يرى أغلب الملاحظين أن الاختلالات الكبيرة التي تعيشها الإدارة المغربية تشكل عائقا ضخما في وجه تطور البلاد وتؤثر سلبا على جميع القطاعات دون استثناء، الأمر الذي عمَّق الفجوة بين الإدارة والمواطنين. ورغم أن المغرب يمتلك ثروات مادية واقتصادية وبشرية وطبيعية ومناخية... فإنه يعيش مشاكل شتى، يدخل ضمنها الخلل الكبير والمخجل الذي تعرفه الإدارة المغربية، حيث إنها تعرف فسادا كبيرا ناجما عن الفساد السياسي وضعف التسيير والتخطيط، مما جعل المواطن يشعر بغبن وغربة كبيرين نتيجة هذا الفساد الذي يحول دون دمقرطة وطنه ونموه، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعلميا وتربويا... كما يعود ذلك إلى أن أغلب المسؤولين الكبار عن مختلف القطاعات الأساسية لا يتمتعون بالكفاءة والنزاهة، حيث لا يعملون إلا على تحقيق مصالح من وضعوهم على رأس هذه المؤسسات والقطاعات، كما أنهم يخدمون مصالحهم الخاصة، أضف إلى ذاك أنهم يشتغلون بمزاجية ودون إشراك المواطنين والموظفين، مما أدى إلى الاستبداد والفساد وترسيخ الريع وترهل الإدارة، وساهم في تدهور الأوضاع في مختلف القطاعات والمجالات، لأنهم يمارسون التسلط بدون أدنى مسؤولية. وعندما يمتلك البشر السلطة دون مسؤولية، فإن ذلك يؤدي إلى التسيب والفوضى وتدمير المؤسسات وسيادة قانون الغاب، فنوعية التدبير الإداري عامل أساس في تقدم البلدان أو تخلفها، حيث إن سوء التدبير يؤدي حتما إلى الفقر... إنه لا يمكن أن تكون هناك حكامة بدون إقامة أجواء تسود فيها الشفافية والمسؤولية ودولة الحق والقانون واللامركزية والمشاركة والتوافق والمحاسبة وامتلاك الرؤية الاستراتيجية. يكون الإصلاح في البداية مؤسسيا، ثم يأتي بعده الإصلاح السياسي، فالإصلاح الإداري... وإذا حدث خلل في أي من هذه الإصلاحات، فإنه يؤثر سلبا عليها كلها، لذا فإن هناك إصلاحات كثيرة ينبغي أن تؤسس للإصلاح الإداري. ويلزم أن يتم إصلاح الإدارة من الرأس لأنه مهما كانت جودة الهيكل الإداري ودقة تحديد الوظائف وغيرهما، ومهما تعددت الرقابة الإدارية والمالية وغيرها، ومهما تطورت القوانين، فلن يكون هناك إصلاح ما لم يتم إصلاح الإدارة وتكوين المسؤولين أكاديميا وترسيخ قيم المواطنة والمساواة فيهم، واعتماد مقياس الكفاءة في اختيارهم. فالمسؤولون الإداريون الكبار هم الذين يصوغون أغلب القوانين وهم الذين يطبقونها ويشركون الموظفين والمواطنين في العمل والرأي واتخاذ القرار ويطورون الهياكل التنظيمية ويحددون الوظائف وغيرها. لكن عندما يتأمل المرء في كيفية اشتغال إدارتنا المغربية، يجد أن أغلب مسؤوليها الكبار غريبون عن الموظفين والمواطنين ومتعالون عليهم، حيث هناك فجوة كبيرة وعميقة بين الطرفين لأن هؤلاء المسؤولين يعتبرون أنفسهم فوق البشر وفوق أي قانون وكأنهم ليسوا مغاربة ولا ينتمون إلى هذا الوطن. ويعود ذلك إلى آلية تعيينهم القائمة على المحسوبية والسمسرة لا على أساس الكفاءة والنزاهة والوطنية وتكافؤ الفرص، لذلك نجد أن هَمَّ المدير منحصر أساسا في خدمة الجهة أو الشخص الذي وضعه على رأس المؤسسة التي يديرها، ولا يعير اهتماما للمصلحة العامة ولا للعاملين معه، حيث لا ولاء له لوطنه، وإنما لأولياء نعمته. ومن هنا، يبدأ ضعف شخصية المدير وعدم استقلاليته وفساد قيمه وشلل تفكيره وسلبية أدائه الإداري. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تنعكس قيم هذا المسؤول وفكره وسلوكه وخبرته على عمل الإدارة وموظفيها، ويتجلى ذلك في أن كثيرا من المسؤولين السياسيين والإداريين الكبار يقضون من الوقت في الجلوس والتفكير مع المتعهدين والسماسرة أكثر بكثير مما يخصصونه لخدمة مصلحة الوطن والمواطنين، كما أن أغلبهم لا يمتلك مؤهلات علمية وإدارية... ما جعل الريع والفساد يشكلان أكبر مؤسسة في بلادنا، الأمر الذي يحول دون حصول تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية تساعد على التنمية الشاملة. إضافة إلى ذلك، فإن التعيين ببلادنا في المناصب الاستراتيجية محصور في أبناء بعض العائلات النافذة، اجتماعيا واقتصاديا. هكذا نجد على رأس المؤسسات الكبرى أبناء عائلات محدودة ومحددة، وذلك رغم أن المغرب يتوفر على كفاءات عالية تنتمي إلى مختلف الجهات والأقاليم. وقد حول أبناء هذه العائلات القطاعات الأساسية في البلاد إلى إقطاعيات خاصة بهم وبمن يحمونهم. إذا كان يتم تعيين المسؤول الكبير على أساس الولاء والمحسوبية... فغالبا ما يتم تعيين المديرين الذين يقعون تحت إمرته وفق الأسلوب ذاته. فعندما يتم تعيين المسؤول الكبير بأسلوب خاطئ، فإنه سيمارس الأسلوب نفسه في تعيين من سيعملون معه. ونتيجة ذلك، تتحول الإدارة إلى فضاء موبوء يعادي الكفاءة والجدية والإنتاج وقيم الديمقراطية والوطنية... ويعود ذلك إلى غياب العمل بمبدأ تكافؤ الفرص وعدم اعتماد قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب. وإذا تم تعيين المسؤولين الإداريين الكبار وفق معايير موضوعية تكون شخصيتهم قوية ومستقلة، ويكون ولاؤهم كبيرا لوطنهم وعملهم، كما يكون أداؤهم جيدا وموضوعيا، مما يساهم في وصولنا إلى بناء الديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون والحكامة، وهذا ما يمكن أن يعقلن الإدارة ويضفي عليها بعدا إنسانيا. فضلا عن ذلك، لا تتسم إدارتنا المغربية بالشفافية، حيث لا يعرف المواطنون كيف تنفق الأموال العمومية الطائلة في مختلف القطاعات. ويعني غياب الشفافية وجود انحرافات. وتبعا لذلك، ألا يوجد فساد في أغلب القطاعات الحكومية، وعلى رأسها قطاعات السكنى والتعمير وبناء السدود والصيد البحري وتحصيل الضرائب...؟ ألا توجد خروقات خطيرة في أغلب المؤسسات العمومية؟ ألا يحق للمغاربة التساؤل عن كيفية صرف الملايير الضخمة المخصصة لما سمي بالبرنامج الاستعجالي الخاص بوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي؟ ألا يتعلق الأمر بمشروع زائف غير مدروس وغير ذي جدوى؟ أليس ذلك، في الأغلب الأعم، مجرد سلسلة لامتناهية من الصفقات لا فائدة تربوية ترجى منها؟ ألا تعلم السلطة بوجود هذا النزيف الخطير؟ ومتى سيتم إيقاف ذلك ومحاسبة كل من يثبت في حقه التلاعب بالمال العام؟... فوق ذلك، هناك فراغ قانوني في مجالات شتى، كما أن المساطر والإجراءات مليئة بالأخطاء والثغرات وتتسم بالغموض والبطء...، الأمر الذي يعرقل إنجاز المشاريع ويقتل حل المشاكل، فيضيع الوطن والمواطن. كما تهيمن على إداراتنا عصابات من الفاسدين يستعملون المشاكل والحلول لاستغلال الموظفين والمواطنين، مما جعلهم يُلبسون الحق بالباطل ويحرفون النصوص حتى أصبح المواطن لا يجرؤ على الدفاع عن حقوقه إلا عبر تلبية شهوات هذه العصابات وإلا فإنها ستتكالب عليه وتهينه... وهذا ما يغيظ المواطن ويجعله يكره الإدارة، وقد يصبح سلبيا وخاملا. والخطير في الأمر أنه غالبا ما يجد أن من يشتكي إليه أفسد ممن يشتكي منه. ويرجع ذلك إلى أن إدارتنا لا تشتغل وفق منطق المؤسسات والقانون. علاوة على ذلك، إذا كان المسؤولون يتلقون رواتبهم من الضرائب التي يدفعها المواطنون، فإن أغلبهم يسيئون استعمال السلطة، إذ عوض معاملة الموظفين والمواطنين باحترام وموضوعية، نجدهم يهدرون حقوقهم. ويعود ذلك إلى أن هؤلاء المسؤولين قد وضعوا أصلا لخدمة من وضعوهم على رأس هذه المؤسسات، لا لخدمة الوطن والمواطنين. إنهم يُعَقِّدون الإجراءات ولا يستمعون إلى المشاكل ولا يعيرون أي اهتمام لحلها، بل إن أغلبهم يفرغ الكثير من القوانين والمراسيم من مضمونها، وهو ما جعل المواطن يشعر بضرورة الإصلاح الشامل. يقتضي الإصلاح الإداري ومعالجة المشاكل وتطوير المشاريع والتنمية الشاملة وجود إصلاح شامل يؤدي إلى حكامة جيدة، أساسُها الديمقراطية والعقلنة والشفافية والمحاسبة...، كما يلزم نشر الثقافة والوعي والفكر النقدي لدى جميع المواطنين واعتماد الحوار الوطني الجاد وإشراك المواطنين في اتخاذ القرارات بشكل دائم، وينبغي أيضا ضمان حرية الإعلام والتعبير والنقد الجريء.