ان حدود العلاقة بين الثنائية الضدية مركز/هامش ،التي تقابل بين درجات قوة هويات مختلفة ،حدود متحركة لا تعرف الثبات بخلاف ما تكرسه المراكز بالنسبة لهوامشها. وتشرع هذه الحدود في الحركة والتموج في عز طغيان وسيطرة المركز المولدين لمقاومة ثقافية عنيدة في المجمل من قبل الهامش، حيث تؤكد السيرورة التاريخية لمختلف المراكز والهوامش العالمية ، أن كثيرا من الأفعال المتجبرة التي تم تأويلها في حينها على أنها نكسة التاريخ بالنسبة لهامش معين ، شكلت في الواقع المسمار الذي دق في نعش الكيان الحضاري الذي كان يمثل مركزه. في هذا السياق، يمكن أن ندرج سعي المركز الغربي الحثيث في الآونة الأخيرة نحو تضييق دائرة الآخر لكي لا تشمل سوى العربي المسلم (1) ،فهذا السعي المفرط في شراسته يرمز حينما نمعن فيه النظر الى أن الهامش العربي الاسلامي أصبح يحتل مركز الصدارة في اهتمام المركز الغربي الذي نتحدث عنه ههنا بصيغة المفرد تجاوزا. مما يفيد أنه هامش خطير . ويبدو من الواضح أن الوعي المنتج بهذه الخطورة، هو الذي بامكانه أن يحقق ذات يوم حلم الهامش العربي الاسلامي ( البعيد/القريب) بأن يصبح مركزا . ونقصد به الوعي بالقوة الرمزية التي تمتلكها الثقافة لمواجهة هيمنة المركز الغربي ، في ظل سيادة الضعف المادي والعسكري . الا أن انتاجية هذا النوع من الوعي تظل مشروطة بوعي آخر ملازم له يقوم على أساس ضرورة طرح التساؤلات حول الهوية القومية، في ارتباطها بالتراثات الوطنية الخاصة بمختلف البلدان العربية الاسلامية وبالتراث الانساني اجمالا. أي طرح التساؤلات حول ماهية الكيان العربي الاسلامي وحول تفرعه الى مركز مشرقي والى هوامش تتفرع بدورها الى مراكز وهوامش. في هذا السياق، يؤدي الأدب دورا جوهريا بصفته جزءا من المادة الثقافية وبوتقة صاهرة لها من جهة، وباعتباره يتمتع باستقلالية نسبية عن المستوى المادي للمجتمع من جهة أخرى ، كما يؤكد ذلك نمو وازدهار الرواية العربية في ظل مجتمعات تابعة / ضعيفة ماديا. ومن الملاحظ أن أسئلة الرواية العربية هي أسئلة هوية في العمق ، والقارئ الذي يصيخ السمع لأصوات الساردين والشخصيات في كتابات المغاربة والمشارقة بالعربية وبلغات أجنبية ، سينتهي به الأمر لا محالة الى تغيير زاوية النظر الى مفهوم الهوية ، الذي تتجاذبه اتجاهات سياسية واجتماعية واثنية وثقافية ونفسية متشعبة ، تؤكد أن الهوية بناء متحرك لا يعرف الثبات(2). ان سؤال الهوية في الرواية العربية سؤال شائك ومتشعب، يتعدى الصيغة النهضوية :من نحن؟ في بحثها الدائم عن الثابت ، الى صيغ أخرى تتطلب الاجابة عنها حفريات تاريخية ومعرفية، وجرأة لاعادة النظر في تواريخ المجتمعات العربية الاسلامية قصد تصحيح المفاهيم واعادة الاعتبار للأصلي المهمش لأسباب ايديولوجية / سياسية لا علاقة لها بروح الاسلام. وهذا يعني مواجهة النفس أولا قبل التفكير في مواجهة الاخر : لا نحرر أوطاننا ان لم نتحرر من أوطاننا لا نحرر أناسنا ان لم نتحرر من أناسنا (3) ذلك أن الذات العربية المسلمة المهمشة التي تأمل كسر طوق المركز الغربي ، ذات متعددة يحكمها منطق الثنائية الضدية الحريصة على التراتبية : مركز/ هامش. وهو منطق تقاومه انتاجات الروائيين المنتمين الى الهوامش ، والذين جعلوا من الحفر في أعماق التاريخ سبيلهم لمراجعة مفهوم الهوية و أشهرهم في الوقت الراهن الروائي الليبي ابراهيم الكوني . يعيب بعض النقاد العرب على ابراهيم الكوني تكرار تناوله لموضوعة الصحراء في أعماله الروائية، ويرد بعضهم أيضا- ان لم نقل جلهم ? اقبال الاخر على انتاجه الروائي مترجما الى لغات عالمية مختلفة،الى غرائبية فضاء الصحراء. والحال أن الكوني الذي ينتمي الى مجموعة بشرية مهمشة (الطوارق ) داخل بلد مهمش ثقافيا (ليبيا) من قبل هامش يعتبر نفسه مركزا داخل الدائرة العربية (المشرق)، أنتج تكرارا ملؤه الاختلاف على مستويين : أ-على مستوى الصورة النمطية للصحراء في المتخيل الغربي ، بصفة الصحراء عنصرا ثابتا في تصور الغرب للذات / الهوية العربية. ويحول هذا التصور الصحراء كما هو معروف- باستثناء بعض الكتابات- الى منتوج استهلاكي مفرغ من عمقه الحضاري يثبت أركان عناصر الصورة النمطية المتوارثة : خيام وجمال ورحل و شمس ورمل وقفر و سراب وعطش. ب- وعلى مستوى اعادة التفكير في أهم عنصر مشكل للهوية العربية الاسلامية ، حيث تلوح الصحراء للانسان العربي المسلم عنصرا ثابتا في تكوين الهوية العربية الاسلامية ، أي عنصرا لديه ايمان مطمئن أنه يعرفه حق المعرفة ، فلا يكلف نفسه عناء البحث عن كنهه . هكذا اذن، تؤكد انتاجات الكوني لقارئها ? الضمني والفعلي ? أن الصورة الموحدة للصحراء والتي توحي بوجود مسيرة واحدة لحضارة الصحراء هي في الحقيقة سياق متشعب جوهره الاختلاف رغم التقاطعات والتشابهات . 2-1 ان صحراء الكوني ليست هي صحراء مدن الملح ،فبفعل انتمائه /انتماءاته يسيرهذا الروائي بالقارئ في دروب لم تسر فيها الرواية العربية من قبله ، هي دروب الطوارق وحضارة الطوارق : في الطفولة فطمته أمه وأخذته من يده لتريه الصحراء والكهوف ? طافت به الجدران المرسومة وقالت له ان هذا هو الأصل والتاريخ .حدثته طويلا عن الحيوانات المنقرضة ومعاني الرموز والكلمات . قصت عليه أسطورة عن كل حيوان وكل انسان سجله الأجداد على جدران الكهوف ? ثم أخذته من يده وعادت به الى البيت لتعلمه كيف يتهجى الأبجدية ويقرأ التيفيناغ . (المجوس،ص62) وبواسطة فك شفرات التيفيناغ المنقوشة على الصخور والألواح والمكتوبة على الجلود والأوراق ، من أجل تيسير المشي في دروب هذه الحضارة القائمة على نسب الأم، تصبح الذات العربية المسلمة ذاتا أخرى ، تسائل وتحاور ذاكرة وجود موغلة تقاليده وأعرافه في القدم ، لتقف في النهاية على رحلة المقاومة من أجل البقاء والحفاظ على الأصل التي تؤكد سلطة تشعب الزمن وتداخله : «همة» هو الذي كسر أقدم تقليد فتنحى عن السلطنة وتخلى عنها لابن أخيه « أورغ «، عندما داهمه مرض الحنين الى المجهول وعزم أن يهاجر الى صحارى «أضاغ» و»ازجر» ليعيش راحلا في الفلوات. وبرغم أن «همة» هو السلطان الوحيد الذي لم يرزقه الله بأخت تنجب له وريثا الا أن الناس لم تغفر له هذا المصاب واعتبرت أنه سلم رقابهم في يد رجل مجهول الأصل واضعا الثقة في امرأة الأغراب .( المجوس ، ص75) في هذا الوجود ، الذي يعتبر فيه النسب الى الأم سننا مقدسا يعد الخروج عنه خطيئة جالبة للعنة ، لا يعتبر الانسان سوى عنصر يتحدد في علائقه مع أبطال الوجود / الكون الروائي ، وعلى رأسهم الحيوان الذي تسمو منزلته في روايات الكوني الى منزلة الانسان، وتخصيصا في رواية» التبر» حيث يقاس صوت البطل سرديا بصوت الجمل وادراكه بادراكه وانسانيته على مستوى الفعل بنوعية تعامله مع بهيمته ودرجة تماهيه معها في حالة الصحة والمرض: لم يطق أن يرى صديقه يعاني من الاضطهاد على أيدي الرعاة الأشقياء . عزلوه عن قطعان الابل خشية العدوى (...) يذهب معه الى المراعي منذ الفجر ولا يعود الا في الليل. يقسو عليه أحيانا فيوبخه قائلا :» هذه نتيجة طيشك . ماذا كسبت الان من مغامراتك ؟ (...) ..ماذا فعلت بك ناقتك الناعمة ؟ (...) العدوى هي الثمن ، فتحمل واصبر « ، يسبل الحيوان جفنه خجلا ويجيبه في ندم :» أو-و-ع-ع-ع-ع» (التبر، ص21-22) بل ان ادراك الطيور لبعض أسرار الوجود في روايات الكوني يفوق أحيانا كثيرة ادراك الانسان ،الذي يحول جهله بلغتها من الاستفادة من معرفتها : غناء بعيد ملحاح و غامض . غناء الوقواق يزيد صمت الغابة غموضا وسحرا (...)الوقواق يريد أن يبوح بسر . صياحه الملحاح يخبئ سرا . ترى ماذا يريد أن يقول الوقواق بأغنيته الغامضة ؟ (نداء الوقواق ، ص291-294) ويرتبط التوغل في علاقة الانسان بالحيوان في روايات الكوني بالتوغل في روح الصحراء التي لا تبوح ببعض أسرارها الا عندما تنتفي المسافات بين الواقعي والأسطوري / العقلي واللاعقلي ، ليصبح الحلم حقيقة الحالم ، ولتكتسب الأسطورة سلطة التاريخ فتغوص ? بخلافه ? في أعماق الروح مضيئة بذلك ممراتها المجهولة وعينها على ثغرات وجهل القارئ العربي بما يشكل كيانه / غناه : «واو» واحات «واو» في الصحراء الكبرى ثلاث. واوالكبيرة ، واو الناموس ، واو حريرة . واو الأخيرة واحة مفقودة. لا يعثر عليها الا التائهون الذين فقدوا الأمل في النجاة . تسقي العطشان والضائع ولا تنقذ الا من أشرف على الموت . ويجمع اولئك المحظوظون الذين فتحت لهم أبوابها وتمتعوا فيها بالضيافة والعطايا والبهجة أنهم لم يروا في الأحلام مدينة تفوقها جمالا اوثراء . لم يدخلها انس الا وخرج منها محملا بكنز يغنيه عن الناس والحاجة الى أن يموت . ولكنهم نبهوا أيضا الى عدم جدوى البحث عنها ، فما أن يخرج الضيف من أسوارها حتى تختفي . ويتوارث أهل الصحراء رواية تقول ان البحث عنها يجري منذ الاف السنين . ( المجوس ، ص85) وبما أن هذا النوع من الانتفاء لا يمكن أن يثمر الا ضمن سيرورة تاريخية لا تعرف في تقاطعاتها وتشابكاتها الثبات ، تركز روايات الكوني على وحدة المتعدد في اطار الاسلام :الدين العالمي الذي من حق كل مسلم أن يحمل رايته في سياق التفاعل المحارب للمركزية والمحترم لجوهر الذات ابتداء بالاسم الشخصي ( أوخيد/ أيور/ تينيري/ موخامد/ ختامان .....) : بلاد غرب «تنبكتو» فتحها المرابطون ونشروا الدعوة في الأدغال بين قبائل الزنوج ثم جعلوا من تنبكتو عاصمة للصحراء وماتبعها من أجزاء القارة التي شملته الفتوحات ونصبوا ختامان الحكيم سلطانا عليها قبل أن يعبروا غربا ليجتازوا المضيق الى بلاد ما وراء البحار ، واذا كان الفاتحون أول من اقتحم مجاهل القارة بالدعوة فان لختامان الحكيم يرجع الفضل في اقامة أول نظام اسلامي في قارة من المجوس .( المجوس، ص74) 2-2 و مما يثير الانتباه أيضا في صحراء الكوني هو أنها استطاعت - وهي تبحث في ذاتها عن عمق ذاتها ، مستنطقة حبات الرمال وعيون الملثمين ، ومحتفية في رهبة بلغة الاشارة التي لا تنطق بصريح العبارة (التبر،ص117) ، وبلغة حفيف الريح في النخيل بصفتها لغة الأزل التي تفشي سر الوجود فتحجم في اخر لحظة ( نداء الوقوا ،ص284)، وكذا بلغة منابع الماء الحكيمة التي تتمتم بسر الوجود ( أخبار الطوفان الثاني ، ص137)- استطاعت أن تدحض بوعي وحرفية مفهوم «القرية الصغيرة» المضلل ، لتعيش على وقع الزمن الصحراوي المطرز بالأسرار وليس على وقع زمن العولمة الملغوم والمضلل بوضوحه المزعوم (4). لهذا أفلحت في أن تصبح نقطة اشعاع وجذب ، فهي تعتبر مركزا كاشفا لألغاز الحضارات العظيمة (لغز الطوارق يكشف لغزي الفراعنة وسومر)،كما تعتبرروح الانسانية في زمن طغيان المادة في الشرق و الغرب : أفوس قال له مرة : الصحراء مثل الأغاني السماوية ، اذا لم ترتوي من لحنها قتلك العشق والجنون (...)، تعلم من أفوس الحكيم أن لا أحد يستطيع أن يفهم سر الصحراء الا من عاش في المدن وذاق طعم العبودية .( المجوس ، ص79) بهذا نخلص، الى أن اعادة النظر في أهم مكون من مكونات الهوية العربية الاسلامية في سبيل تصالح الذات مع ذاتها ، وتقويض التصور النمطي الثابت لهذه الذات ، مقاومة أثبتت نجاحها على المستوى العربي والغربي: فعلى المستوى العربي يؤكد حصول الكوني على جائزة الشيخ زايد للكتاب عن روايته «نداء ما كان بعيدا» ، واحتفاء الكتابات النقدية العربية بانتاجه في المشرق والمغرب ، دينامية الهوامش القديمة / المراكز الجديدة . أماعلى المستوى الغربي ، فتدل الجوائز الدولية التقديرية والاحتفاء الذي وصل الى حد الترشيح لجائزة نوبل، أن الدهشة التي خلقها الكوني بفرادة انتاجه وصنعته الروائية ، دهشة مقاومة في المجمل للصور النمطية، وهي تحتاج لكي تحافظ على فعاليتها الى تكتل روح المقاومة الثقافية الواعية بما يشكل جوهرها . نقول في المجمل، لأن كتابات الكوني- التي استطاعت بفضل موهبة وموسوعية صاحبها أن تصنع عالما روائيا بديعا قائما على الحفريات المعرفية و التاريخية في ضوء متغيرات الحاضر ، وعلى الابتكارالسردي الواعي بمعدن السرد وبجوهر الفن الروائي في ظل فلسفة السرد المعاصرة- كرست الصورة النمطية العالمية للمرأة ، متناقضة بذلك مع احتفائها بحضارة تقوم على نسب الأم . فمن الملاحظ، أن اللعنة التي تصبها روايات الكوني على الذهب/ المادة تشمل المرأة أيضا بصفتها الوجه الثاني لابليس. بل و أخطر: فاذا كان التبر الذي يتصارع من أجله الجن والانس هو سبب كل اللعنات على الأرض (التبر،ص114)، فان حواء تعد أصل البلاء كله باغوائها لادم ليطردا معا من الجنة الى الأرض « ولولا تلك المرأة الجهنمية لمكثنا هناك ننعم بالنعيم ونسرح في الفردوس» . ( التبر،ص21-22) الهامش 1- علاء عبد الهادي :شعرية الهوية ونقض فكرة الأصل ( الأنا بوصفها أنا أخرى ) 2-نفسه. 3- ا نظر، ابراهيم الكوني: هكذا تأملت الكاهنة ميم ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط 1،2006 | 4-بخلاف صحراء سناجلة مثلا المحتفية بالافتراضي على حساب الواقعي . المتن الروائي : -أخبار الطوفان الثاني ،ط2،تاسيلي للنشر والاعلام،1991. - نداء الوقواق ، ط2،تاسيلي للنشر والاعلام، 1991. - المجوس ، ج1، ط2، دار التنوير للطباعة والنشر،1992. - التبر،ط3، دار التنوير للطباعة والنشر،1992.