مع رحيل العام يرحل هارولد بينتر، المثقف الملتزم الذي استحق جائزة نوبل للآداب سنة 2005 عن أعماله المسرحية المتميزة. رحل هارولد بعد مسيرة عطاء طويلة برز فيها الفكري والسياسي والأخلاقي كما الكاتب الملتزم الذي لا يتوقف عند هم الكلمة، فحسب، بل عند كل هموم الإنسان. يبقى هارولد بينتر أحد أبرز الوجوه المسرحية التي ميزت تاريخ التأليف المسرحي بشكل خاص، والإخراج، بشكل عام. صُنفت أعماله ضمن المسرح العبثي، الذي يعتبر أحد أهم الأجناس الإبداعية على الإطلاق؛ وقد تأثر في هذا بصامويل بيكيت، الذي ارتبط معه مؤلفنا بصداقة متميزة. يعود بينتر بالمسرح إلى أساسه القاعدي من خلال كثير من المؤشرات منها، خاصة، تحريفه المفاجئ للحوارات، وتصوره لمسرحيات مغلقة حيث تُترك الشخصيات في مواجهة بعضها البعض، وحيث تسقط أقنعة المجاملة الاجتماعية. بل يتعمق الكاتب أكثر من ذلك في تحكمه في شخصياته إلى الحد الذي يجعلها غير متوقعة، لا مرئية، كاشفة عن مواطن ضعف وأوجه غرابة في هوياتها. فلا غرابة في أن يموضع الكاتب مسرحياته في فضاءات داخلية يُخضعها للوصف الدقيق. أحيانا تتحول الحوارات البسيطة، في الكتابة المسرحية عند هارولد بينتر، إلى فضاءات مفضلة تمارس فيها استراتيجيات السيطرة وعلاقات القوة التي تبرز شيئا فشيئا مع تطور وتيرة الحوار. أما الحوار نفسه فهو خليط، عند الكاتب، ما بين توظيف العبارات الطبيعية، التي تتميز بالجمل القصيرة واللجوء إلى اللغة العامية وبين الجنوح اللغوي. وُلد بينتر سنة 1930 بمدينة لندن من أبوين يهوديين من أصول روسية. في سنة 1951، التحق بالمدرسة المركزية لفنون الخشبة، وفي السنة نفسها انضم إلى الفرقة المسرحية المتجولة الإيرلندية أنيو ماك ماستر، المتخصصة في مسرح شكسبير. وكانت تجربته هاته بمثابة لقاء العشق الأول مع المسرح. أما مسرحيته الأولى، فقد حملت عنوان «The Room» (الغرفة) وشُخصت للمرة الأولى من قبل طلبة جامعة بريستول بينما لم تلق مسرحيته الثانية، «عيد الميلاد» (1958) نجاحا بين عامة القراء، إلا أنها لقيت ترحيبا من قبل النقاد، خاصة على صفحات ال»سانداي تايمز». بيد أن المسرحية عادت لتفرض نفسها كعمل متميز بعد نجاح مسرحيته الثالثة «الحارس» (1960)، فأعيد تشخيصها على المسارح لتجد انسجاما كبيرا بين عامة المهتمين بالمسرح. عُرف المؤلف بمواقفه السياسية الواضحة. وهو ما أسهم في تلميع صورته في مجتمع شهد الكثير من الأحداث الكبرى، التي تستدعي وضوح الرأي والموقف. ولعل أبرز ما تميزت به مواقفه في هذا الاتجاه كلمته الشجاعة التي وجهها، عبر تسجيل فيديو بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 2005، إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الأمريكي بوش، باعتبارهما كانا وراء الحرب في العراق؛ وذهب بينتر إلى أبعد من هذا حين طالب بمحاكمتهما أمام محكمة العدل الدولية، واصفا بلير ب «الغبي المتشبث بالأوهام» وبوش ب«مجرم حرب». اشتهر المؤلف المسرحي، كذلك، بانتقاده اللاذع، خلال الثمانينات، للرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر قبل أن يسلط غضبه على موقف الأممالمتحدة من الحرب في كوسوفو سنة 1999، والاجتياح الأمريكي لأفغانستان سنة 2001. يصنف النقاد أعمال بينتر إلى ثلاث مراحل، وإن كانت كل مرحلة تنفتح على الأخرى، سميت الأولى ب«الواقعية السيكولوجية»، وكانت الثانية غنائية، والثالثة سياسية. وكل مرحلة من هذه المراحل ميزتها مسرحيات دون أخرى. أعمال بينتر جعلت منه، اليوم، أهم وجه في المسرح الإنجليزي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد دخلت مسرحياته سجل كلاسيكيات الأعمال الأدبية عامة في بريطانيا وفي العالم، بل إنها أضحت مرجعيات في التنظير والتدريس والتشخيص المسرحي وكانت وراء ظهور مصطلح «البينتريسكية» المولد، الذي يحيل على كل مسرحية تنهل من عوالم الضغط والانغلاق. خلال السبعينيات اهتم بينتر بالإخراج المسرحي وأصبح مديرا للمسرح الوطني سنة 1973 فيما بدأت أعماله تميل إلى القصر وإلى التركيز على المواضيع السياسية. وقد برز المؤلف في هذه الفترة بمواقفه السياسية وانحيازه إلى اليسار، مصمما على النضال من أجل حقوق الإنسان ومناهضة القمع. واشتهر في هذا المجال باستفزازاته للمسؤولين المتورطين في الدوس على حقوق المواطنين. منها، مثلا، حديثه عن التجاوزات التركية في هذا المجال في حفل استقبال رسمي بسفارة الولاياتالمتحدة بتركيا على شرف صديقه أرثر ميلر، وهو ما تسبب له في الطرد قبل أن يلتحق به صديقه تضامنا معه. وفي سنة 2005 أحدث هارولد بينتر ضجة أخرى من حجم كبير حين إلقائه قصائد تهاجم بعنف توني بلير خلال مظاهرات مناوئة للحرب في العراق. في السنة نفسها أعلن أنه سيتوقف عن الكتابة ويتفرغ للعمل السياسي. العبارات التي جاءت في تسجيل الفيديو، الذي أوصى ببثه في حفل تقديم جوائز نوبل سنة 2005 لعدم تمكنه من الحضور بسبب السرطان، كانت ذات معان عميقة حول القيم الإنسانية. وقد قال فيها:» اجتياح العراق كان من قبيل فعل العصابات وإرهاب الدولة الفاضح، ودليلا على الاحتقار التام للقانون الدولي». هارولد بيتر لم يكن مسرحيا، فحسب، بل شاعرا وكاتبا تلفزيونيا وإذاعيا من الصنف المتميز.