تعرف القلّة القليلة من الناس أن للولايات المتحدةالأمريكية شاعرا رسميا، لكن العُمر الافتراضي للشاعر الأمريكي، عَكْسَ المدّاحين العرب، لا يتجاوز ساعات معدودة، حيث يلقي قصيدة يوم حفل تنصيب الرئيس الجديد للولايات المتحدة، يُعدّد فيها خصاله ومناقبه ثم يمضي إلى حال سبيله. ويوم 20 يناير المقبل، ستكون مهمة الشاعر الرسمي سهلة، إذ إن الرئيس الرابع والأربعين يشكل مادة خصبة وغنية في حد ذاته، مادام وصول بارك حسين أوباما إلى البيت حدثا تاريخيا بامتياز وتجسيدا للحلم الأمريكي الذي داعب مخيلة السود الأمريكيين، أو الأفرو-أمريكيين كما يسمون اليوم، بأن يترجموا حلمهم بعد تحريرهم على يد لينكولن، إلى واقع ملموس، فتمكنوا بعد نضالات مريرة من أن يقتعدوا الأماكن المخصصة للبيض داخل الحافلات، وأن يدرس أبناؤهم في أقسام دراسية كانت مخصصة للأطفال (البيض الأنغلوساكسونيون البروتستانت). وبالرغم من كون العنصرية لم تتبدد تماما وتواصل انتشارها السرطاني بصيغ أخرى، إلا أن السود اقتحموا البورصة وعالم المال والأعمال، وكل فضاءات الإعلام والفنون، واحنا فرحانين ليهم. وقد لا يعني وصول أوباما إلى المكتب البيضاوي أن أمريكا قد تحررت من كل شوائب الماضي، إذ ربما عليه أن يحرر «العبيض» من عقدهم، بعد أن تحرر العبيد السود من قانون السخرة في حقول القطن، ولم تعد عصابات الكيوكلوكس كلان تحرق بيوتهم وتنصب لهم المشانق. يتسلق أوباما أعلى هرم في السلطة كخلف لأسوأ رئيس عرفته سجلات التاريخ الأمريكي، إذ لا يجد جورج وولكر بوش من سينافسه في «المهام» التي أنجزها وأسفرت عن إزهاق أرواح مئات الآلاف من بني البشر ظلما وعدوانا، وخربت العالم ومرغت صورة أمريكا في التّراب والغيس والدماء، إلى درجة تساءل فيها الأمريكيون بسذاجة: لماذا يكرهنا العالم بأسره؟ وهو سؤال شكسبيري وتراجيدي لم يسبق لليانكي أن طرحوه حتى في أسوأ لحظات حرب فيتنام القذرة. وحَرِيٌّ بأوباما أن ينتبه اليوم إلى أن السؤال الحقيقي هو ما تطرحه شعوب العالم حين تتساءل بالتصريح أو التلميح: لماذا تكرهنا أمريكا؟ ولماذا لا ترى في أرضنا سوى خزان للثروات القابلة للنهب بدون حسيب أو رقيب؟ ولماذا تخدعنا أمريكا حين تنتصر شفويا فقط لقيم الديمقراطية والحرية، في الوقت الذي تحتضن فيه الدكتاتوريين الذي يحكموننا. على الرئيس أوباما أن يفهم ما لم يفهمه من سبقوه إلى البيت الأبيض من كون الحلم ليس أمريكيا بالضرورة، وأن مواصلة تحقيق الحلم الأمريكي لا تعني فرض الكوابيس التي تقض مضاجع الشعوب المستضعفة من طرف الهيمنة والغطرسة العسكرية والاقتصادية الأمريكية، ومن قبل المستبدين المحليين. فلكل شعب حلمه، فللمغاربة حلمهم وتطلعاتهم من أجل الحرية والديمقراطية. أمام أوباما أربع سنوات سيقضي قسطا وافرا منها في تنظيف و«تجفيف» ردهات البيض الأبيض من المآسي التي خلفها بوش الابن، لكن جهوده ستمنى بالفشل إذا لم يتدارك الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الإدارة البائدة في حق الحلم الفلسطيني، حين يصر رجال ونساء القرار الأمريكي على اعتبار السلام في الشرق الأوسط مرادفا لأمن إسرائيل. وقد بعث الرئيس المنتخب أوباما رسائل مخيبة للآمال حين عيّن الإسرائيلي إيمانويل رام على رأس إدارة البيت الأبيض، ووضع كل مفاتيح هذه الدار الخطيرة في يد جندي إسرائيلي سابق ونجل إرهابي صهيوني خطير دَبّر من بين ما دبّر مجزرة دير ياسين. لا نريد من أوباما أن يعين إسرائيليا ولا حتى عربيا في ذلك المنصب. وكان الأمل يحدونا أن يعين الرئيس المنتخب شخصا منحازا ليس إلى إسرائيل أو إلى العرب، بل منحازا إلى الحق، والحق وحده، لكن أوباما جدد الولاء تلو الولاء لحكام تل أبيب، وأعلن أنه يتعهد شخصيا بوضع القدرات النووية الأمريكية رهن إشارة إسرائيل في حالة نشوب حرب مع إيران. إنه شيك على بياض يوقعه أوباما سيمكن الإسرائيليين من إطلاق يدهم في رقاب الشعب الفلسطيني، بينما كان الحل الأمثل والطريق الأقصر إلى السلام أن يتم الإقرار بأحقية المطالب الفلسطينية، إذ إن هذا الحل سيكون له مفعول كرة الثلج بالنسبة إلى باقي المشاكل والأزمات التي تعرفُها دول المنطقة، والانعكاسات والتراكمات في حيز جغرافي يمتد من أفغانستان إلى الصومال. جميل أن يوزع سفير أمريكا بالرباط الحلوى على الأطفال المغاربة، لكن الأجمل كان ألا ينسى أن بلاده تدعم مسلسل إبادة الأطفال الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم. جميل أن يكون أوباما حلقة جديدة في مسار محاربة العنصرية بكل أشكالها، لكن الأجمل كان أن يتذكر الرئيس المنتخب أن العالم أقر بأن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية. فهل يعود منطق الكيل بمكيالين ليسود من جديد السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية تحت قيادة أوباما وهيلاري كلينتون؟ وهل ستكتفي باستنساخ المخططات الجهنمية للمحافظين الجدد ومنظري «الصهيونية المسيحية» الذين نجحوا في تحويل بلاد الرافدين إلى بركة آسنة ودمار شامل على يد الأمريكيين وأيدي بعض «أبناء» العراق؟ سيتبدد الحلم الأمريكي والحلم العالمي لو استمر أوباما في تصنيف الدكتاتوريين إلى صنفين: دكتاتور «خايب» ودكتاتور «مزيان» حسب ترمومتر المصالح الأمريكية. وقد رأينا نتائج الإيمان المزيف بالديمقراطية بمناسبة الانتخابات الفلسطينية التي عبّر فيها الشعب المقاوم عن رأيه بكل حرية.. وكيف كان الأمريكيون أول من تنكر لممارسة ديمقراطية سليمة وفريدة من نوعها في العالم العربي. ولم نندهش حين صفقت أمريكا وأوروبا ل«الديمقراطية» على الطريقة التونسية، أو لقائد عربي «فذ» في ليبيا العظمى يشتم الديمقراطية صباح مساء، ويعتبر التعددية السياسية وحق الاختلاف في الرأي رجسا من عمل الشيطان ينبغي اجتنابهما بأي ثمن، إذ لا شيء في نظره يبيح «محظورات» من هذا المستوى.. ولعله كان سبّاقا إلى إدراك ما كان ينبغي إدراكه من الوهلة الأولى، أي إن الدعوة الأمريكية إلى دمقرطة الشرق الأوسط الكبير ما هي إلا حق أريد به باطل. وقد سكتت كونداليزا رايس، صاحبة الدعوة، عن هذا الكلام المباح وعوضته بالدعوة إلى الفوضى الخلاقة التي كانت أمريكا أول «ضحاياها» في العراق وأفغانستان. فهل ستكون سنوات أوباما الأربع في البيت الأبيض سنوات عجاف كسابقيه.. ويثبت أن أمريكا هي أمريكا، أم إن المستحيل ليس أمريكيا؟ كما يقول أوباما.. دعونا نحلم.