تتحمس الخطابات الرسمية ونشرات أخبار إعلام الدولة كثيرا لتمجيد الإنجازات المغربية في ما يخص الاهتمام بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، كلما تعلق الأمر بالاحتفال باليوم العالمي للمعاق، وهذه صيغة من القداسات الرسمية التي يحاول المسؤولون تكريسها كصيغة وحيدة لتذكر فئة من المواطنين حكمت عليهم أقدار المرض والإصابة الجسدية أو العقلية ونكران من يهمه الأمر أن يعيشوا كل أنواع المعاناة التي تتضخم بلا حدود كلما كانوا من المنتسبين إلى الفئات المسحوقة والمناطق المهمشة. إنه الوضع الذي لا ترغب السلطات في إبرازه، لهذا لا نصادف الكثير من الحديث عنه في الإعلام الرسمي، إلا أن أصوات المعاقين توصله بكل الصيغ. الإعاقة قدر لا يختاره الناس لكنهم يقبلون التعايش معه، حين يسكن أطراف الجسد أو ذهنه أو أحد أعضائه. قدر لا يمكن رده حين يأتي، لكن أن يصير نقصا يُشتم بسببه الناس أو يهملون فالأمر غير منطقي، لأن ذلك ليس من قيم ثقافة الإنسان الأصيلة. الكثير من هذا يحصل في وطننا ولا يحس بعنفه إلا الشخص المعاق أو المقربون منه، وهذا ما تحكي عنه شهادات عديدة جمعتها من مدن وهوامش المغرب. الإعاقة محنة بلا حدود لا يمكن أن يقلص عنفها إلا مبادرات من طينة خاصة لا توجد في مجتمعنا، ولا يمكن لكل شعارات الجهة الرسمية أن تعوضها. فالشعار كما الخطاب يبقى بعيدا عن الواقع ولا يسمح بتجاوزه. لهذا تقول فاطمة.ل (أستاذة) بكامل المرارة: «الشيء الأساسي الذي تقوم به الدولة هو رفع شعارات رنانة تتشدق بالاهتمام بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا المصطلح هو تجميل فقط لكلمة معاق، والأمنية الحقيقية للمعاق هي ألا يقتصر هذا التجميل على المصطلح وينتقل إلى جوهر حياة هذا الكائن المقصي والمهمش، وذلك بسن سياسة حقيقية تدمجه بالفعل في المجتمع وتقلص من معاناته». الاتجار بآلام الغير ما يحصل الآن، حسب فاطمة، هو الاتجار بآلام هؤلاء وتجميل الوجه الرسمي بدعوى الاهتمام بقضية ذوي الاحتياجات الخاصة، «فلا مبادرات حقيقية تجاه المعاق، ولا مساعدات فاعلة، ولا مساع جادة للإدماج في المجتمع، ولا مجهودات لتغيير النظرة السلبية المكرسة تجاههم، ولا ولوجيات، ولا مراكز للاستشفاء والترويض، ولا مستلزمات طبية خاصة بهم بشكل مجاني كالكراسي المتحركة، والأطراف الاصطناعية، وآلات السمع، وأجهزة المشي، ولا قوانين خاصة تلزم الإدارات بالتعامل الخاص معهم، وكل ما يوجد هو شعارات يوم المعاق التي يتقن الإعلام الرسمي ترديدها، وخطب لا تكرس إلا الكذب والبهتان بصدد الاهتمام بالمعاق، في الوقت الذي لن يفيد كل هذا في تغيير الواقع». ما تعبر عنه فاطمة تؤكده كل الشهادات الأخرى، ويمكن أن يلاحظ في المحيط الخاص الذي نعيش فيه. فالذي يتحمل مسؤولية الاعتناء بالمعاق هو أبناء عائلته، وكلما تقلص إسهام هذا الطرف إلا وازداد اغتراب المعاق في الوجود والمجتمع، فالدولة تبدو من دون مسؤوليات ملزمة بالفعل تجاه هذه الفئة، لهذا تجعل الحديث عنهم مرتبطا ببعض المناسبات، كما أن وجود مناصب بصيغة كتابة الدولة أو حتى وزارة لا يفيد في تغيير وضعية المعاق، وذلك ببساطة لأن لا شيء يتأكد من كل ما يقال في الحياة اليومية للمعاق. معاناة المعاق يعيشها لوحده أو مع أسرته وأقاربه فقط، هذا ما يقوله عبد الحق أقشاش، وهو رئيس لجمعية المعاقين بتيغسالين، فبرأيه «لا أحد يهتم بالمعاق، خاصة إذا كان ينتمي إلى الأسر الفقيرة والمناطق الهامشية. فبتيغسالين مثلا هناك مجموعة من الحالات تعيش أوضاعا مأساوية، لأنه ليس في إمكانها التحرك من مكانها، وتحتاج بالضرورة إلى من يساعدها على الحركة والنهوض من الفراش، والمؤلم هو أنها من وسط فقير بل معدم. فما تحتاج إليه مثل هذه الحالات هو الدعم المادي بشكل رسمي، وهذا ما لا يحصل لا لهذه الحالات ولا لكل الحالات الأخرى وأنا منها. وضعنا بئيس بلا حدود، وعلى الدولة أن تقترح تعاملا خاصا مع هذه الفئة التي تعيش أوضاعا جد سلبية، فما يرفع من شعارات لا يغير من بؤسنا، وما نحتاجه هو الترجمة الواقعية للكلام الذي نسمعه في بعض المناسبات». مطالب أقشاش هي نفسها مطالب محمد من نفس المنطقة، حيث يرى أن الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في المناطق المهمشة أكثر تهميشا من منطقتهم. فبرأيه، قد يكون هناك بعض الاهتمام بهذه الفئة في المدن الكبرى، أما في الهوامش فلاشيء هناك غير المعاناة الدائمة. «في منطقتنا لا نلمس أي اهتمام لا بالشخص المعاق ولا بالإطارات الجمعوية التي ترتبط به وتحاول طرح معاناته». إنه نفس ما يذهب إليه سليم محمد، رئيس جمعية الرحمة للإعاقة الشاملة بفاس، فبحسبه «وضع المعاق لا يتغير، والعمل إلى جانب هذه الفئة بشكل دائم يبين أن ما يقال عن الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة ليس له أثر في الواقع، ففي الكثير من المرات نعامل بشكل مهين خاصة في المستشفيات، وحينما ترغب في أن تكون مفيدا للمعاق من داخل العمل الجمعوي يُعرقل عملك ويتم إكراهك على الارتباط بلون سياسي لهذا الحزب أو ذاك إن أردت الاستمرار في عملك. فالكثير من الوقائع في الحياة اليومية للمعاق تؤكد الاهتمام الحقيقي بمسألة مؤجلة إلى عقود أخرى». معاناة بلا حدود معاناة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لا حدود لها حسب الجميع، وتتعدد بتعدد الحالات والمناطق. هناك المعاناة المفتوحة على كل العنف ويعيشها أولئك الذين يهيمون على وجوههم في أرض المغرب بسبب إعاقتهم الذهنية، ولا من يرحم لأنه لا سقف يحميهم من برد الطقس والأيام، ولا أكل ينعش ما تبقى فيهم من حياة، ولا مؤسسات تلتقطهم للحماية والرعاية والعلاج، وحين يُشحنون إلى مراكز خيرية يكون ذلك بكامل القساوة دون أن يتم توفير ما يقلص من محنتهم. وهناك معاناة فردية تفتح جراحا أخرى وجدانية ونفسية وجسدية تجعل الإعاقة تأخذ أوجها متعددة بعد أن كان لها وجه واحد. ومن معاناة المعاق ما يحصره المهدي من الدارالبيضاء حيث يقول: «ما يجب تصحيحه أولا هو أنني حالة خاصة ولست شخصا معاقا، وما أعانيه كشخص يعيش فوق كرسي متحرك له أوجه عديدة، منها مشكل التنقل، فلأجل الذهاب إلى المدرسة علي أن آخذ سيارة أجرة، وهكذا أستيقظ باكرا وأغادر البيت على الساعة السابعة عساي أجد من يوصلني إلى المدرسة في الثامنة. فأغلبية أصحاب سيارات الأجرة لا يرغبون في مساعدتي أثناء الركوب وحمل الكرسي الذي أتحرك بواسطته، وفي الكثير من الأحيان لا يتوقفون لي حتى وإن كانوا لا يحملون معهم أحدا، وهذا برأيي مخالف لتربيتنا الإسلامية، ويؤكد أننا بدون وعي إنساني. الوجه الآخر للمعاناة الخاصة بي -يضيف مهدي- هي أنني حصلت على دبلوم في الإعلاميات لكن لم تقبل أية شركة طلبي للعمل عندها لسبب بسيط وأساسي هو غياب البنيات الضرورية والولوجيات. المسألة الأخرى هي أن المنظمات التي تدعي مساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة يقف وراءها لصوص أحيانا، ويعملون على توجيه ما يتوصلون به من دعم إلى أقربائهم وإلى مصالحهم الذاتية. وشخصيا، تعرضت لابتزاز حقيقي من أجل الحصول على كرسي إلكتروني، فقد طلب مني مقابل ذلك أن أشارك في برنامج تلفزيوني، وقد رفضت لأنني لم أقبل أن أقوم بالدعاية لأي كان. نحن طبعا أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة لكن لنا كرامتنا. الشيء الآخر الذي أعاني منه أيضا هو أنني أخشى الخروج مع عائلتي وأصدقائي، وذلك لأن بعض الناس يتوقفون أمامي ويمنحونني صدقة». هموم مشتركة المرارة التي يعبر عنها المهدي هي الشيء المشترك بين الغالبية، وإلى هذا يشير سليم محمد، حيث يقول: «أتعرض أحيانا لإهانات وقد أشتم بإعاقتي، ويتم صدي في الكثير من المرات حين أتوجه باسم الجمعية التي أشتغل فيها لإيجاد حل لحالة ما تأتي عندنا في الجمعية، خاصة في المستشفيات، وأحيانا أقول لو أنني كنت بصحة جيدة لتخليت عن هذا النوع من العمل الجمعوي الذي لا يتم دعمه إلا بشرط خدمة المصالح السياسية لهذه الجهة أو تلك. طبعا، في عملنا نلاقي الكثير من المتفهمين والكثير من المحسنين، إلا أن ما يطغى أكثر هو عدم التقدير وعدم المساعدة، وأكثر من هذا قد تجد من يستغل المعاق لتحقيق أهدافه الخاصة وغايات غير شريفة. فبمدينة فاس، استغل أحد الأشخاص جمعية للأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة للكسب وتهجير الناس إلى الخارج، وهو ما أدى به إلى السجن، ومثل هذه الأشياء محزنة وجارحة». ما يحز في نفس حالات أخرى هو أن الإعاقة والوضع الاجتماعي كانا وراء انقطاعها عن الدراسة، وهذا هو حال محمد من تيغسالين الذي يتحسر على حاله. فبرأيه، لو كان هناك من يساعده على الاستمرار في متابعة الدراسة لكان ذلك قد قلص من غبنه. «لقد تأثرت نفسيا بسبب إعاقتي الجسدية، وذلك انعكس ذلك على مساري التعليمي، وما عقد وضعيتي أكثر هو حالتي الاجتماعية». إنه نفس حال عبد الحق أقشاش الذي يعني من الإعاقة هو وأخته، وقد كان ذلك وراء مغادرته للقسم، خاصة أن وضعه الاجتماعي لم يكن يسمح له بالذهاب إلى مركز بعيد عن بلدته حيث توجد الإعدادية. «وضع المعاق -حسب أقشاش- يعني المعاناة وعدم التقدير، ويكفي أن تعرف أن كل ما نحصل عليه من دعم للجمعية التي نشتغل فيها هو 2000 درهم في السنة، لتفهم أن ما تبقى من أمل لدينا للتعريف بوضعية المعاق يتم إفناؤه». الذي يقدر المعاق، حسب غالبية الحالات، هو المواطن البسيط القريب من محيطه، فهو يتصور أن لا فرق بين البسطاء والمغلوبين، ويكفي أن تكون مغلوبا ومعدما لتحس بأنك من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة جدا. ومهم جدا أن ينتشر هذا التعامل الإنساني بين كل الناس لأنه يرمم بعض الخرابات العميقة في الذات. إلى هذا بالضبط تشير شهادة الطفل محمد الصادق من فاس ويقول فيها: «أعيش الإعاقة كشيء عادي، وأعتبر نفسي كباقي الأطفال، وكل التلاميذ يعاملوني باحترام في المؤسسة، ونفس الشيء بالنسبة إلى الأساتذة، وهذا يشجعني أكثر على تفهم ما أعانيه وأقبله كشيء طبيعي. ما أحتاج إليه أساسا هو حصص الترويض، فأنا لا أستطيع النطق جيدا، كما أنني معاق حركيا وإن كنت أتحرك دون مساعدة، ولأن أسرتي فقيرة ليس بإمكانها أن تفعل شيئا من أجلي. إنه أمر يحزنني، وسيكون رائعا لو كان هناك من ينظر إلى حالي وإلى كل الحالات التي تشبهني». ينهي محمد الصادق آخر كلمة في حديثه بصعوبة ليأخذ نفسه ويغرق في الصمت نفسه الذي غرقنا فيه كحضور داخل الجمعية التي التقينا به في فضائها، ليقول الصمت بالنيابة عن الذين يرغبون في إسماع صوتهم ومعاناتهم دلالات لانهائية وأشياء أقوى بصدد محنة الإعاقة وعنف النكران بالنسبة إلى مواطنين أرادت لهم الأقدار أن يكونوا من ذوي الاحتياجات الخاصة في وطن غير رحيم بكل الضعفاء.