في جميع الحرائق التي تحوِّل الأسواق الشعبية المغربية إلى «شوايات» كبرى، هناك متهم مبني للمجهول، وتصريحات تكرر نفسها أمام الكاميرا، فالنيران تتفق على الاشتعال ليلا والناس نيام، وشهود العيان يجمعون على أن شظاياها تطايرت في السماء وأن شاحنات إطفاء الحرائق لم تصل إلى موقع النكبة إلا بعد أن التهمت ألسنة النيران البراريك وحولتها إلى أشلاء متفحمة، وفي أغلب الحرائق التي تضرب الأسواق الصفيحية لا وجود لخسائر في الأرواح لأن النيران البغيضة تختار بعناية موعد مداهمتها للأسواق المستهدفة، وتحرص على ألا تتجاوز الخسائر حدود محتويات الدكاكين، كي لا تتفحم الجثث وينكشف الملعوب، بل إن بلاغات السلطات المحلية والإقليمية المذيلة بعبارة «وسيفتح تحقيق لمعرفة ظروف ومسببات الحريق» لم تعد تنطلي على المتضررين الذين لم يسمعوا يوما عن نتائج تحقيق في نوازل مماثلة. في سلا، احترقت المحلات الصفيحية ل«سوق الكلب»، بعد أن التهبت الأسعار، نجا الكلب من الحريق لأنه كان يرتع في أكوام الأزبال المحيطة بالسوق في هدوء، بعيدا عن المشواة، لو مات الكلب لكان الوضع أسهل بالنسبة إلى السلطات التي قد ترتمي على الوعاء العقاري لوفاة الكائن الحيواني المسجل باسمه وعدم وجود ورثة قد يطالبون بحقوقهم. لا أحد يعرف، بمن في ذلك مقدم السوق، سرَّ التسمية ولا كيف تحول سوق الصالحين إلى «سوق الكلب» بجرة قلم، وأصبح من الصعب على سائق أجرة أن يأخذك إلى هذا الفضاء دون أن تربطه بحيوان؛ يقول أبناء المنطقة إن المكان كان مخصصا للحلقة الدينية، حيث كان السلاويون يتحلقون حول مرشد ديني يقدم الوعظ والإرشاد، وبين الفينة والأخرى يعرض أعشابا طبية للبيع تساعد على الفحولة وتجنب من الغاز الطبيعي الذي يملأ البطون؛ ومع مرور الوقت انسحب الصالحون في هدوء وتناسلت البراريك بدعم من السلطة التي كانت تراقب سوقا يترعرع بسرعة قبل أن يزحف على حزام الأزبال التي تحيط به والتي تتحول كل مساء إلى مرتع لفيالق الكلاب الضالة. دعوات الصالحين لم تجنب السوق لهيبَ النار، فقد ظل بؤرة مهددة بالنيران؛ وكلما ردد الباعة، مع مطلع كل صباح، «يا فتاح يا رزاق» حمدوا الله على سلامة محلاتهم وقبلوا راحات أيديهم لعدم انقطاع صبيب الرزق. الحرائق في المغرب غريبة، فهي تستهدف الغابات صيفا والبراريك شتاء. ولأن المصيبة إذا عمت هانت، فإن الأسواق الصفيحية، التي تشكل منافسا حقيقيا للأسواق العصرية الكبرى، قد تعرضت للحرائق في إطار تناوب ديمقراطي مفحم، حيث لم تستثن ألسنة النيران أسواق أكادير وطنجة وتارودانت ومراكش وقلعة السراغنة والقنيطرة والشاون وشيشاوة والدار البيضاء، فأينما تولوا وجوهكم فتم نار ملتهبة تأتي على القصدير اليابس. في جميع هذه الحرائق هناك مدان واحد اسمه السلطة التي بقدر ما يزعجها الصفيح بقدر ما تقتات منه؛ فمن الباعة المتضررين من يقسم بأغلظ «النيران» بأن الغاية من «العافية» هي إجبارهم على الجلوس حول مائدة الحوار وتسريع وتيرة الإجلاء، لأن الوعاء العقاري يغري المنعشين ويفتح شهية المستثمرين والسلطة التي تجد حرجا حين يتعايش الترامواي مع البراريك في مشهد ميتافيزيقي يحرق الأعصاب. إلا أن ما يبعث على الاستغراب أكثر في هذه القضية هو إصرار السلطات على الاحتفاظ بالأسماء القدحية لهذه الأسواق، رغم أن استبدال الاسم لا يحتاج إلا إلى قرار منتخبين يحولون هذه الفضاءات إلى أسواق لبيع الأصوات الانتخابية. تشتهر سلا ب«سوق الكلب» و«سوق الميكا» الذي تحيط به أكوام البلاستيك الأسود، و«سوق علق» بالبرنوصي الذي حمل هذا الاسم بسبب الغارات التي كان يمارسها أفراد القوات المساعدة على الباعة المتجولين، ثم «سوق الحنشة» الذي كان يسيطر عليه مفتش شرطة يجمع الإتاوات من الباعة؛ لكن أشهر الأسواق «سوق العفاريت» بالدار البيضاء الذي يعرف بانتشار ظاهرة بيع المسروقات ليلا، هناك يمكنك أن تشتري «كوكوت» انتهت للتو من الصفير، أو حبل ملابس لم تجفَّ بعد محتوياته، لكن هذا السوق لم يتعرض منذ نشأته للحرائق ليس لأنه سوق ليلي ينتهي بظهور خيوط الفجر، بل لأن العفاريت كائنات نارية.