هل النقاش الدائر حول إصلاح أو إلغاء صندوق المقاصة هو نقاش سليم؟ ليس السؤال هنا عما إن كان يجب إصلاحه أم لا، ولا عن كيفية إصلاحه وطرق مباشرتها، بل أساسا عما إن كان إصلاحه من عدمه قرارا سياديا داخليا تمليه ضرورة المصلحة الوطنية؟ بداية، وجب التذكير بأن صندوق المقاصة أحدث تقريبا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، من أجل دعم بعض المواد الأساسية، وذلك بتغطية الفرق بين الثمن الممكن دفعه من طرف المواطن لاقتنائها وبين تكلفتها، بالإضافة إلى الجزء الخاص من الأرباح التي يحددها المنتج، سواء منه العمومي أو الخاص... نلاحظ أن الصندوق أحدث في تاريخ الطفرة المالية التي عرفتها خزينة الدولة، في ما سمي ارتفاع عائدات الفوسفاط، بالإضافة كون الساكنة لم تكن تتجاوز عشرين مليون نسمة، ولا كانت لها أعباء مالية كبيرة... وقد أحدث في صيغة ريعية مقصودة، جعلت أغنياء البلد هم الأكثر استفادة من أمواله... كان من الممكن أن تُسَنَّ سياسة اقتصادية وطنية، تهدف إلى الرقي بالمدخول الفردي بما يمكن المواطن من مسايرة ارتفاع الأسعار، مع ما يمكن أن يصاحب ذلك من ارتفاع مداخيل الدولة عبر نمو الوعاء الضريبي وغيرها، دون الحاجة إلى إحداث صندوق المقاصة هذا... لكن شاءت النوايا والمصالح غير ذلك... أصبحت الميزانية المرصودة لهذا الصندوق تشكل عبئا كبيرا على ميزانية الدولة... لم يكن هذا وليد اليوم، بل لعل الشروط الظاهرة، على المستوى الاجتماعي أو السياسي، تفيد بأنه من غير اللائق أن يخاض في موضوع إصلاح أو إلغاء صندوق المقاصة هذا في المرحلة الراهنة... لا معنى لأن يقدم أي مسؤول سياسي على إجراء يفضي مباشرة إلى ارتفاع ثمن مواد أساسية، في ظل وضع اجتماعي قابل للانفجار، مؤطر بهشاشة اجتماعية ومنخرط في ما سمي حراكا ديمقراطيا تشهده المنطقة، اللهم إذا كان الفاعل السياسي مقبلا على الانتحار... فتح النقاش بصدده، إذن، فيه مغالطة كبيرة، خاصة حين يتمحور حول إلغائه من عدمه، لأن النقاش الحقيقي هو الذي دشنته حكومة التناوب والذي كان يرمي إلى التفكير في آليات استرجاع الجزء الذي استفاد منه غير الفقراء، أي قطاع الصناعات الغذائية والمشروبات الغازية... إذن، هل ستنطلي علينا أكذوبة شجاعة الموظفين العموميين المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية بالمقارنة مع الذين سبقوهم من تقنوقراط وأحزاب أخرى، كونهم يريدون إصلاح البلاد لا غير، أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟ لفهم هذا النقاش، يجب الرجوع إلى شهر غشت من السنة الفارطة حين خرج بعض أعضاء حكومة الموظفين العموميين يهللون للإنجاز العظيم المتمثل في منح المغرب خط قرض ائتماني بقيمة تفوق 6 مليارات دولار، والذي يمكن استعماله خلال السنتين المواليتين في حال تعرض المغرب لأزمة مالية مرتبطة بالأزمة الاقتصادية الدولية، والذي حاولوا أن يسوقوه على أنه مؤشر ثقة من مؤسسة مالية في اقتصاد البلاد وفي استقامة الحكومة الجديدة، وقبل ذلك في القيادة الرشيدة لملك البلاد، وهو تسويق ملتبس لما يكتنفه من غموض، فاقتصاد البلاد هو حاصل تدبير من سبقوهم وينعتونهم بالمفسدين، والقيادة الرشيدة ممتدة على مساحة زمنية تفوق ربما سن كبير الموظفين العموميين... ما لم يصرحوا به لمجموع الشعب هو كون هذا الخط الائتماني كان مشروطا بإصلاحات اقتصادية أساسية، لعل أهمها هو إلغاء نظام الدعم والمقاصة في أقرب وقت، أي في غضون الستة أشهر التي تلي تاريخ منح هذا الخط... وهو ما يفسر حمى النقاش الدائر حول هذا الإصلاح... لعل بالون الاختبار المجسد في اقتراح الدعم المباشر للأسر الفقيرة نوع من المهدئات الاجتماعية التي يمكنها امتصاص الغضب الذي سينفجر... في تحليل آخر، لعل ما وقع في فاس من إيحاء نفس الجهات، كي يتم صرف النظر عن هذا الاقتراح... ربما بغضب أقل وخسائر أقل.