يعتبر الروائي الليبي إبراهيم الكوني عمله الجديد «عدوس السُرى»، الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أنه يدخل ضمن كتب السيرة، واختار للجزء الأول من عمله هذا عنواناً فرعياً هو «روح أمم في نزيف ذاكرة». هذا الكتاب يأتي بعد رحلة طويلة ركبها الكوني في سبر أسرار الصحراء وعوالمها الكثيفة، حتى أنه لا يُذكر كاتب عن الصحراء إلا ويحضر اسم الكوني. لقد كان مؤرخا لأحداثها وشخوصها، ولا يمكن لمن يريد معرفة فضاءاتها أن يلغيه من مقروءاته. وقد جاء هذا العمل بعد رحلته الخاصة في التوحد مع روح الصحراء والتحول إلى أداة لكتابة حكمتها الكونية ورؤاها الفلسفية. يطرح الكوني في هذا الكتاب سؤالا فلسفيا يدعو إلى كثير من التأمل، وهو: لماذا الغرباء دون الناس جميعاً؟ «الغرباء ملائكة لأنهم وحدهم ملة حرية، لأن حضورهم في البعد المفقود أقوى من حضورهم في بعد الوجود، وإذا كنا قد حاولنا رصد الحضور في البعد المفقود من خلال عشرات الأعمال الاستعارية الصادرة حتى الآن، أفلا يحق لنا أخيراً أن نشهد رصد الحضور في بُعد الوجود بتأمل الرحلة من هذا الجانب أيضاً؟ لأن ما هي دنيانا إن لم تكن متاهة اغتراب كل منا فيها عدوس سرى؟» و«عَدُوسُ السُّرَى» مستقاة من ابن دريد. إذ ذكرت العبارة في غير ما موضع، وهي تعني الرجل الذي يقوى على «السرى.» وإذا عدنا لمادة «عدس» يذكر اللغويون أن «العدس» (بسكون الدال) تعني شدة الوطء على الأرض والكدح أيضا. وعدس الرجل يعدس عدسا وعدسانا وعدوسا: ذهب في الأرض. يقال: عدست به المنية. قال الكميت: أكلفها هول الظلام ولم أزل/ أخا الليل معدوسا إلي وعادسا إذن الصحراء تحضر مرة أخرى مع ابنها وعاشقها ومؤرخها الذي خصّص مساحة كبيرة للصحراء التي أتى منها في أعماله الإبداعية. يستحضرها مرّة أخرى، وإنما ليس ضمن فضاء روائي متخيّل، بل ضمن فضاء صحراوي واقعي وحقيقي عاش فيه الروائي تحت شمسه الحارقة وسبر أعماقه وتحولاته وتتبع مؤثثاته من شخوص وحيوان وريح ورمال. «عدوس السرى» الذي اختار له عنواناً فرعياً «روح أمم في نزيف ذاكرة» هو الجزء الأول من حياة الكاتب الذي ينتمي إلى طوارق الصحراء الليبية وعاداتها الغريبة. هذا الروائي الذي يبدأ سيرته من مشهد حفر في ذاكرته مكاناً وعجزت عن محوه الأيام. مشهد الوحدة بين «لانهائية الفراغ» و«وحي الهباء» شحذ انتباهه وهو في العاشرة من عمره حتى استهل به سيرته في جزئها الأول والواقعة في480 صفحة. سيرة إبراهيم الكوني هذه ليست سوى سيرة الصحراء التي جعلته كائناً بمواصفات خاصة. وبقدر ما سيبحث القارئ عن تفاصيل سيرة ذاتية شخصية فإن الكوني يأخذ قارئة إلى رحم الأسطورة التي ولد منها، بدءا برحلة «الرعي» الأولى التي تاه فيها، والتي تعتبر عودته منها سالما ميلادا جديدا له، قدمه إلى العالم من جديد، ليس ميلادا منحه الحياة بعد نجاته من الذئب، لكنه ميلاد من رحم الأسطورة أعاد من خلاله اكتشاف رسالة، وكأنه «خروج» تعيده الحياة منه لتكلفه برسالته، «رسالة الصحراء» التي كلما حاول تناسيها أو الانشغال عنها في بدايات غربته وجدها تلح عليه. ولمن دأب على قراءة أعمال الكوني سيدرك «طوق رسالة الصحراء» هذه، التي ظلت تلح عليه منذ «الخروج الأول»، الخروج المكره من الصحراء بعد أحداث «الثورة التي سرقت الوطن». مذكرات «عدوس السرى» صدر منها الجزء الأول فقط، الذي يؤرخ للروح الأممية التي عاصرها الكوني، والتي بدأت مع إرهاصات نهاية العهد الملكي في ليبيا، وثورة القذافي، التي سرعان ما أدرك رفضها له، هو الصحفي الناقد الذي كتب في وقت مبكر عن «نقد فكر الثورة» ليجد نفسه غير مرحب به، فانتقل إلى المعسكر الشرقي «الاتحاد السوفييتي»، الذي وإن عاش فيه ودرس في أرقى معاهده الأدبية إلا أنه لم يعجب بعقيدته الشيوعية، ولا بتبعاتها، أو التفسيرات التي يراها مغلوطة لمفهوم الاشتراكية. رحلة معاناة طويلة لطالب مغترب، وهارب من التسلط السلطوي، لم يتمكن بعدها من النجاة إلا بالعودة واللجوء إلى كنف صحراء لم يسكنها بجسده، لكنه عاد إليها ليحملها في روحه، حملا مكنه من كتابة أسفار الصحراء التي جاد بها، بدءا برباعية الخسوف إلى ما يزيد عن 70 عملا جعلت أعرق المجلات الأدبية الفرنسية «لير» تختاره العربي الوحيد بين 50 روائيا عالميا يمثلون أدب القرن الحادي والعشرين.