حكى لي صديق خليجي أنه، خلال دراسته الجامعية في ثمانينيات القرن العشرين، كان يقيم في العاصمة البريطانية لندن، في مسكن متواضع في حي جانبي، كانت طرقاته ما تزال متربة. وحدث أن توفرت للبلدية اعتمادات إضافية، فكرتْ في استثمارها في تزفيت تلك الطرقات المتربة. لكن بلدية لندن، بقضها وقضيضها، وفق عادات ذلك البلد، لا تملك أن تفعل ما تشاء متى ما شاءت. لذلك قرر المسؤولون البلديون استطلاع رأي السكان، لمعرفة ما إن كانوا يوافقون على تزفيت حيهم أو يفضلون تركه على حاله. فكان الصديق الخليجي الأجنبي من السكان المستطلعة آراؤهم. لا تهمنا كيف انتهت تلك الحكاية، مادامت بلدية لندن ملتزمة باحترام اختيار أغلبية سكان الحي المترب؛ ولكن تهمنا بلدياتنا التي تتصرف أحيانا مثل قوات احتلال، وفي معظم الأحوال تتصرف كأننا «محاجير» لا رأي لهم. نستيقظ في الصباح على ضجيج عمال يحفرون حينا لاقتلاع أحجار صلدة مقامة منذ عقود لتعويضها بقطع إسمنتية قابلة للكسر والتغيير بعد عام. يحدث هذا دون اختيارنا، ودون حتى إخبارنا، كأن الحي حي البلدية، ونحن مجرد حراس له دون مقابل. لا أحد يسأل عن رأينا خارج أيام الانتخابات البلدية. وحتى في تلك الأيام، يكون التهافت على أصوات المواطنين لا على آرائهم؛ فحين يصعد الصاعدون على أصوات المواطنين إلى تدبير الشؤون البلدية، يتولون التفكير نيابة عنهم، متجاهلين أن أهل مكة أدرى بشعابها، وبأولوياتها أيضا؟ أصحاب بازارات الصناعة التقليدية في السوق التحتي في الرباط يعرفون معنى هذا الكلام؛ فقد اختار المجلس البلدي أن يعيد تبليط السوق باقتلاع أحجار تتحدى الزمن لتغييرها بأخرى. لا أحد منهم يعرف سبب ذلك ولا مغزاه، غير صرف اعتمادات بلدية تثقلها الديون، كان الأولى بها أن تعفي ميزانيتها من هذه المصاريف. ولأن الأشغال تجاوزت ضعف الأجل المخصص لها، لأسباب يعرفها أهل البلدية، والله أعلم، فقد عانى تجار المنتوجات التقليدية على امتداد عام كامل، وتأثرت مداخيلهم. والأسوأ من كل هذا أن النتيجة، كما يلمسها زوار هذا السوق، كارثية في ألطف أوصافها؛ ففي أيامها الأولى عقب إعادة التبليط تسبب حجر ناتئ في تعثر امرأة، وفقدت أسنانها في تلك العثرة. أصحاب السوق التحتي مجمعون على أن حالة أرضيتهم كانت أحسن مما هي عليه بعد عام من الأشغال. وأخشى ما يخشاه التجار هو أن الوجه الجديد للسوق التحتي ينذر بعام جديد من «تعطال الشغل»، فهم يعتقدون أن أول مسؤول من الوزن الغليظ يزور السوق ويقف على هذه الحالة، حتى لو لم تتعثر فيها قدماه، سيأمر فورا بإصلاح ما أفسدته الأشغال السابقة. وغير بعيد عن هذه السوق، تشهد السويقة أن عملية «التجلاج» التي تمت قبل بضعة أعوام، توالت عليها عمليات الحفر، حتى باتت في حاجة إلى «تجلاج» جديد. ما إن ينتهي، حتى تظهر الحاجات إلى حفر جديد.. جنبات السور الموحدي، بالرباط دائما، صرفت عليها ميزانية تشجير، ما إن تغير المجلس البلدي حتى تخصصت لها ميزانية اقتلاع تلك الأشجار والتحول إلى «تجلاج» مدعوم بكراسي مغطاة بالرخام. ولأن الأشغال تمت كما تعرفون، فسرعان ما بدأت قطع الرخام تنزاح عن غش صارخ، بلا حسيب ولا رقيب، ما دامت الفرصة مناسبة لميزانية جديدة، ل»تجلاج» جديد. وهاهم القائمون على الشؤون البلدية لعاصمة البلاد يصرفون ميزانية أخرى على نفس الجنبات المحاذية لنفس السور. ولا أحد، ممن يحبون التحدث عن الإنجازات، تفضل بإخبارنا كم مئات، وربما آلاف، من الملايين تم صرفها في مثل هذه المشاريع التي لا تنتهي إلا لتبدأ في صورة أخرى. هي نبوءة صاحبنا عبد الكريم، «الله يرحمو أولا الله يذكرو بخير»، أيام «الهوى والشباب»، وأنشطة دار الشباب، جاءنا بنص مسرحي بعنوان «الحفير»، تتكرر فيه عبارة «الحفير.. الحفير.. حتى لايْن علينا بهاد الحفير؟». واليوم، بعد أربعة عقود على تلك الأيام الجميلة، ما زال السؤال مطروحا: «حتى لاين هاد الحفير؟».