والعناية بانفاذها والتحقق من اعمالها في واقع الحياة الادارية اليومية للمواطنين ، عبر آليات تسهل متابعة ومحاسبة الموظفين الاداريين عن تقصيرهم ، مع العمل على مكافئة ذوي الانتاجية العالية والكفاءة المقتدرة والعطاء المبدع . خلاصة القول ، فإن فعالية ونجاعة وسرعة الاصلاح الشامل والعام الذي هو مشروع حكومة الانتقال الديمقراطي الحقيقي الماثلة الان في المغرب ، تظل متوقفة ومرتبطة بدرجة أولى بمستوى التقدم في دينامية الاصلاح الاداري ، وبكفاءة إعمال مقاييس ومعايير النزاهة والشفافية والكفاءة التدبيرية في تسلم واكتساب واكتساب المسؤوليات العامة المفصلية في الادارة المغربية ، فكسب رهان التخليق الادارية ورفع منسوب الاداء المهني الكفئ والجرأة في تطوير البنيات والمؤسسات الادارية ، هو نفسه رهين بشروط عدة ، من جملتها التقدم في احداث ثورة في اداء و انفاد البرنامج الاصلاحية للحكومة في جملة من القطاعات والوزارات ، أي ربط المسؤولية بالكفاءة والجدارة والاقتدار لا بالولاء والقرب والزبائنية والحزبية ، ولذلك وجب الاسراع في تجاوز أعطاب اداة الاصلاح الت ي هي الادارة ، فورش الاصلاح الاداري انطلق ولزم فيه الحزم والشجاعة والاصرار .