من بداية قصائد ديوان «طائر البرهان»، الصادر عن دار التوحيدي بالرباط لسنة 2013 في طبعته الأولى، تجد من طلعتها البهية سمفونية الحزن المركبة بالبهاء، والانصهار الأليم، للشاعر العراقي «حيدر الحمداني»، الذي يعيش حالات إشباع رهيبة، من كل أشكال الحزن والاغتراب والوحشة والفراق النسبي..، داخل دائرة القرابة العراقية، ومن خارجها، وما يراكمه من معاناة قوية كانت كافية لتطويع حسه الشعري، غازلا الكلمات المملوءة عن آخرها، بما يكفي، من نيران الصرخة والغضب عن الواقع العام، الحافل بالاصطدام والبؤس، وتعليق الآمال في عنق القدر عسى أن يسعفهم للمرة الأخيرة في تغيير الوضع العراقي، باعتباره، أي العراق، الأرض والماء والحياة، هي بالطبع مهد الحضارات والتطلعات. من هنا، يبكي الشاعر قصائده وهو مثخن بالجراح والآلام، التي لم تبرح دواخله إلا بشق الأنفس، لكن شعرا... لقد بدأ الشاعر في ديوانه «طائر البرهان» من خلال قصيدة «مقتل أخي...آخر الحكاية»، مشيرا إلى نعيه بالشعر الدافق، عن أخيه الشهيد «محمد»، الذي تعرض للقتل الهمجي الأمريكي بطلقة رصاص غادرة، ويأتيه النبأ من أخته الصغيرة بصوت مبحوح، يقول في مطلع القصيدة : «قتلوه.... قتلوه... هكذا جاء صوت أختي المبحوح عبر قارات العالم الباردة، عبر بحار بعيدة عبر جفاف العمر في المدى البعيد عبر هذي السنين»(ص5) ما يعني في تصوير الشاعر أن الخبر جاءه كصاعقة دوارة، أحالته إلى عوالم غريبة خارج تغطية الزمان والمكان، وربما داخلها، مما استدعى أن يكون أشبه من أصيب بهذيان مرحلي، يعيد ترتيب النبأ في محاولة لتقبل واقع موت أخيه، الذي ترجمه إلى أن طلقة رصاص في اتجاهه تعني تحرير العراق ونهاية الحكاية، لكأنه خطاب موجه إلى المخطط الأمريكي حتى يستوعب روح الوعي العراقي بكل القضايا المتعلقة بأرضه وثرواته، يقول الشاعر بصدد هذا: «صرخت، حزنت، بكيت، في النهاية عرفت أن أخي الصغير قد قتل... بطلقة حررت العراق ! هل يا ترى بعد كل هذه الموت سنختلف....؟» (ص 6) ومن هنا يعيد إلى نفسه خطوطا عريضة من الآمال الكبرى بسبب «طائر البرهان» الذي اختاره عنوانا لديوانه، إذ في قصيدة «طائر البرهان» يؤكد بيقين غامر بالحنين والاشتياق، بالعودة إلى الوطن الأم، ذات المياه والقصب والطائر ذي الريش الأزرق : «تركت في قلبي الوصايا وفي حقيبتي ريشك الأزرق إنك تعلم إني لم أبتعد كثيرا رغم كل المسافات عرفت المياه والقصب» (ص 33) بما أنه في المنفى يستسيغ مرارة الاغتراب القاسي، تراه يجدد حضوره القلبي والروحي الكاملين، حيث لا زال يعيش في العراق رغم كل المسافات والبعاد فهو يناجي الطائر، ليعيد تكرار الاستئناس بلغة المناجاة والحنين ونفض بعض من أحزان توغر صدره كل حين بأمر الحنين طبعا، وما ذلك إلا للتجاوب الحاصل بينهما بالعلامات والإيماءات الإشارية، ... وأن العودة حتمية في النهاية، مع ذلك فهو يبكي طالما أنه يعيش الحزن وفراق الأهل والأحبة، تراه يواسي نفسه بالشعر «وطائر البرهان» الأزرق حتى يلتئم الجرح. إن الوضع المأساوي بالعراق راكمتها مخلفات الحرب الأمريكي، محددة في ذلك الصراعات الداخلية والطاحنة، وما يطالها من الاختلالات الكثيرة والكافية لتفجير أحاسيس الشاعر حيدر الحمداني، فهو يعيد تجربة نضال الشعر بحماسة مغمورة ودفينة، تستنهض همم العراقيين وتستأثر حب الوطن بإيمان عميق، عن طريق النبش في ذاكرة العراق بكل ما فيها من نخيل ونهر دجلة، والمكان المتوسط بطفولته وحياته من أسرته وإخوانه، مع تسجيله أحداث الموت الرهيب وصناعته. لقد استطاع أن يتخير اللفظ المناسب في بناء القصيدة ليبين لكل من يحمل هم القضية العربية، التي لازالت مشغل الجميع، سواء في المحافل الدولية أو داخل الأوساط الاجتماعية المثقفة والواعية التي ترفع أصواتها عاليا من أجل السلام العالمي، وحوار الحضارات عبر مختلف طبقات الملل والنحل. هي ألفاظ أو كلمات شعرية، إن صح التعبير، وقصدا بالمعنى الدقيق، تسجل رهافات الروح، معيدة في ذلك تراكمات الجرح والألم، يحاول أن يهرب بالقاعدة التي تعرف الانسيابية والسلاسة داخل تضييق العبارة لتتسع رؤى تهم قضية وطن، ليقول: «ألا بعدا للشر والموت» بسبب الحرب ليحيى الحب والوطن والشعر، وطائر البرهان. يتجدد الشاعر في الأغنيات عن منفاه في قصيدة «مقاطع»: كان الشارع غارقا في البحر موشحا بعشرين عاما من المنفى هكذا كان علي أن أصمت بالقلب وأتسلق عنق الزجاجة في الغربة.(ص68) ما أقسى المنفى، ومرارة الغربة، والاشتياق إلى الوطن، التي عرف الشاعر قيمتها من خلال التجربة التي يعيشها، ومن ثم خلص إلى رغبة غنائية تخفف عنه وقع الواقع بما هي حالة نفسية، قلقية وثورية في آن. كما تأتي لغته في مجابهة الحدث الرهيب على البلاد والعباد، بأقوى ما يملك من دفق التصوير الذي يترجم الجراحات الداخلية، ثم عمد إلى استيقاء الدلالات المعجمية التي تفيد القالب الشعري الخالص، مبينا رغبته في الإفراج عن أشياء لا زالت تحفر دواخله بقسوة، إذ لا يذيبها إلا الشعر في أتم تجلياته ودفقه كما الشاعر في لحظات الذائقة الشعرية وهو يجدد من حيث ما يرى، أن تجربة الكتابة وتجربة الجرح والمنفى أغنية حتمية للواقع والقدر معا.