للغة سطوة كبيرة على الواقع حتى أنها تصادِر عليه من دون أن يصادِر عليها، أي أنها تؤثر فيه، أحيانا، أكثر مما يؤثر فيها. ولا شك أن وقعها عليه سحري بكل ما تحمله كلمة السحر من دلالات، مادام السحر في عمومه ممارسة لغوية (تعويذات وهمهمات) قد تفعل فعلها في الحياة المادية، أو هكذا يفترض. فكما انبثقت الأكوانُ من فعل الكينونة الإلهي المصرّف في الأمر (كنْ)، فاضتْ كثير من الموجودات المادية عن أفعال لغوية وصار للقول سبقٌ على الفعل حتى لا نقول صار القول فعلا أو هو الفعل. وهكذا كان القسَمُ قيدا ملزما للقيام بأمور أو الكف عنها، واقترنت الزيجات أو انفرط عقدها بالكلام وحلّ الأكل وحُرّم بالكلام، وفُرِّقَ الكفرُ والإيمان بالكلام، وصُرِفت الجانّ وسُخِّرتْ بالكلام، وعمّ الخير وحاق الشر بالكلام. من هذا المنطلق راهنت العرب على أفعال الكلام أكثر من رهانها على الأفعال المحسوسة ذاتها، حتى حُقَّ عليها أن تسمى بالظاهرة اللغوية والصوتية، لأنها آمنت بالكلام أكثر من إيمانها بالعمل، فأضحت تحل مشاكلها باللغة وباللغة وحدها، مما دفع أسلافنا إلى القول بأن العرب كانوا إذا أرادوا أن يحللوا أو يحرّموا شيئا وضعوا له أسماء حسب الحاجة، إذ يصبح الگط -بجيم مصرية- (قط البراري) حلالا، فيما يظل القط (الداجن) حراما، ف«القهوة» حلال بينما الرشوة حرام، والربا البنكي سُحْت أما الفوائد والأتعاب فرزق ساقه الله هنيئا مريئا، والنبيذ حلال، لكن الخمر حرام، وهكذا... حتى أن الرواة زعموا بأن خلفاء بني العباس (وهم مسلمون ولا أحد يجادل في ذلك) احتسوا النبيذ جميعا ما عدا واحد (لاداعي لإقلاق راحته الأبدية) لكنهم لم يقربوا الخمر .ولا مفارقة، مادام الخمر هو عصير العنب (كما قالت المعاجم وكما تأوَّلها فقهاؤهم)، أما النبيذ فعصير التمر !! تأسيسا على هذا المنطلق يتم التحايل على الجن والإنس بالكلام، فيما يشبه الخداع البصري، وهو تحايل يراد به تفادي الاصطدام بالرقابات الاجتماعية والمواضعات الأخلاقية، حيث تأخذ الكلمات بعدا آخر تخف حدته أو تشتد. يظهر هذا بجلاء عندما نتلافى بعض الكلمات العربية ونستعمل مكانها مقابلات أجنبية، سيما في العلاقات الحميمية وفنون الإتيكيت وهلم بهرجات. بيد أن هذا لا ينطبق على العربية وحدها، فكثير من الحضارات أولت الكلمة قيمة مطلقة (الديانات عموما) وأسست عليها ركائز صلبة من حجر وطين أو شحذت منها أسلحة صارت بفعل التداول ماضية وقتالة. ولعل مصطلح «صراع الحضارات» الذي اقترحه فوكوياما، مثلا، عجّل بالصراع بين الحضارة الغربية و«الحضارة الإسلامية» -أو بعض تجلياتها كما يفهمها بعضهم-والأمر ذاته بسري على عبارات يتم تطويعها لتستجيب للطلب، من قبيل «النيران الصديقة» و«الأسلحة غير القتالية»، ضمن عملية ممنهجة لإثارة مزيد من البلبلة والالتباس وفق منظور «الفوضى الخلاقة» و«القوة الناعمة!»