الحديث عن الفتيات المدخنات في المغرب هو حديث قلما يجد طريقه إلى وسائل الإعلام، رغم أنه أصبح ظاهرة ملفتة للنظر خاصة في المدن الكبيرة، وأضراره على المرأة نفسها وعلى من يحيط بها واضح لا يخفى على أحد. فما هي الأسباب التي تدفع بناتنا ونساءنا إلى ولوج عالم التدخين؟ وكيف ترى بنات حواء حالتهن داخل هذا العالم المليئ بالأحزان والمآسي والأمراض المستعصية؟ >التجديد< التقت ببعض المدخنات اللواتي قبلن الحديث عن هذا الموضوع الشائك، وحاولت معرفة الأسباب والظروف التي شجعتهن على التدخين، كما حاولت معرفة رأيهن في هذا الموضوع عموما، وذلك في الاستطلاع التالي: الجارة والسيجارة لم يكن من الصعب العثور على الفتيات المدخنات، فأغلب مقاهي العاصمة الإدارية تغص بهن، كما أن الحديث إليهن لا يبدو صعبا، فلدى أكثريتهن رغبة في النقاش والحوار، فقط يجب الإنصات إليهن وإعطاؤهن الاهتمام الذي يستحقونه. بداية علاقتي مع هذه السيجارة اللعينة كانت في سن الخامسة عشرة تقول سعاد ذات الواحد والعشرين ربيعا.. كانت جارتنا تدخن كثيرا، وحين كنت أزورها برفقة أمي كنت أعجب بطريقتها في التدخين وإمساك السيجارة، كنت أعشق النظر إليها، بل وحتى رؤية دخان السيجارة وهو يتصاعد. هذه الجارة توضح سعاد متزوجة، ولها ولدان، وزوجها هو الآخر يدخن. حينما كنت أجد نفسي وحيدة، كنت أغتنم الفرصة لزيارتها وحدي؛ وربما لاحظت هي الأخرى إعجابي برؤيتها وهي تدخن، لذلك ما لبثت أن شجعتني على تدخين أول سيجارة، لتبدأ حكايتي مع هذا العالم.. أخبرتنا سعاد أنها انقطعت عن الدراسة في مرحلة الباكالوريا، ومستواها المعيشي بسيط بحال المغاربة على حد تعبيرها؛ أمها ربة منزل، وأبوها يشتغل ميكانيكا، وهي تتابع تكوينها حاليا في مدرسة للخياطة. وعن سؤالها حول حالتها الصحية مع التدخين، خاصة وأن فترة ستة سنوات من التدخين المتواصل ليست بالسهلة، أجابت سعاد ضاحكة: المهم أولا أن تسألني عن ضرر الجيب، فالسجائر تستنزف كلما أستطيع توفيره من مال، كما أنني أضطر لإجراء عملية تنظيف للأسنان كل فترة داخل عيادة خاصة، حتى لا تتأثر الأسنان جراء التدخين؛ أما عن الحالة الصحية، فأنا أعاني من سعال شديد في أحيان كثيرة، كما أنني أشعر بالإرهاق بعيد إجراء أي مجهود حتى ولو كان بسيطا. فما هي رسالة سعاد للفتيات المدخنات؟ صعب جدا أن تنهي أي بنت علاقتها مع السيجارة، لذلك من الأفضل أن لا تجرب أي واحدة الدخول إلى هذا العالم القبيح. وصال والثانوية أول ما يلفت النظر في المقهى الذي تحدثت فيه التجديد إلى سعاد هو وجود فتيات مدخنات كثيرات وهن جالسات إما في مجموعات مختلطة، أو في ثنائيات مختلطة كذلك. أما ثاني ما يلفت النظر، فهو وجود كل الفتيات في علّية المقهى، في حين بقي الجانب السفلي من المقهى خاصا بالرجال فوق الثلاثين عاما. ولا يدري أحد هل لهذا السبب أصبح من الواجب على كل من يفكر في بناء مقهى تخصيص علية، حتى يواكب التحولات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع، ويستقطب أكبر عدد من الشباب من الجنسين. وصال التي فضلت أن تنشر ما أخبرتنا بهذا الاسم، هي الأخرى من الفتيات المدخنات، بدت جالسة في ركن بعيد من المقهى وقد لفت سيجارة بين أصابعها تدخنها بأسلوب يدل على الاحترافية. قبلت وصال الحديث إلينا، مشترطة عدم كتابة اسمها الحقيقي أو نشر صورتها. عمري 71 عاما، بدأت التدخين منذ سنتين ونصف تقريبا داخل المدرسة. فقد كانت لدي صديقتان تستغلان الفرصة لتدخين سيجارة بشكل مشترك داخل مرحاض المؤسسة. كنت أنهاهما بشدة، بل وصل بي الأمر لأن أهددهما بإخبار أهلهما إن هما استمرتا على ما هما عليه. وتضيف ضاحكة لكن هما كانتا تقولان لي بأن التدخين يساعد على نسيان المشاكل والهموم، ويعطي أحاسيس خاصة للفتاة يشعرها أنها كبيرة. وفي بعض الأوقات كنت أرافقهما إلى بعض المقاهي والمتنزهات حيث كنا نلتقي بعض الشبان، والكل كان يدخن إلا أنا. وبطبيعة الحال، ففي مثل هذه المواقف لا يمكن للاستثناء أن يكون، والكل يجتمع لإقناع الذي يحاول أن يستثني نفسه من الضياع بالدخول في الجماعة لأنه ما كيخرج من الجماعة غي الشيطان. وهذا ما أخبرتنا به وصال التي أكدت أن تلك الجلسات غيرت الكثير من مفاهيمها وسلوكياتها. تقول وصال وفي إحدى تلك الجلسات، أقنعت نفسي بأنه لا ضرر من أن أجرب، فجربت أول سيجارة، وبدأت أسعل بشدة،ومن حولي يضحكون، غير أنني عدت مسرعة إلى المنزل أبكي بحرقة، وأشعر أنني خنت ثقة أبي وأمي وإخوتي.. ووعدت نفسي بأن لا أعود للسيجارة مرة أخرى. وطبعا كان الوعد كاذبا، وما لبثت وصال أن عادت للتدخين.. وهي تبرز هذه الحقيقة قائلة حينما عدت للدارسة في اليوم الموالي عرضت علي صديقاتي الذهاب إلى إحدى المقاهي، فذهبت معهما وشرعنا ندخن بشكل عادي وكأن شيئا لم يحدث بالأمس، ومنذئذ لم تنقطع علاقتي مع السجائر. وعن المال والأمراض الخطيرة التي يسببها التدخين توضح وصال: أشتري السجائر بشكل يومي، وغالبا ما أدخن داخل المقاهي لأنها المكان الأنسب لذلك، وأعرف أن التدخين يسبب السرطان والكثير من الأمراض، لكن ما باليد حيلة. وتضيف قائلة حاولت أن أكف عن التدخين لكن لم أستطع، ولا أخفيك فأنا أحس بمتعة كبيرة حين أدخن، كما أشعر بألم وحسرة خاصة حينما أخلو بنفسي في ظلمة الليل. زميلة وصال التي تجلس بجانبها والتي كانت تقاطع حديثنا بين الفينة والأخرى أكدت لنا من جانبها وهي تحاول تصنع مظهر السيدة العاقلة الحكيمة أنه من الصعب الإقلاع عن التدخين في ظل محيط اجتماعي وتربوي يساعد على انتشار الظاهرة وتوسعها. كما لم يفت نبيلة أن تخبرنا بأن التدخين منتشر بكثرة في صفوف البنات والذكور على حد سواء داخل المؤسسات التعليمية، وأكدت لنا أن الأمر يتجاوز السجائر إلى بعض أنواع المخدرات، منها الحشيش والقرقوبي والخمور. ويبدو أن حلاوة الحديث ودفئه قد شجع وصال ونبيلة وزميلهما على السير قدما في اتجاه الحديث بصراحة صادمة ، إذ سرعان ما أكدوا للتجديد لدى جوابهم عن تساؤل حول علاقة التدخين بالمخدرات والعلاقات الحميمية المحرمة وهم يضحكون أن الأمر عادي جدا في صفوف بنات الثانويات والمعاهد الخاصة، بل إن زميلهما المحترم أكد أنه يعرف عددا من الفتيات اللواتي أجهضن، وهو ما أكدته كل من نبيلة ووصال عبر الإيماء برأسهن... لم يكن ممكنا بعد هذه الجرأة وهذه الصراحة المفجعة التي تدمي القلب وتشعر المرء وكأنه يعيش في عالم، والمجتمع وما يجري داخله يعيش في عالم آخر، الاستمرار في الحديث؛ فالحقائق قد اتضحت بمسمياتها الصريحة، كما اتضح أن ما يحد ث داخل أوساط المراهقين، أصبح على درجة كبيرة من التعقيد، يزيدها غموضا وتشابكا الإهمال واللامبالاة التي يعاني منها هؤلاء من طرف المسؤولين المفترضين عنهم (الآباء، المربون، أرباب التعليم،...إلخ). وبين هذا وذاك، اتضح أن تدخين النساء (والرجال أيضا)، ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد. لمياء: هذا ما جناه علي أبي في إحدى المقاهي وسط مدينة الرباط، حيث يكثر المدخنون والمدخنات، جلست لمياء رفقة صديقتها كريمة وقد بدت عليهما مظاهر اليسر، سواء من خلال لباسهن والحلي التي عليهن، وحتى من خلال علبتي السجائر الموضوعة أمامهما وهما من النوع الفاخر. تقول لمياء الحقيقة بدأت قصتي مع التدخين منذ ثماني سنوات أو أكثر، فكل الظروف كانت مواتية لأن ألج هذا العالم الغامض. فأبي يدخن منذ ثلاثين سنة، وأخي الأكبر يدخن كذلك، وكلاهما لم يكن يفرق بين البيت والشارع في مسألة التدخين،فأينما ووقتما جاءت الرغبة في التدخين، يشرعون في حرق السجائر رغم احتجاجات أمي الكثيرة. وتضيف لمياء ومع الوقت، بدأت فكرة التدخين تداعب خيالي، فكم كان يعجبني أن أرى أبي وأخي وهما يدخنان.. كان الأمر مثيرا بالنسبة لي، كما أن السجائر كانت موجودة على كل حال قريبة مني إما في غرفة أخي أو أبي، وذات يوم كنت وحدي في المنزل، فاغتنمت الفرصة، وأشعلت سيجارتي الأولى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بالنسبة للمياء، بل سيتكرر الموضوع مرات ومرات: نعم كنت كلما أجد نفسي وحدي في المنزل كنت أشرع في التدخين دون خوف.. فرائحة السجائر التي من شأنها إثارة الشكوك حولي لم تكن أبدا مشكلة بالنسبة لنا، بل كانت هي الرائحة الأصلية في منزلنا.. ثم ما لبثت أن بدأت أدخن خارج المنزل، وداخل الثانوية والمقاهي والمتنزهات والجامعة، أي أنني ارتبطت بالسيجارة ارتباطا وثيقا لم أستطع الفكاك منه. لمياء الموظفة بأحد أبناك العاصمة، تؤكد أنها تدخن بمعدل علبة يوميا، وتشير إلى أنها عانت من مضاعفات صحية خطيرة خاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، ونصحها الأطباء بالابتعاد عن السيجارة لكن دون جدوى.. تؤكد ذلك هي قائلة: حاولت فعلا الإقلاع عن التدخين، وفي إحدى المحاولات تجاوزت الفترة التي لم أدخن فيها الثلاثة أشهر.. لكن مع أول فرصة، كنت أعود إلى التدخين مرة أخرى.. وهكذا... لذلك أتمنى من جريدتكم المحترمة أن تبذل جهدها في حث الناس على عدم التدخين، وإبراز مضار هذه الظاهرة الخطيرة. ويبدو أن هذا هو الرأي نفسه الذي تتبناه زميلتها كريمة التي تعمل معها في البنك نفسه، بحيث أوضحت للتجديد أن الإعلام يضطلع بدور كبير إما في إصلاح الناس أو إفسادهم.. فأنا مثلا تشير كريمة كانت تعجبني كثيرا صورة المرأة التي تدخن وتظهر على الشاشة إما في المسلسلات أو الأفلام. ثم إن التربية داخل الأسرة والشارع يتكلفان بالبقية، فعوامل الإفساد تحاصر الشباب كانوا ذكورا أم إناثا من كل حدب وصوب. والحل في نظر كريمة هو نشر الوعي داخل المجتمع بشتى السبل والوسائل الممكنة. ماذا بعد؟ لا شك أن سعاد ووصال ونبيلة ولمياء وكريمة هن مجرد نماذج لفتيات ولجن عالم السيجارة بسبب توفر كل الظروف المشجعة، ومنها رغبتهن في ولوج ذلك العالم هن أيضا. وقد رفضت فتيات أخريات الحديث إلى التجديد حول هذا الموضوع في بعض الأحيان دون إبداء أي سبب، وفي أحيان أخرى بدعوى أنها أمور خاصة لا يجوز أن تخرج إلى العلن. ومن هنا فحديث الفتيات سالفات الذكر في هذا الموضوع هو مجرد عنوان ظاهر لرغبة خفية هي الابتعاد عن التدخين، والرغبة في توفر الظروف المساعدة لاستئصال هذه الظاهرة الغريبة عن هوية المغاربة وثقافتهم. فمن سيساعد أم الغد هاته، ومن سيساعد زوجة المستقبل تلك، ومن سيساعد هذه الأخت، أو معلمة الغد تلك؟ من المؤكد أن الملزمين بإيجاد جواب عن هذا السؤال هم الدعاة والمربون والأطباء والآباء والأمهات والأساتذة المختصون وكل من له علاقة بهذا الموضوع من بعيد أو قريب. وفي انتظار ذلك، على الكل أن يعلم أن التدخين في صفوف الفتيات (والذكور أيضا)، هو ببساطة الجزء الظاهر من جبل الجليد.