مخطئ من يعتقد أن رئيس الحكومة الحالي لا يملك أي مشروع ! وأقسم بشرفي أنه يتوفر على مشروع واضح وصاف كالماء الزلال..مشروع يحمله معه في كل تحركاته ولم يعد بإمكاننا تجاهله.. هذا المشروع هو التواصل. وهو يتشبث به أيما تشبث ولا يسعنا سوى الإقرار بثباته. فالرجل يتواصل.. ويواصل التواصل.. ولا يكف عن التواصل.. بل إن ذلك هو المحور الأساس لسياسته. لا شك أن للرجل دراية عميقة بهذا المجال، لكن التواصل محفوف بالمخاطر لما يتم تحويله إلى فضاء فارغ.. فضاء لا يحتكم إلى أي مضمون، ولما يتم حصره في قوقعة بعيدة عن الواقع. بعبارة أخرى، لما يحاول التواصل الاكتفاء بذاته..لما تصير في الوقت ذاته البذرة والثمرة.. لما تصبح صوتا للأمل لا أثر له سوى صداه. بهذه الطريقة لا أثر للتواصل سوى أنه يسكر الطرف المستمع الذي ينتهي به الأمر إلى العيش على وقع هذا التواصل فقط عندما لا يستعصي الواقع ولا يستجيب إلى إرادته. هذا هو المأزق الذي سيكون على رئيس الحكومة مواجهته. فقد لزمن طويل لما كان زعيما للمعارضة، كان بإمكانه أن يضرب طولا وعرضا، والقدرة على الوعظ منحت لكلامه قوة أكبر وشرعية أوسع، خاصة وأن هذا الكلام لم يكن يعبأ بأي تبعات. هكذا أطلق العنان للسانه وأخذ ينتقد بلا هوادة كل ما يمثل في نظره الشر. وكانت المهمة عموما سهلة على العموم. فالواعظ المتواري خلف السياسي كان يهدد ويتوعد بالنار ويلوح بالجنة. وكان يلقي خطبه أمام مناضلي حزبه وعموم الناس وكلهم منتشون بخطابه التبسيطي. وبما أن الرجل رجل تواصل قدير، فإنه كان يبدي براعة قل نظيرها في العالم الافتراضي. ويجب الاعتراف هنا بأن الانتقادات الحادة والأخلاقية المدعمة باقتباسات من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية يكون لها مفعول السحر تقريبا. وفي مجتمع تسود فيه الفوارق الاجتماعية وينخره الفساد، ويعيش تحت تأثير الخطاب الديني.. وفي مجتمع يعيش في الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاحش المستفز، ترك الوعظ والمنبر ونزل إلى الشارع حيث المردود أكبر، وحيث لم يعد له منافس قوي. هناك أطلق نار الانتقادات على الأثرياء.. على الرذائل.. على الفساد.. على المراهنات.. على الخمور..إلخ. كل هذا لإشعال فتيل برميل بارود قابل الانفجار. هكذا نجح في خلق وهم الخلاص من القمع الذي يحلم به الشعب(...) وأخذ الواعظ المقنع يركب موجة المبادئ الكبرى كالعدالة والمساواة.. وصار حماس الشعب يطاول عنان السماء.. فغدا سيكون هو يوم القيامة بالنسبة إلى كل هؤلاء الذين يكفون عن لهف ثروات المقموعين، وعليهم دفع الحساب. إن هذه الاستراتيجية كان فعالة، إذ مكنت حزب العدالة والتنمية من الفوز بالانتخابات. بيد أنه بدل أن يتخلص هذا "الفنان" من سطوة فنه، استسلم لها وصار حبيسا لها. وبما أنه بارع في فن التواصل، واصل زعيم الحزب سطوته على رئيس الحكومة الذي تحول بشكل من الأشكال إلى مجرد ناطق باسمه. وصار التواصل هو كلمة السر لفريق حكومي يعوزه مشروع ملموس وفعال. إنه الوسيلة الوحيدة لملء الفراغ وتأثيثه بالأوهام. أكثر من هذا، صار التواصل متاهة تهدد حزب العدالة والتنمية بخطر فقدان كل قدرة على مواجهة حقيقة الواقع الصعب. هكذا وقفنا على رئيس الحكومة وهو يظهر ما يشبه الشفافية حول خبايا السلطة، مادحا ضمنيا ميزاته كزعيم مجدد عازم على رفع كل التحديات. بل وذهب إلى أبعد من ذلك ووظف كل من يوجد حوله إلى حد الاستعانة بأهله، فاستحضر والدته، وأبناءه، بل وحتى سُبحته وربطة عنقه. وسار على نهجه مسؤولون آخرون، فصرنا نعرف مسارهم والسيارات التي يملكون، وحتى عاداتهم الغذائية، وبطبيعة الحال الأماكن التي يصلون فيها. بيد أنه لا نعرف إلا النزر اليسير عن برنامجهم. ويا ليت سحرهم يبرهن عن مفعوله في هذا المجال بالذات ! ولكن "ما أبعد الكأس عن الشفة" كما تقول الحكمة الشعبية الفرنسية. هكذا أخذ يلوح في الأفق خطر التواصل المسعور الذي يفقد صوابه، بل وفي بعض الأحيان، ينحرف عن الرصانة التي يجب أن يتحلى بها كل رئيس للحكومة أمام الناخبين. وينطبق الأمر على رئيس حكومتنا حين يصدح عاليا في دافوس، أمام كبار مسؤولي هذا العالم، بأنه لن يجلس إلى مائدة يحضر فيها الخمر ! مع العلم أن المغرب كان دائما معروفا بحسن الضيافة ويؤثث موائده على ذوق ضيوفه. لا شك أن رئيس الحكومة كان يتحدث باسمه الشخصي، ولكنه يدرك جيدا بأنه لم يكن في تجمع حزبي، كما أنه يدرك ما يمثله الخمر في الأديان والمعتقدات الأخرى، بما فيها المسيحية القريبة جدا من ديننا. ولو كان الزعماء المسلمون ساروا على نهجه على طول التاريخ، لما كانوا استضافوا على موائدهم العديد من كبار العلماء والشعراء العرب. وهو يدرك كذلك أن المسيحيين يشكلون جزءا مهما من ساكنة العالم العربي، ولكن يكون من غير اللائق أن يتم وضعهم في مائدة لوحدهم إن كانوا ضيوفا عندنا أو أن يطلب منهم التخلي عن شرب النبيذ. إن ثقافتنا ثقافة إدماج وليست ثقافة إقصاء. والدالية التي توجد بيننا منذ زمن بعيد، وتقتات على مائنا وشمسنا، لم تبلغ أرضنا بمحض الصدفة. فهي هنا كتعبير على أن أرضنا مضيافة. ويتعين على رئيس الحكومة، وهذا واجبه على كل حال، أن ينصت أكثر للثقافات الأخرى، فالنبيذ عندها ليس مرادفا للانحلال. ولكشف روح معنى النبيذ لدى تلك الحضارات أعطي الكلمة هنا لامرأة، واحدة من الأفاضل، كاتبة وأكاديمية وممثلة، باختصار هي اسم لامع في سماء الثقافة الفرنسية التي يحتل فيها النبيذ تلك المكانة التي نعرف جميعا. اسم هذه المثقفة هو "كوليت". وتقول "إن الدالية والنبيذ سران كبيران. فالدالية، هي الوحيدة في مملكة النبات، التي تمنحنا النكهة الحقة للتراب. يا لها من ترجمة وفية. فهي تحس وتعبر من خلال عناقيدها عن سر التراب. والحجر ينبهنا عبرها إلى أنه حي، مغذي. أما الطباشير الجاحد فيذرف من خلال النبيذ دمعات من ذهب".