خلال يوم العيد كانت لي فرصة متابعة نشرات الأخبار على أكثر من قناة. وبين أدخنة الرؤوس و«الكرعين» المشوية المرتفعة إلى عنان السماء على شاشة القناة الثانية، وبين أدخنة الحرائق الناتجة عن زجاجات المتظاهرين اليونانيين الحارقة التي تنقلها شاشات القنوات العالمية، كان الاختيار صعبا. لكن موضوعا في نشرة أخبار قناة الجزيرة شد انتباهي أكثر من المواضيع الأخرى. وكان حول احتفال أطفال في إحدى قرى سيدي يحيى زعير بعيد الأضحى. طبعا لا حاجة بنا لكي نصف لكم المشهد العام الذي يعيش فيه أطفال القرية التي لا تبعد عن الفيلات والقصور المحروسة بطريق زعير حيث يعيش الأمراء والأثرياء والوزراء السابقون سوى بخمسة عشر كيلومترا. ما أثار انتباهي في كلام أحد الأطفال هو أنه أعلن عن تضامنه مع أطفال غزة بمناسبة العيد، وتمنى لهم حياة سعيدة. غيرت المحطة وتابعت نشرة أخبار في محطة دولية نقلت احتفالات أطفال غزة والأراضي المحتلة بالعيد. ورغم الحصار والتجويع ظهر في تقرير المحطة أطفال باسمون يلبسون ثيابا نظيفة بصحبة آبائهم وأمهاتهم في مدينة صغيرة للملاهي يمرحون في الأراجيح. فقلت مع نفسي أن أطفال غزة هم الذين يجب أن يتضامنوا مع أطفال سيدي يحيى زعير، لأن هؤلاء الأطفال الذين يلعبون شبه حفاة وعراة وسط البرك القذرة لم يشاهدوا «زعلولة» أخرى في حياتهم غير تلك الزعلولة البدائية التي يربطون حبالها إلى الأشجار مثل «ماوكلي» فتى الأدغال. وقد كانت ملاحظة إحدى قريباتي في محلها وهي ترى كيف أن الفلسطينيين وأطفالهم رغم الحصار والتجويع والبرد، يظهرون في نشرات الأخبار لابسين ثيابا لائقة ووجوههم تعلوها نضارة مشرقة، بعكس «دياولنا» عندما يظهرون في نشرات الأخبار تراهم «مقطعين» ووجوههم يعلوها شحوب غريب يشبه شحوب الخائف من شبح يتهدده وراء الكاميرا. قبل أن تضيف ساخرة «فالحقيقة ماشي هوما اللي فغزة، حنا اللي غزاو فينا خوتنا». وهذا ليس غريبا، ففي التقرير الأخير لمنظمة الأممالمتحدة حول التنمية البشرية جاء ترتيب فلسطين أحسن من ترتيب المغرب، خصوصا في التعليم. وقد رأينا كيف أن السلطة الفلسطينية عندما أغلقت المدارس أبوابها بسبب القصف شيدت خياما للتلاميذ حتى لا تنقطع الدراسة. عندنا أيضا يشيدون الخيام، لكن من أجل «التبوريدة» أيام المواسم. وفي مساء يوم العيد أيضا أعطت القنوات الفرنسية جميعها سواء منها العمومية أو الخاصة درسا للعالم في احترام حقوق الطفل. فقد أوقفت وزارة العدل الفرنسية بت جميع البرامج لثوان طيلة النهار لبث إعلان عن اختطاف رضيع، وطلبت من كل من لديه معلومات حول هذا الرضيع إبلاغ الشرطة فورا. كما جندت وزارة الداخلية 200 رجل درك للبحث عن الرضيع. ولم تتوقف الآلة الإعلامية إلا عندما تم العثور على الرضيع وتم اعتقال خاطفته. أليست هذه أحسن طريقة للاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عوض الاحتفال بها كما فعل المغرب عندما رمى أحد رجال الأمن رضيعا من يد أمه لم يكمل بعد شهرة الثامن بعد أن كسر ذراع الأم في وقفة احتجاجية بحي «العهد الجديد» بالدار البيضاء. عندما نرى كيف تجند وزارة العدل والداخلية الفرنسية كل إمكانياتها للعثور على رضيع مسروق، نصاب بالخجل عندما نرى كيف ترفض وزارة الأسرة والتضامن والمجلس الأعلى للهجرة ومديرية الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية استلام 4000 طفل مغربي قاصر يوجدون في مراكز الإيواء بإسبانيا وحدها، فضلا عن مئات الأطفال المغاربة القاصرين الموزعين على ملاجئ أوربا. والواقع أن الإنسان يحار عندما يرى الإعلام العمومي المغربي يبث برامج للبحث عن الأطفال المختفين لإعادتهم إلى ذويهم مرفقا بنداءات واستغاثات تقطع القلب، في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة والدولة المغربية استعادة آلاف الأطفال المغاربة الذين تم العثور عليهم في إسبانيا وتم تحديد هوياتهم والمدن التي ينحدرون منها. وعوض أن ينشغل الإعلام العمومي ومعه وكالة الأنباء الرسمية، التي ينفق عليها المغاربة من ضرائبهم، بمصير هؤلاء الآلاف من الأطفال الضائعين في بلدان الجيران، يفضلون الانشغال بمصير أطفال عشرة مغاربة قرروا البقاء في الفيتنام بعدما ذهبوا إليها للقتال، ورفضوا العودة سنة 1972 مع السبعين جنديا مغربيا الذين قرروا العودة إلى المغرب رفقة زوجاتهم الفيتناميات. وهكذا اكتشفت وكالة المغرب العربي للأنباء، بمناسبة زيارة عباس الأخيرة للفيتنام، أن هناك حوالي أربعين مغربيا ينحدرون من صلب هؤلاء المحاربين المغاربة العشرة القدامى الذين قرروا البقاء في الفيتنام. ويحكي مراسل الوكالة أنه قطع الطريق نحو القرية الجبلية التي يقطنها هؤلاء المغاربة في ثلاث ساعات وأربعين ثانية بسبب صعوبة الطريق وعدم تزفيتها. وربما نسيت الوكالة الرسمية أن هناك اليوم 990 دوارا و400 ألف مواطن في المغرب تتهددهم العزلة عن العالم بسبب البرد والثلوج، وليس فقط أربعين مغربيا في الفيتنام. وحتى عندما يتحدث مراسل الوكالة في «هانوي» عن افتقار هؤلاء المغاربة إلى أوراق الهوية المغربية، فإنه ينسى ربما أن مئات الآلاف من المغاربة في الجبال والقرى البعيدة يولدون ويتناسلون ويتكاثرون بدون حالة مدنية. والواقع أن «الفيتنام ديال بصح» هي تلك التي توجد عندنا هنا في المغرب، ولذلك فلا حاجة بالوكالة إلى الذهاب حتى «هانوي» للبحث عنها. ولكي تقوم بواجبها في البحث عن الأطفال المغاربة الضائعين والمنسيين فما عليها سوى أن تحرك سياراتها ذات الدفع الرباعي وتتوجه نحو قرى ومداشر خنيفرة، وهناك سيعثر مراسل الوكالة على أطفال أنفكو الذين يلبسون صنادل البلاستيك ويسيرون بها فوق الثلج، وهو المنظر الذي لن يشاهده سوى في الأشرطة التسجيلية بالأسود والأبيض لأطفال حرب «لاندوشين». عندما سمعت الشعار الذي اختارته الحكومة المغربية للاحتفال بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يقول «الكرامة والعدالة للجميع»، قلت في نفسي أن الذي اختار لعباس هذا الشعار «ما حشم ما رمش». فإذا كان هناك شيء ينقص في هذه البلاد فهو بالضبط الكرامة والعدالة للجميع. عن أية كرامة يتحدثون إذا كان احتجاج بضعة شبان على بطالتهم يستدعي معاقبة مدن بكاملها كسيدي إفني وصفرو. وعن أية عدالة للجميع يتحدثون إذا كان زوج أميرة يستطيع أن يشهر سلاحه في وجه شرطي مرور ويصيبه بطلق ناري ويذهب إلى بيته بدون أن يجرؤ أحد على اعتقاله وتقديمه للعدالة. عن أية عدالة للجميع يتحدثون إذا كان القضاء يحكم ببراءة ابن الوالي المخمور من مقتل مواطن بسيط عائد إلى أطفاله بحلوى الإفطار الرمضاني. وأية عدالة للجميع هذه التي تؤاخذ البعض بأفعالهم بينما تبرئ البعض الآخر بسبب جنونهم ومرضهم النفسي وعقدهم الطفولية. لقد رأى العالم بأسره، والمغاربة بينهم، كيف خرج الشباب والمعارضة إلى الشوارع يواجهون قوات الأمن في اليونان لمجرد أن شرطيا أطلق النار على طفل وقتله. ورأوا كيف طالبت المعارضة في البرلمان باستقالة الوزير الأول لأنه يتحمل مسؤولية موت ذلك الطفل، في الوقت الذي اقتيد فيه الشرطي القاتل إلى السجن. رصاصة واحدة طائشة تسببت في أزمة سياسية كبرى داخل البلد الذي اخترع الديمقراطية وصدرها إلى العالم. هذا هو التجسيد الحقيقي لشعار «الكرامة والعدالة للجميع». عندما يقرر الشعب توقيف الأمن الهائج عند حده، ولجم شراسته لكي يفهم أن السلطة الحقيقية في يد الشعب وليست فقط في يد من صوت عليهم هذا الشعب. ولكي يفهم أن الشعب يدفع رواتب رجال الأمن من ضرائبه لكي يحموه لا لكي يوجهوا نحو رأسه مسدساته وهراواته. سيقول قائل أنني أقارن ما لا يقارن. فشتان ما بين دولة كاليونان صدرت الديمقراطية إلى العالم قبل مئات القرون وما بين دولة كالمغرب تصدر التعذيب إلى موريتانيا. لا أملك أمام هذا التعليق سوى أن أردد ما ردده أحد القراء الذين يعيشون في أوربا وهو يرى ما يحدث في المغرب من مهازل عندما كتب إلي قائلا «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك يا وطني غير محزونين».