1 يرى الأستاذ عبد الحي أن وصول اليسار الى الحكم في المغرب يمثل تحولا مشابها لما حدث على المستوى العالمي هي فكرة أو استنتاج لا تؤكدهما الوقائع السياسية الفعلية، ذلك أن اليسار في المغرب لم يصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، بل وصل عبر توافق، علما بأن هذا التوافق كان مشروطا ومحددا ومطبوعا بموازين قوى معينة، وأهم هذه الموازين أن اليسار في المغرب وفي طليعته الاتحاد الاشتراكي، وإن لم يكن أغلبية انتخابية فإنه كان يمثل أغلبية على مستوى الوقع السياسي والإيديولوجي. 2 ماهو عمر اليسار في المغرب، وما هي محطات التاريخ؟ هل عمر اليسار في المغرب 50 سنة أم أقل..؟ أنا شخصيا أعتبر أن عمر اليسار يمكن أن يزيد عن 70 سنة، إذا أخذنا بعين الاعتبار تجربة الحزب الشيوعي ثم PLS بعد ذلك، ويمكن ان يتقلص الى أربعين سنة إذا أخذنا كمنطلق أولي الحركات اليسارية التي ظهرت في أعقاب هزيمة 1967 ثم حركة الطلاب في فرنسا سنة 1968 وما أحدثته من آثار عالمية مست المغرب، ويمكن أن نعتبره وليد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي سنة 1975 إذا اعتبرنا أنه في هذا التاريخ بالذات التقى الفكر الاشتراكي أو المرجعية الاشتراكية لأول مرة بحزب أو بحركة لها عمق اجتماعي وازن إذن نوعية التحقيب تتوقف على الإطار المرجعي الذي تنطلق منه في تحديد اليسار. وعلاقة بهذا الموضوع يبدو لي أنه آن الأوان لاستبدال مقولة اليسار الاصلاحي / اليسار الجذري بمقولة اليسار الفكري / اليسار الاجتماعي. 3 الخلافات في صفوف اليسار والانشقاقات: هذه الخلافات كانت لها جذور تتعلق بقراءة النصوص الماركسية المؤسسة، لكن ورقة الأستاذ عبد الحي لا تتحدث، مثلا، عن واقع غياب أي معيار للحكم على صلابة الأطروحات المتعارضة أو المقابلة داخل صفوف اليسار الذي أجد مرده في هشاشة التكوين الطبقي في بلادنا قياسا الى المجتمعات الرأسمالية المتطورة من جهة، والى طول المدة التي قضاها اليسار في المعارضة من جهة ثانية، والتي أدت الى الصعوبة الميدانية في اختبار صحة الأطروحات قياسا الى حركية الواقع. 4 يؤكد الأستاذ مودن أن غياب النقاش العمومي حول التأقلمات على غرار ما حصل في الأقطار الأخرى (في إسبانيا القريبة منا مثلا) جعل أن أحكام القيمة من نوع التراجع عن المبادئ هي التي سادت في تقييم ممارسة اليسار لكننا نلاحظ، مرة أخرى أن التصلب الفكري والدوغمائي التي طبع النسق الفكري لفصائل اليسار لمدة طويلة هو أحد العوامل الاساسية المولدة لأحكام القيمة كبديل عن التحليل الموضوعي. 5 اليسار الحاكم لم يتعلم من تجربته الميدانية في ممارسة الحكم ولم يشرك قواعده في التعلم من التجربة. هذا صحيح الى حد كبير: لكن يبقى ان نحلل الملابسات وأن نقف على الأسباب وهي في تقديري مرتبطة بمعطيين: المعطى الأول: وقد سبقت الإشارة إليه قبل قليل، أقصد طول المدة التي قضاها اليسار في المعارضة جعلته يستبطن ثقافة سياسية بدا معها كما لو أن هويته الأساسية والمؤسسة هي المعارضة (ولو من داخل المشاركة) وهو ما لم يفسح المجال للتراكم على مستوى التجربة الميدانية والتحول باتجاه قوة اقتراحية. أما المعطى الثاني فيرتبط بالمشكل التنظيمي: حيث برز نوع من الانفصام بين التنظيم الحزبي والممارسة الحكومية، انفصام لم يساعد على التأقلمات التي كانت مطلوبة. - في الفقرة الرابعة من الصفحة الثالثة من الورقة يتحدث الأستاذ عبد الحي مودن عن كون اليسار غير من منظوره للطبيعة الطبقية للدولة وآمن بالانتخابات، ويضيف أن اليسار لم يصل إلى الحكم بالانتخابات ولكن بالدور الحاسم الذي لعبه الملك. أعتقد أنه يجب اعتماد نوع من النسبية عند النظر في هذا الموضوع، لأن الأمور لم تكن بهذه البساطة أو بهذا التحديد المبسط. لقد كان هناك تلاق لإرادتين أخذ ما يكفي من الوقت للاختمار والنضج منذ سنة 1993، وكان هناك اقتناع بأن السيناريو الكارثي ليس في مصلحة البلاد (مقوله السكتة القلبية للمرحوم الحسن الثاني) ومقولة الإشارات القوية للثقة التي عبر عنها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية التي كانت مخصصة لمناقشة الموقف من الإصلاحات الدستورية لسنة 1996. ثم كان هناك اقتناع من قبل المؤسسة الملكية بأن اليسار، مضافا إليه حزب الاستقلال هو بالتأكيد أغلبية سياسية في البلاد وإن لم يكن أغلبية انتخابية بلغة عدد المقاعد. 7- علاقة اليسار بالمؤسسة الملكية يتحدث الأستاذ عبد الحي عن وجود ثلاثة اختيارات أطرت هذه العلاقة، وهي: الاختيار الثوري، الاختيار الدستوري والاختيار التوافقي. وأود أن أطرح هنا سؤالا أوليا» ماذا نقصد باليسار سنة 1955 و1956 وإلى حدود بداية السبعينات. اليسار في المغرب خلال هذه الحقبة، مثلا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو أساسا تيار عائم، تتجاور بداخله النزعة النقابية (بل والنقابيون بلغة لينين) والمثقفون المتنورون وعناصر من بقايا جيش التحرير. من جهة ثانية لا يمكن أن ننسى تأثير الثقافة الناصرية والبعثية ذات الرسائل الثورية بلغة تلك المرحلة في تكوين جزء كبير من هوية يسار تلك المرحلة. وفي تقديري إذا أردنا نوعا من النمذجة «Taxinomie» تأخذ بعين الاعتبار تموجات العلاقة بين اليسار والمؤسسة الملكية أمكننا التمييز بين حساسيتين تداخلتنا أحيانا وتعاقبتا في الزمان تارة أخرى، ضمن الحساسية الأولى نجد مطلب وضع دستور جديد بمجلس تأسيسي، يؤسس لهيكلة جديدة للمؤسسات الدستورية في البلاد، وذلك كمدخل لا غنى عنه لأي إصلاح سياسي أو تطور ديمقراطي. أما ضمن الحساسية الثانية، فكأننا نجد مطلب إصلاح دستور تدريجي يتأسس على الإيمان بأولوية تغيير الثقافة السياسية السائدة والمناخ السياسي العام بأبعاده الحقوقية والمدنية علي التغيير المفاجئ للنصوص. أما بخصوص التيار الإسلامي والعلماني، علاقة بهذا الموضوع، فإنني لا أرى في الواقع السياسي المغربي منذ انطلاق ما اصطلحنا على تسميته بالمسلسل الديمقراطي أي أثر واقعي لتعارض من هذا القبيل يكون قد هيكل حقا الحقل السياسي في تجلياته اليومية. 8- يرى الأستاذ عبد الحي مودن أن تفعيل الخيار الدستوري يبقى مرتبطا تارة بتفاقم الأزمات السياسية، وتارة بالضغط الأجنبي على المغرب وتارة بتصورات استراتيجية للمؤسسة الملكية تضمن الاستمرارية على المدى البعيد وأخرى لحسابات قصيرة من طرفها لاحتواء المعارضة. وقراءتي للموضوع، على ضوء ما تطرحه الوقائع السياسية، أن الإصلاح الدستوري يطرح أساسا حينما تظهر اختناقات في مسلسل التطور السياسي، وقد تجلى ذلك بوضوح سنتي 1992 و1996، ويبدو الأمر واضحا الآن بعد نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2007 والجو السياسي المأزوم وغير الواضح الذي أصبحت تعيشه البلاد سياسيا على إثر تلك الانتخابات. من جهة ثانية، يبدو لي أنه وقع تزحزح وتحول Shift كبير في السياق والمنظور العام الذي يحكم مطلب الإصلاح الدستوري في مغرب اليوم قياسا إلى الماضي: ذلك أنه، أكثر فأكثر فإن مطلب الإصلاح الدستوري انتقل من سياق صراح المشروعيات أو تنافسها إلى سياق تطوير الحكامة - مثلا ضرورة تبعية الإداري السياسي كما في كل الديمقراطيات، وإشكالية التعيينات والعلاقة بين السلطات المعينة والسلطات المنتخبة وتطوير الجهوية الخ. 9- يعتبر الأستاذ مودن في إطار استعراضه للإشكالات التي تعترض مختلف التيارات والاتجاهات، أن الاتجاه الثوري عرف تراجعا على المستوى السياسي والفكري وأن الاتجاه الدستوري يعترضه مشكل التفعيل وأن الاختيار التوافقي يمر هو الآخر بأزمة، ويطرح الأستاذ مودن سؤالا في غاية الأهمية والإجرائية هل يؤدي التوافق إلى مرحلة تأسيس السلط أم إلى عرقلة مثل هذا. هذا الموضوع يدفعنا في الحقيقة الى طرح إشكالية مرحلة الانتقال في المغرب، خاصيتها، طبيعتها كما يدفعنا الى طرح اشكالية التردد أو لنقل «Ambivalence» الذي يطبع سلوك الدولة في مجال الإصلاح، وعلى هذا الصعيد يبدو أن جهاز الدولة مخترق بتوجهات متعددة، متناقضة في نواياها وممارساتها ومسلكياتها فيما يخص موضوع الإصلاحات ومووضع القطيعة مع الماضي. 10- أؤكد على أهمية ودقة التشخيص الذي يضعه الأستاذ مودن بخصوص التدبدب الذي يعرفه الوضع الديمقراطي أو مسلسل الدمقرطة في المغرب، حينما يقول «أمام الاستحالة العملية للتأكد من نوايا الفاعلين، فإن مستقبل الدمقرطة في ظل التوافق يبقى رهينا بما يحدث ميدانيا على مستوى صنع القرار وبالفهم الدقيق لحصيلة تجربة مشاركة اليسار في صنع القرار». هذا التشخيص دقيق وصحيح إلى حد كبير. لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن المشكل الذي تعاني منه المؤسسات (مثلا المؤسسة البرلمانية) ليس دائما ولا حتى بصورة رئيسية مشكل التدخل الخارجي (من المؤسسة الملكية أو من الحكومة أو من البيروقراطية*. إن المشكل يرتبط بصفة أساسية بالمستؤى الداخلي أي نوعية النخب. وتجربة عمل اللجان البرلمانية تبين بوضوح ضعف ومحدودية هذه النخب حتى بالقياس إلى بيروقراطية الإدارة من حيث التكوين والفعالية. المسألة إذن مرتبطة بتوازن دقيق يدخل فيه دور النخبة، شكلها، فعاليتها. والتحدي الكبير الذي تعانيه الأحزاب اليوم يرتبط بمدى القدرة على تجديد النخب، من جهة وعلى إجراء التطابق المطلوب بين الخطاب والمرجعية والبروفيل البشري من جهة ثانية. 11- الطرح الذي لا أتفق عليه هو حينما يقول الأستاذ عبد الحي بأن الإشكالات الكبرى التي يواجهها الاختيار التوافقي ترتبط بالدور الذي اختارت المؤسسة الملكية أن تلعبه في مضمار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل يجعل تحركها على هذه الأصعدة دعما لمشروعيتها في مطلع القرن الواحد والعشرين، وأنه كلما استمر تراكم هذه الانجازات كلما واجه مطلب الإصلاح الدستوري إشكالا جديا. - هنا أيضا يتعين الإشكال الحقيقي في هذه الثنائية التقابلية، أي مؤسسة ملكية تنجز في الميدان أو مؤسسة بعيدة عن مستلزمات القرب. الإشكال الحقيقي، والثنائية التقابلية الحقيقية هي: ملكية برلمانية أم ملكية تنفيذية. هذا من جهة ومن جهة ثانية يبدو أن ما تقوم به المؤسسة الملكية يندرج فيما يمكن أن نسميه بالتصدر Preeminvence وهي مسلكية سياسية وسلوكية يصعب مقاربتها انطلاقا من المفاهيم المألوفة في العلوم السياسية. من جهة ثالثة، أعتقد أنه من الضروري بشكل عام التمييز، بغض النظر عن جانب النوايا، بين الإنجازات والإصلاحات: يمكن أن تكون هناك إنجازات دون أن تتلاءم بالضرورة مع إصلاحات عميقة. وفي الحالة المغربية تحديدا فإنه ما لم تتغير الإدارة، وعقلية اشتغال الإدارة، وفي مقدمتها الإدارة الترابية، فإنه سيصعب إيجاد التقاطعات المطلوبة بين الإنجاز والإصلاح. للنظر بهذا الخصوص الى ما يحصل بخصوص تنفيذ برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للنظر إلى التفاوت الحاصل بين النوايا والنتائج. أضيف الى ذلك أننا أصبحنا بشكل عام نعيش في المغرب ما أسميه صراع الفكرة والخدمة أي تحويل الممارسة السياسية برمتها والتواصل السياسي برمته الى تنافس حول تقديم الخدمة الفورية، وقد لاحظنا ذلك مثلا خلال المنافسات التي شهدتها الانتخابات التشريعية الأخيرة. 12- أعتقد أنه ليس ضروريا أن يعيش المغرب تلك الحيرة الوجودية أو ما يشبه Dilemme نجدها في الفقرة الأولى من الصفحة السادسة من الورقة أي: - إما المطالبة بتنظيم السلطات الدستورية وفي هذه الحالة التوقف في سيولة الاستثمارات يؤدي الى تقوية حظوظ المعارضة المحافظة وإما سلطات واسعة للملك تؤجل باستمرار مطلب الدمقرطة، فهذه الثنائية التنازعية ليست بالضرورة قدرا سياسيا محتوما، حيث يمكننا تصور هندسة جديدة للسلطات الدستورية عبر الإصلاح يضمن التوازن ويقوي التطور الديمقراطي المتناغم للبلاد. 13- يعتبر الأستاذ عبد الحي مودن، وأنا اتفق تماما مع هذا، أن النقاش حول تراجع اليسار ظل نقاشا تقنيا لم يأخذ بعين الاعتبار، حسب رأيه، بعض المعطيات الأساسية، ذلك أن النقاشات في هذا الموضوع لم تبرز طبيعة السياسات التي اتخذها وزراء اليسار وتنامي إغراء تكوين حكومات لا تقوم على الانسجام الإيديولوجي وما يرافق ذلك من تبخيس لدور الأحزاب. ويعتبر الأستاذ عبد الحي عن حق أنه من الضروري استبطان وقبول رجوع اليسار الى المعارضة باعتباره أمرا عاديا، فالمعارضة ليست صفة ملازمة للحزب وقبول هذه الفكرة من شأنه جعل الحزب أكثر ارتباطا بالمجتمع وبحركية الواقع وهذا صحيح الى أبعد الحدود. 14- وفيما يخص النقد الذي تعرضت له مشاركة اليسار في حكومة التناوب يلاحظ الأستاذ عبد الحي مودن كيف أن اليسار ذاته لم يدافع عن تجربته وكيف وقع عزوف لإعلامييه ومنظريه ومرشحيه،ويطرح في هذا السياق بعض الفرضيات والعناصر التفسيرية ومنها مثلا كون اليسار فشل في تحويل خبرته في انتاج خطاب المعارضة إلى خطاب المشاركة الحكومية، وأن الوزراء لم يكونوا مقتنعين بما خططوا له أو أنجزوه أو أن حصيلة اليسار في نظر زعمائه لم تكن في حاجة الى من يدافع عنها، و أخيرا كون الإعلام ظل معارضا للتجربة في توجيهه. ومع الإقرار بأهمية وإجرائية هذه العناصر التفسيرية، فإنه يمكن أن نضيف إليها عناصر أخرى لتفسير ذلك الواقع الذي أشار إليه الأستاذ عبد الحي مودن ومنها مثلا: الانفصام بين التنظيمات الحزبية السياسية والتصريف البرنامجي من طرف وزراء اليسار، ومن هذه العناصر أيضا مسكلية التصدر التي أشرنا إليها والتي عمقت الإحساس بمحدودية اللعبة السياسية بشكل عام، ثم أخيرا الصدام الذي حصل بين الامد البعيد والأمد القصير، أو في ما هو منتظر من نتائج للعمل الحكومي. فإذا كانت حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي قد قامت بإصلاحات جوهرية وهيكلية لا يمكن أن تنتج آثارها إلا في الأمد المتوسط والبعيد، فإن الأمر القصير كان مثقلا بهموم وانتظارات ضاغطة، علما بأن الأمر القصير هو مجال السياسة بامتياز ومجال صناعة الرأي العام. أخيرا أود التأكيد مرة أخرى على الأهمية الكبرى للقضايا التي أثارها عبد الحي مودن في ورقته وإلى الطابع التجديدي في طرحها، كما أود التأكيد على الحاجة الموضوعية إلى مزيد من الحوار الهادئ والرصين بخصوصها، يتجاوز المنزلقات التي غالبا ما تسقط فيها المقاربات السياسية عندنا والتي تتأرجح في الغالب بين النزعة العلموية المتعالية والمسح السياسوي القصير الأفق. 1 يرى الأستاذ عبد الحي أن وصول اليسار الى الحكم في المغرب يمثل تحولا مشابها لما حدث على المستوى العالمي هي فكرة أو استنتاج لا تؤكدهما الوقائع السياسية الفعلية، ذلك أن اليسار في المغرب لم يصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، بل وصل عبر توافق، علما بأن هذا التوافق كان مشروطا ومحددا ومطبوعا بموازين قوى معينة، وأهم هذه الموازين أن اليسار في المغرب وفي طليعته الاتحاد الاشتراكي، وإن لم يكن أغلبية انتخابية فإنه كان يمثل أغلبية على مستوى الوقع السياسي والإيديولوجي. 2 ماهو عمر اليسار في المغرب، وما هي محطات التاريخ؟ هل عمر اليسار في المغرب 50 سنة أم أقل..؟ أنا شخصيا أعتبر أن عمر اليسار يمكن أن يزيد عن 70 سنة، إذا أخذنا بعين الاعتبار تجربة الحزب الشيوعي ثم PLS بعد ذلك، ويمكن ان يتقلص الى أربعين سنة إذا أخذنا كمنطلق أولي الحركات اليسارية التي ظهرت في أعقاب هزيمة 1967 ثم حركة الطلاب في فرنسا سنة 1968 وما أحدثته من آثار عالمية مست المغرب، ويمكن أن نعتبره وليد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي سنة 1975 إذا اعتبرنا أنه في هذا التاريخ بالذات التقى الفكر الاشتراكي أو المرجعية الاشتراكية لأول مرة بحزب أو بحركة لها عمق اجتماعي وازن إذن نوعية التحقيب تتوقف على الإطار المرجعي الذي تنطلق منه في تحديد اليسار. وعلاقة بهذا الموضوع يبدو لي أنه آن الأوان لاستبدال مقولة اليسار الاصلاحي / اليسار الجذري بمقولة اليسار الفكري / اليسار الاجتماعي. 3 الخلافات في صفوف اليسار والانشقاقات: هذه الخلافات كانت لها جذور تتعلق بقراءة النصوص الماركسية المؤسسة، لكن ورقة الأستاذ عبد الحي لا تتحدث، مثلا، عن واقع غياب أي معيار للحكم على صلابة الأطروحات المتعارضة أو المقابلة داخل صفوف اليسار الذي أجد مرده في هشاشة التكوين الطبقي في بلادنا قياسا الى المجتمعات الرأسمالية المتطورة من جهة، والى طول المدة التي قضاها اليسار في المعارضة من جهة ثانية، والتي أدت الى الصعوبة الميدانية في اختبار صحة الأطروحات قياسا الى حركية الواقع. 4 يؤكد الأستاذ مودن أن غياب النقاش العمومي حول التأقلمات على غرار ما حصل في الأقطار الأخرى (في إسبانيا القريبة منا مثلا) جعل أن أحكام القيمة من نوع التراجع عن المبادئ هي التي سادت في تقييم ممارسة اليسار لكننا نلاحظ، مرة أخرى أن التصلب الفكري والدوغمائي التي طبع النسق الفكري لفصائل اليسار لمدة طويلة هو أحد العوامل الاساسية المولدة لأحكام القيمة كبديل عن التحليل الموضوعي. 5 اليسار الحاكم لم يتعلم من تجربته الميدانية في ممارسة الحكم ولم يشرك قواعده في التعلم من التجربة. هذا صحيح الى حد كبير: لكن يبقى ان نحلل الملابسات وأن نقف على الأسباب وهي في تقديري مرتبطة بمعطيين: المعطى الأول: وقد سبقت الإشارة إليه قبل قليل، أقصد طول المدة التي قضاها اليسار في المعارضة جعلته يستبطن ثقافة سياسية بدا معها كما لو أن هويته الأساسية والمؤسسة هي المعارضة (ولو من داخل المشاركة) وهو ما لم يفسح المجال للتراكم على مستوى التجربة الميدانية والتحول باتجاه قوة اقتراحية. أما المعطى الثاني فيرتبط بالمشكل التنظيمي: حيث برز نوع من الانفصام بين التنظيم الحزبي والممارسة الحكومية، انفصام لم يساعد على التأقلمات التي كانت مطلوبة. - في الفقرة الرابعة من الصفحة الثالثة من الورقة يتحدث الأستاذ عبد الحي مودن عن كون اليسار غير من منظوره للطبيعة الطبقية للدولة وآمن بالانتخابات، ويضيف أن اليسار لم يصل إلى الحكم بالانتخابات ولكن بالدور الحاسم الذي لعبه الملك. أعتقد أنه يجب اعتماد نوع من النسبية عند النظر في هذا الموضوع، لأن الأمور لم تكن بهذه البساطة أو بهذا التحديد المبسط. لقد كان هناك تلاق لإرادتين أخذ ما يكفي من الوقت للاختمار والنضج منذ سنة 1993، وكان هناك اقتناع بأن السيناريو الكارثي ليس في مصلحة البلاد (مقوله السكتة القلبية للمرحوم الحسن الثاني) ومقولة الإشارات القوية للثقة التي عبر عنها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية التي كانت مخصصة لمناقشة الموقف من الإصلاحات الدستورية لسنة 1996. ثم كان هناك اقتناع من قبل المؤسسة الملكية بأن اليسار، مضافا إليه حزب الاستقلال هو بالتأكيد أغلبية سياسية في البلاد وإن لم يكن أغلبية انتخابية بلغة عدد المقاعد. 7- علاقة اليسار بالمؤسسة الملكية يتحدث الأستاذ عبد الحي عن وجود ثلاثة اختيارات أطرت هذه العلاقة، وهي: الاختيار الثوري، الاختيار الدستوري والاختيار التوافقي. وأود أن أطرح هنا سؤالا أوليا» ماذا نقصد باليسار سنة 1955 و1956 وإلى حدود بداية السبعينات. اليسار في المغرب خلال هذه الحقبة، مثلا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو أساسا تيار عائم، تتجاور بداخله النزعة النقابية (بل والنقابيون بلغة لينين) والمثقفون المتنورون وعناصر من بقايا جيش التحرير. من جهة ثانية لا يمكن أن ننسى تأثير الثقافة الناصرية والبعثية ذات الرسائل الثورية بلغة تلك المرحلة في تكوين جزء كبير من هوية يسار تلك المرحلة. وفي تقديري إذا أردنا نوعا من النمذجة «Taxinomie» تأخذ بعين الاعتبار تموجات العلاقة بين اليسار والمؤسسة الملكية أمكننا التمييز بين حساسيتين تداخلتنا أحيانا وتعاقبتا في الزمان تارة أخرى، ضمن الحساسية الأولى نجد مطلب وضع دستور جديد بمجلس تأسيسي، يؤسس لهيكلة جديدة للمؤسسات الدستورية في البلاد، وذلك كمدخل لا غنى عنه لأي إصلاح سياسي أو تطور ديمقراطي. أما ضمن الحساسية الثانية، فكأننا نجد مطلب إصلاح دستور تدريجي يتأسس على الإيمان بأولوية تغيير الثقافة السياسية السائدة والمناخ السياسي العام بأبعاده الحقوقية والمدنية علي التغيير المفاجئ للنصوص. أما بخصوص التيار الإسلامي والعلماني، علاقة بهذا الموضوع، فإنني لا أرى في الواقع السياسي المغربي منذ انطلاق ما اصطلحنا على تسميته بالمسلسل الديمقراطي أي أثر واقعي لتعارض من هذا القبيل يكون قد هيكل حقا الحقل السياسي في تجلياته اليومية. 8- يرى الأستاذ عبد الحي مودن أن تفعيل الخيار الدستوري يبقى مرتبطا تارة بتفاقم الأزمات السياسية، وتارة بالضغط الأجنبي على المغرب وتارة بتصورات استراتيجية للمؤسسة الملكية تضمن الاستمرارية على المدى البعيد وأخرى لحسابات قصيرة من طرفها لاحتواء المعارضة. وقراءتي للموضوع، على ضوء ما تطرحه الوقائع السياسية، أن الإصلاح الدستوري يطرح أساسا حينما تظهر اختناقات في مسلسل التطور السياسي، وقد تجلى ذلك بوضوح سنتي 1992 و1996، ويبدو الأمر واضحا الآن بعد نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2007 والجو السياسي المأزوم وغير الواضح الذي أصبحت تعيشه البلاد سياسيا على إثر تلك الانتخابات. من جهة ثانية، يبدو لي أنه وقع تزحزح وتحول Shift كبير في السياق والمنظور العام الذي يحكم مطلب الإصلاح الدستوري في مغرب اليوم قياسا إلى الماضي: ذلك أنه، أكثر فأكثر فإن مطلب الإصلاح الدستوري انتقل من سياق صراح المشروعيات أو تنافسها إلى سياق تطوير الحكامة - مثلا ضرورة تبعية الإداري السياسي كما في كل الديمقراطيات، وإشكالية التعيينات والعلاقة بين السلطات المعينة والسلطات المنتخبة وتطوير الجهوية الخ. 9- يعتبر الأستاذ مودن في إطار استعراضه للإشكالات التي تعترض مختلف التيارات والاتجاهات، أن الاتجاه الثوري عرف تراجعا على المستوى السياسي والفكري وأن الاتجاه الدستوري يعترضه مشكل التفعيل وأن الاختيار التوافقي يمر هو الآخر بأزمة، ويطرح الأستاذ مودن سؤالا في غاية الأهمية والإجرائية هل يؤدي التوافق إلى مرحلة تأسيس السلط أم إلى عرقلة مثل هذا. هذا الموضوع يدفعنا في الحقيقة الى طرح إشكالية مرحلة الانتقال في المغرب، خاصيتها، طبيعتها كما يدفعنا الى طرح اشكالية التردد أو لنقل «Ambivalence» الذي يطبع سلوك الدولة في مجال الإصلاح، وعلى هذا الصعيد يبدو أن جهاز الدولة مخترق بتوجهات متعددة، متناقضة في نواياها وممارساتها ومسلكياتها فيما يخص موضوع الإصلاحات ومووضع القطيعة مع الماضي. 10- أؤكد على أهمية ودقة التشخيص الذي يضعه الأستاذ مودن بخصوص التدبدب الذي يعرفه الوضع الديمقراطي أو مسلسل الدمقرطة في المغرب، حينما يقول «أمام الاستحالة العملية للتأكد من نوايا الفاعلين، فإن مستقبل الدمقرطة في ظل التوافق يبقى رهينا بما يحدث ميدانيا على مستوى صنع القرار وبالفهم الدقيق لحصيلة تجربة مشاركة اليسار في صنع القرار». هذا التشخيص دقيق وصحيح إلى حد كبير. لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن المشكل الذي تعاني منه المؤسسات (مثلا المؤسسة البرلمانية) ليس دائما ولا حتى بصورة رئيسية مشكل التدخل الخارجي (من المؤسسة الملكية أو من الحكومة أو من البيروقراطية*. إن المشكل يرتبط بصفة أساسية بالمستؤى الداخلي أي نوعية النخب. وتجربة عمل اللجان البرلمانية تبين بوضوح ضعف ومحدودية هذه النخب حتى بالقياس إلى بيروقراطية الإدارة من حيث التكوين والفعالية. المسألة إذن مرتبطة بتوازن دقيق يدخل فيه دور النخبة، شكلها، فعاليتها. والتحدي الكبير الذي تعانيه الأحزاب اليوم يرتبط بمدى القدرة على تجديد النخب، من جهة وعلى إجراء التطابق المطلوب بين الخطاب والمرجعية والبروفيل البشري من جهة ثانية. 11- الطرح الذي لا أتفق عليه هو حينما يقول الأستاذ عبد الحي بأن الإشكالات الكبرى التي يواجهها الاختيار التوافقي ترتبط بالدور الذي اختارت المؤسسة الملكية أن تلعبه في مضمار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل يجعل تحركها على هذه الأصعدة دعما لمشروعيتها في مطلع القرن الواحد والعشرين، وأنه كلما استمر تراكم هذه الانجازات كلما واجه مطلب الإصلاح الدستوري إشكالا جديا. - هنا أيضا يتعين الإشكال الحقيقي في هذه الثنائية التقابلية، أي مؤسسة ملكية تنجز في الميدان أو مؤسسة بعيدة عن مستلزمات القرب. الإشكال الحقيقي، والثنائية التقابلية الحقيقية هي: ملكية برلمانية أم ملكية تنفيذية. هذا من جهة ومن جهة ثانية يبدو أن ما تقوم به المؤسسة الملكية يندرج فيما يمكن أن نسميه بالتصدر Preeminvence وهي مسلكية سياسية وسلوكية يصعب مقاربتها انطلاقا من المفاهيم المألوفة في العلوم السياسية. من جهة ثالثة، أعتقد أنه من الضروري بشكل عام التمييز، بغض النظر عن جانب النوايا، بين الإنجازات والإصلاحات: يمكن أن تكون هناك إنجازات دون أن تتلاءم بالضرورة مع إصلاحات عميقة. وفي الحالة المغربية تحديدا فإنه ما لم تتغير الإدارة، وعقلية اشتغال الإدارة، وفي مقدمتها الإدارة الترابية، فإنه سيصعب إيجاد التقاطعات المطلوبة بين الإنجاز والإصلاح. للنظر بهذا الخصوص الى ما يحصل بخصوص تنفيذ برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للنظر إلى التفاوت الحاصل بين النوايا والنتائج. أضيف الى ذلك أننا أصبحنا بشكل عام نعيش في المغرب ما أسميه صراع الفكرة والخدمة أي تحويل الممارسة السياسية برمتها والتواصل السياسي برمته الى تنافس حول تقديم الخدمة الفورية، وقد لاحظنا ذلك مثلا خلال المنافسات التي شهدتها الانتخابات التشريعية الأخيرة. 12- أعتقد أنه ليس ضروريا أن يعيش المغرب تلك الحيرة الوجودية أو ما يشبه Dilemme نجدها في الفقرة الأولى من الصفحة السادسة من الورقة أي: - إما المطالبة بتنظيم السلطات الدستورية وفي هذه الحالة التوقف في سيولة الاستثمارات يؤدي الى تقوية حظوظ المعارضة المحافظة وإما سلطات واسعة للملك تؤجل باستمرار مطلب الدمقرطة، فهذه الثنائية التنازعية ليست بالضرورة قدرا سياسيا محتوما، حيث يمكننا تصور هندسة جديدة للسلطات الدستورية عبر الإصلاح يضمن التوازن ويقوي التطور الديمقراطي المتناغم للبلاد. 13- يعتبر الأستاذ عبد الحي مودن، وأنا اتفق تماما مع هذا، أن النقاش حول تراجع اليسار ظل نقاشا تقنيا لم يأخذ بعين الاعتبار، حسب رأيه، بعض المعطيات الأساسية، ذلك أن النقاشات في هذا الموضوع لم تبرز طبيعة السياسات التي اتخذها وزراء اليسار وتنامي إغراء تكوين حكومات لا تقوم على الانسجام الإيديولوجي وما يرافق ذلك من تبخيس لدور الأحزاب. ويعتبر الأستاذ عبد الحي عن حق أنه من الضروري استبطان وقبول رجوع اليسار الى المعارضة باعتباره أمرا عاديا، فالمعارضة ليست صفة ملازمة للحزب وقبول هذه الفكرة من شأنه جعل الحزب أكثر ارتباطا بالمجتمع وبحركية الواقع وهذا صحيح الى أبعد الحدود. 14- وفيما يخص النقد الذي تعرضت له مشاركة اليسار في حكومة التناوب يلاحظ الأستاذ عبد الحي مودن كيف أن اليسار ذاته لم يدافع عن تجربته وكيف وقع عزوف لإعلامييه ومنظريه ومرشحيه،ويطرح في هذا السياق بعض الفرضيات والعناصر التفسيرية ومنها مثلا كون اليسار فشل في تحويل خبرته في انتاج خطاب المعارضة إلى خطاب المشاركة الحكومية، وأن الوزراء لم يكونوا مقتنعين بما خططوا له أو أنجزوه أو أن حصيلة اليسار في نظر زعمائه لم تكن في حاجة الى من يدافع عنها، و أخيرا كون الإعلام ظل معارضا للتجربة في توجيهه. ومع الإقرار بأهمية وإجرائية هذه العناصر التفسيرية، فإنه يمكن أن نضيف إليها عناصر أخرى لتفسير ذلك الواقع الذي أشار إليه الأستاذ عبد الحي مودن ومنها مثلا: الانفصام بين التنظيمات الحزبية السياسية والتصريف البرنامجي من طرف وزراء اليسار، ومن هذه العناصر أيضا مسكلية التصدر التي أشرنا إليها والتي عمقت الإحساس بمحدودية اللعبة السياسية بشكل عام، ثم أخيرا الصدام الذي حصل بين الامد البعيد والأمد القصير، أو في ما هو منتظر من نتائج للعمل الحكومي. فإذا كانت حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي قد قامت بإصلاحات جوهرية وهيكلية لا يمكن أن تنتج آثارها إلا في الأمد المتوسط والبعيد، فإن الأمر القصير كان مثقلا بهموم وانتظارات ضاغطة، علما بأن الأمر القصير هو مجال السياسة بامتياز ومجال صناعة الرأي العام. أخيرا أود التأكيد مرة أخرى على الأهمية الكبرى للقضايا التي أثارها عبد الحي مودن في ورقته وإلى الطابع التجديدي في طرحها، كما أود التأكيد على الحاجة الموضوعية إلى مزيد من الحوار الهادئ والرصين بخصوصها، يتجاوز المنزلقات التي غالبا ما تسقط فيها المقاربات السياسية عندنا والتي تتأرجح في الغالب بين النزعة العلموية المتعالية والمسح السياسوي القصير الأفق.