«بدون الاتحاد الأوروبي لن يكون بمقدور فرنسا تقديم الأجوبة عن التحديات الاستراتيجية التي تواجه العصر الحالي، وبدون أوروبا قوية تتحمل مسؤوليتها ودورها كقوة عظمى سيحرم العالم من قطب توازن ضروري للبشرية»، بهذا الكلام دشن ساركوزي عهده الرئاسي، وبه واجه خلال فترته الرئاسية لأوروبا المنتهية اليوم تحديات البناء الأوروبي والاحتباس الحراري والانكماش الاقتصادي. تحديات على ثلاث جبهات «لست نادما على شيء، ألم تروا كل ما حققناه في غضون ستة أشهر. لقد غيرنا أحوال الاتحاد»، بهذه العبارة علق الرئيس ساركوزي يوم 12 دجنبر في ختام اجتماع المجلس الأوروبي في بروكسل، على فترة الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي التي واجه فيها تحديات اقتصادية وسياسية على ثلاث جبهات: البناء الأوروبي والأزمة الدستورية الناجمة عن الرفض الإيرلندي لمعاهدة برشلونة ثم المشاكل البيئية المرتبطة بالاحتباس الحراري، وأيضا أزمة الانكماش الاقتصادي داخل الاتحاد. واليوم وقد انتهت مبدئيا فترة الرئاسة الفرنسية للاتحاد التي ستسلم بعد أسبوع إلى جمهورية التشيك، تتساءل الأوساط الإعلامية والسياسية الفرنسية التي أولت أهمية بالغة لهذا الحدث، عما إذا كانت هذه الرئاسة قد حققت انتصارات حاسمة في الملفات الثلاثة، أم إن الكثير من العوائق اعترضت الطموح الفرنسي في غياب سند قوي من لدن الحلفاء الأقوياء وعلى رأسهم ألمانيا؟ لا بد قبل الخوض في الصعوبات التي اعترضت المسيرة الفرنسية، من التسليم بأن فترة ستة أشهر هي فترة قصيرة بالقياس إلى ما تحتاجه الدولة الرئيسة لتحقيق جميع المشاريع التي أعدتها إبان رئاستها للاتحاد. وقد صادفت الأسابيع الأولى من الرئاسة الفرنسية موسم الصيف والعطلة الصيفية التي تمتد لشهرين (يوليوز وغشت) وهما شهران ميتان في بروكسل بالعرف الدبلوماسي والسياسي، حيث يذهب الجميع إلى العطلة السنوية ولا توجد نشاطات تذكر عدا النشاطات السياحية. ولذلك كان أول نشاط الرئاسة الفرنسية هو كساء برج إيفل بالحلة الأوروبية وتغيير إنارته من الأصفر إلى الأزرق وهو لون الاتحاد مع نجومه السبع والعشرين، في انتظار حلول شهر شتنبر لمعانقة الصعوبة الأولى وهي الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة. النعجة الضالة والحدث ليس سوى مقدمة لمصاعب أخرى ستعيشها فرنسا فيما بعد مع دول أخرى في الاتحاد. فقبل تسلمها مهمتها في رئاسة الاتحاد بساعات، دخلت بولونيا على الخط لتلعب دور المعرقل للمسيرة الفرنسية، إذ أعلن الرئيس البولوني ليش كازينيسكي في فاتح يونيو 2008 أنه لن يوقع على وثيقة إقرار معاهدة لشبونة والتصديق عليها. وهذا الحدث الذي برز في أول يوم للرئاسة الفرنسية للاتحاد، بدا كمؤشر كبير على عمق الصراعات الداخلية في كل بلد من بلدان الاتحاد وانعكاسها على المنظومة الأوروبية بكاملها. ولا يغيب على المتتبعين للشأن الأوروبي أن بولونيا أرادت بقرارها أن ترد الصفعة والإهانة التي تلقتها من فرنسا على لسان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك إبان حرب العراق سنة 2003 بسبب الموقف المساند للإدارة الأمريكية الذي اتخذته بولونيا ضدا على فرنسا. ومن هنا سيحتاج الرئيس ساركوزي إلى دعم قوي من قبل نظرائه الكبار في الاتحاد لمساعدته على استرجاع ما يسميه الفرنسيون ب»النعجة الضالة» إلى القطيع. فالرئيس البولوني كازينيسكي المعروف بقوميته الزائدة والذي حاول نيكولا ساركوزي بنفسه إقناعه بضرورة التصديق على معاهدة لشبونة، ينوي تصفية حساباته الشخصية مع رئيس وزرائه الليبرالي دونالد توسك الذي كان وصوله إلى السلطة مصدر ارتياح بالنسبة إلى الأوروبيين. وقد عول الرئيس البولوني على تردد نظيره وصديقه الشخصي الرئيس التشيكي، فاكلاف كلاوس، الذي وصف معاهدة لشبونة بالميتة، لخلق متاعب إضافية للرئيس ساركوزي الذي قام برحلات مكوكية بين دول أوروبا الوسطى لإقناع المترددين والمتحفظين بتبني الموقف العقلاني والواقعي إذا أرادوا بقاء الاتحاد وعدم العمل على تهميشه أو تهديمه بمواقف عنيدة ومتشددة. الأولوية المطلقة لأوروبا ويجمع المراقبون، فرنسيون وأوروبيون، أن البناء الأوروبي يسري في عروق الرئيس ساركوزي إلى درجة أنه يضعه ضمن أولوياته المطلقة. وقد أكد في أول اجتماع له مع السفراء الفرنسيين في الخارج أنه بدون الاتحاد الأوروبي لن يكون بمقدور فرنسا تقديم الأجوبة على التحديات الاستراتيجية التي تواجه عصرنا الحالي. وبدون أوروبا قوية تتحمل مسؤوليتها ودورها كقوة عظمى سيحرم العالم من قطب توازن ضروري للبشرية. وضمن انشغالاتها الأوروبية، اقترحت فرنسا تشكيل لجنة حكماء للتأمل في مسألة تراها غاية في الأهمية وهي: أي أوروبا نريد بين 2020 و2030 ولأية مهمة؟ وستقدم لجنة الحكماء تصوراتها وتوصياتها ومقترحاتها قبل الانتخابات الأوروبية لشهر يونيو 2009 لكي يتاح للبرلمان الأوروبي المنتخب وللجنة الأوروبية الجديدة، الاستفادة من ثمرات تقرير اللجنة. استراتيجية أوروبية أمنية ويراهن الرئيس ساركوزي على تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك من خلال تعزيز قدرات التخطيط وقيادة العمليات وتطوير برامج دفاعية جديدة وجعل كل دولة أوروبية تتحمل حصتها في تأمين وضمان الأمن الأوروبي المشترك. وتحتاج أوروبا، برأي الرئيس الفرنسي، إلى رؤية مشتركة وصائبة للتهديدات والأخطار المحدقة بأوروبا والعالم وسبل الرد عليها أو الوقاية منها. ولذلك يقترح إعداد استراتيجية أوروبية أمنية جديدة تخلف تلك التي أقرت سنة 2003 تحت إشراف خافيير سولانا. وفي هذا السياق، أنشأت كل من فرنسا وألمانيا سنة 2008 اللواء الفرنسي الألماني كنواة للكيان العسكري الأوروبي. ويأمل الرئيس الفرنسي إقناع دول كإيطاليا وإسبانياوبولونيا وهولندا بالمشاركة في هذا الجهد العسكري الأوروبي المشترك والتزود بما يلزم من أدوات التدخل العسكري والإنساني والمالي، من أجل أن يتبوأ الاتحاد الأوروبي الموقع الأول لتأمين السلام والأمن الدوليين بالتعاون مع الأممالمتحدة والحلف الأطلسي. فرنسا بمقودين وقد سعى الرئيس الفرنسي منذ الأسابيع الأولى إلى كسب مساندة ودعم الحلفاء الأقوياء لإنجاح فترة رئاسته للاتحاد، من أمثال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل ورئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي خوسي لويس رودريغيز زاباتيرو ورئيس مجلس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني الذي هو قريب من ساركوزي ويشاطره الكثير من القيم. غير أن الثلاثة حاولوا، كل من زاوية قناعاته ومصالح بلده، أن يفرضوا رؤيتهم في الكثير من الملفات ومن بينها ملف الاتحاد المتوسطي، حيث المواقف الغاضبة من مشروع ساركوزي جاءت من إسبانيا وإيطاليا التي رأتا في الاتحاد تقليصا لدورهما الفاعل في منطقة حوض البحر المتوسط، وألمانيا التي ترفض أن تتحكم فرنسا بمفردها في مقودين مختلفين، واحد تقود به الاتحاد الأوروبي، والثاني الاتحاد المتوسطي، مما اضطر فرنسا إلى تقديم تنازلات كبيرة بصدد مشروعها الجديد الذي أصبح ينعت بالاتحاد من أجل المتوسط وليس الاتحاد المتوسطي حتى يشمل بلدانا لا تطل على الضفة المتوسطية. وقد فهمت تلك الدول أن المشروع يكرس حضورا قويا لفرنسا في الاتحاد الأوروبي لاسيما وأن ساركوزي نفسه لم يخف أن اتحاده من أجل المتوسط يلغي مسار مسلسل برشلونة المتجمد عمليا. وإلى جانب إرغامه على مراجعة نسخته لهذا المشروع المتوسطي، تمكنت الألمانية أنجيلا ميركيل من إقناعه، في مجال الضوابط المتعلقة بمستوى التلويث الذي تسببه المركبات والسيارات، بضرورة إيجاد تسوية تخفف من أعباء صناعة السيارات الألمانية. ورفضت فرض ضريبة كاربون اقترحتها فرنسا في الاتحاد الأوروبي. أوروبا مصدر متاعب والواقع أن فرنسا تتخبط قليلا في حسم خياراتها الاستراتيجية لاعتبارات دولية وجيوسياسية متعددة، أهمها توسيع الاتحاد الأوروبي إلى الدول الشرقية، مما قلّص إلى حد كبير من مساحة الامتياز النسبي الذي كانت تحظى به داخل هياكل ومؤسسات الاتحاد. وفضلا عن ذلك، تخشى فرنسا من انضمام تركيا إلى أوروبا الموحدة، لأن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التهميش لدورها وسيلحق ضررا في اعتقادها بالهوية الأوروبية بعد اختلاط أكثر من 70 مليون تركي من بينهم خمسين مليون مسلم في النسيج الديمغرافي الأوروبي. وإذا كان إصرار ساركوزي كبيرا جدا على تغيير أحوال أوروبا بما يرسخ المواطنة الأوروبية لدى كافة الأوروبيين المنتمين إلى دول الاتحاد، فماذا تعني للفرنسي العادي صيغة «المواطنة الأوروبية»، خاصة بعد رفض الفرنسيين بالاستفتاء للدستور الأوروبي؟ ربما تعني تحقيق مصالحة بين أوروبا والمواطن الفرنسي حتى وإن لم تظهر هذه الغاية بوضوح صريح ورسمي في أولويات الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي. ثم إن المصالحة بين الجانبين غير واردة في الوقت الراهن، علما أن أكثر من ثلث الفرنسيين ينظرون إلى البناء الأوروبي بنوع من التشكك والخشية، فهو يشكل بالنسبة إليهم مصدر متاعب وتعقيد لحياتهم اليومية أكثر من مصدر ثراء ونعمة، كما تدل على ذلك مختلف استطلاعات الرأي. وربما يكون رفض الإيرلنديين لمعاهدة لشبونة قد قوى الشكوك في نفوس المواطنين الفرنسيين الذين لم تدعهم حكومتهم إلى الإدلاء بآرائهم بشأن هذه المعاهدة. فقد أعرب 41 % في المائة عن اعتقادهم بضرورة التخلي عن معاهدة لشبونة ورفضها، حسب آخر استطلاع أجرته مؤسسة «بي. إف. أ». نجاح على الأوراق يجبرنا الواقع الأوروبي بتلويناته السياسية المختلفة على إعادة طرح السؤال نفسه: هل نجح ساركوزي في اختباراته الثلاثة، البناء الأوروبي، الاحتباس الحراري، والانكماش الاقتصادي. نعم، هو الجواب الذي يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، لأن ساركوزي تمكن رغم مجموعة من العراقيل من إيجاد أرضية تفاهم مشترك مع رئيس الوزراء الإيرلندي، بريان كوين، حول كيفية إدارة وامتصاص تبعات الرفض الإيرلندي لمعاهدة لشبونة. وفي الوقت ذاته، اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي في آخر اجتماع لهم يومي 11 و12 دجنبر في بروكسيل على إعطاء تطمينات لإيرلندا تمهد الطريق لإجراء استفتاء ثان هناك بحلول نونبر من العام المقبل حول معاهدة لشبونة الخاصة بإصلاح الاتحاد التي رفضها الناخبون الإيرلنديون في يونيو الماضي. وتوصل قادة الاتحاد الأوروبي في نفس الاجتماع إلى اتفاق حول خطة مناخ ترمي إلى تقليص انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 20% مع انتهاء العام 2020. ولم تكف فرنسا من جهودها لإقناع الدول المعارضة للخطة المقترحة، وهي رومانيا والمجر وبولندا وجمهورية تشيكيا وسلوفاكيا واستونيا وليتوانيا وبلغاريا، التي تطالب بالأخذ بعين الاعتبار مدى تبعية اقتصادياتها للفولاذ. واتفق القادة الأوروبيون أيضا على خطة إنعاش بحوالي 200 مليار يورو أي ما يمثل 1.5% من إجمالي الناتج الداخلي الأوروبي لمواجهة الانكماش الاقتصادي. قد يكون ساركوزي نجح في اختباراته الثلاثة من حيث التصديق والموافقة (نجاح على الأوراق) لا من حيث التنفيذ والتجسيد على أرض الواقع. فالرفض الإيرلندي لايزال قائما، ويرى الملاحظون أن الالتزام بتقليص انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري يبقى مجرد «إعلان سياسي»، وخطة إنعاش الاقتصاد تبقى مجرد كلام في ظل الأزمة المالية العالمية المتفاقمة.. لكن أهم نجاح سجله التاريخ الأوروبي لساركوزي هو قانون الهجرة الذي صادق عليه الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي، وقد أثار زوبعة من ردود الأفعال لاسيما داخل مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والتمييز العنصري. «لست نادما على شيء ألم تروا كل ما حققناه في غضون ستة أشهر: معاهدة لشبونة وخطة الإنعاش الاقتصادي والمناخ»، يفخر ساركوزي قبل أن يضيف: «حققنا إنجازا تاريخيا، حظا سعيدا للجمهورية التشيكية» التي ستتولى رئاسة الاتحاد اعتبارا من فاتح يناير 2009.