تعكف ثلاث دوريات للمساعدة الاجتماعية بولاية جهة الدارالبيضاء الكبرى، منذ فاتح دجنبر الجاري، على التقاط المتشردين من الشوارع والأزقة وإلحاقهم بالمركز الاجتماعي «تيط مليل» في إطار برنامج «خريف شتاء» الذي سيستمر إلى حدود شهر مارس المقبل. ليلة أمس الخميس، رافقت «لمساء» دورية للمساعدة الاجتماعية جابت أماكن تعتبرها السلطات «نقطا سوداء» يتجمع فيها المشردون و«البدون مأوى». الانطلاق كان على الساعة العاشرة ليلا من أمام مقر ولاية الدارالبيضاء. ركبنا «سطافيط» بيضاء كتبت عليها بلون برتقالي عبارة «وحدة المساعدة الاجتماعية»، بقرب السائق جلس منسق الوحدة وفي المقاعد الخلفية وجدنا شابا تفوح منه رائحة «الدوليو» النفاذة ورجل شرطة بزي رسمي وصحافيين من القناة الثانية كانا يعدان استطلاعا حول «البدون مأوى» في الدارالبيضاء. توفقت سيارة الدورية بزنقة علال بن عبد الله، غير بعيد عن السوق المركزي المعروف لدى سكان الدارالبيضاء ب«مارشي سنطرال» المطل على بناية فندق لينكولن الآيل للانهيار. ترجل من السيارة شرطي بزيه الرسمي، لحقه مدير مركز تيط مليل الخيري ومساعدان اجتماعيان كان أحدهما يحمل جهاز «تولكي وولكي» والآخر يرتدي سترة صوفية. لكز الموظف متشردا كان يفترش قطعة كرتون ويلتحف السماء طالبا منه النهوض، لكن المتشرد، الذي كان في وضعية تخدير متقدمة بالكاد تسمح له بفتح عينيه، رفض النهوض من مكانه ليضطر الموظف إلى الاستعانة بالشرطي لحمل المتشرد على الصعود إلى السيارة. عبد الكريم الصبار، مدير مركز «تيط مليل» الاجتماعي، الذي كان يركب سيارة أخرى كتبت عليها عبارة «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية»، قال ل«المساء» إن برنامج «خريف شتاء» الذي أطلقته ولاية الدارالبيضاء يروم التواصل مع المشردين بالمدينة وتنبيههم إلى خطورة العيش في الشارع واقتراح بديل يضمن كرامتهم، عبر نقلهم إلى مؤسسة الرعاية الاجتماعية بمركز «تيط مليل» والتكفل بهم في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. مأوى لمن لا مأوى له بين مركز المدينة وكورنيش عين الذئاب مرورا بحي العنق، التقطت دورية المساعدة الاجتماعية عشرة مشردين، ضمنهم قاصران، وبالرغم من إخضاعهم للتفتيش اليدوي من قبل المساعدين الاجتماعيين فإن بعضهم ظل يستنشق مادة «السليسيون» اللزجة بعد أن يعمد إلى وضعها في خرقة ويطمر أنفه فيها. عندما وصلت سيارة الدورية إلى كورنيش عين الذئاب، ترجل منها المساعدون الاجتماعيون وقفزا على حائط قصير لفيلا مهجورة قبل أن يعودوا بعد قليل مصحوبين بمتشرد كان في حالة هيجان شديد. ضجت السيارة برائحة نتنة، هي مزيج من رائحة «السليسيون» و«الدوليو». (محمد. ف)، رجل في الخمسينات من عمره، كان يتدثر بغطاء ويرسل نظرات تائهة متفرسا وجوه الجالسين قربه، قال إنه بدون أسرة ولا يملك مأوى في مدينة الدارالبيضاء، وإن الشارع هو الملاذ الوحيد الذي يملكه، مثله مثل مصطفى الذي ظل يتسول السجائر منا. يملك مصطفى قدرة غريبة على المناورة.. قال إنه كان مهاجرا سريا في فرنسا قبل أن يتم ترحيله إلى المغرب قبل عامين، ثم عاد ليؤكد أنه يتحدر من مدينة خريبكة، وعندما سألناه عن أسرته وعدد أفرادها قال مزمجرا: «مالك أخويا باغي تدير ليا لاكارط، قلب عليا الله يرحم الوالدين، أنا غير ولد باب الله عايش في الزنقة وغادي نموت في الزنقة، لست بلص ولا قاطع طريق، أعيش على الاستجداء، وكلما حصلت على دريهمات أقتني بها علبة «سليسيون». تدخل الشرطي ليطلب من مصطفى التزام الصمت، فما كان من هذا الأخير إلا أن مط شفتيه وأرسل بنظراته خارج زجاج السيارة متابعا حركة المرور حوله. منذ فاتح دجنبر الجاري، التقطت وحدات المساعدة الاجتماعية 51 متشردا ضمنهم طفلان قاصران و32 متشردا من الرجال و17 امرأة اتخذن من الشارع مأوى لهن. الطفلان القاصران منقطعان عن الدراسة، أما الرجال فقد وافق 11 منهم على الالتحاق بالمركز، فيما فضل الباقون البقاء في الشارع. اللافت أنه من أصل 17 امرأة متشردة، وافقت فقط 8 نساء على الالتحاق بمركز تيط مليل، فيما فضلت ال 9 الأخريات البقاء في الشارع. أصر مصطفى على الحديث بصوت مرتفع رغم التحذيرات التي أطلقها في وجهه الشرطي وقال بصوت جهوري: «لا تملكوا ضدي شيئا، لقد وجدتموني نائما في الشارع وأنا لست مجرما، هل تريدون إرسالي إلى السجن، افعلوا ما تريدونه، على الأقل هناك سأضمن مكانا ساخنا أنام فيه ووجبة غذائية». انتباه.. الكاميرا «شاعلة» ظل المساعدون الاجتماعيون العاملون في الدورية يتحدثون بلباقة إلى المتشردين الذين التقطتهم سيارة الدورية، وبالرغم من أن بعض المتشردين حاولوا افتعال الشجار مع المساعدين فإن الأخيرين حافظوا على برودة أعصابهم، ربما لأن عدسة كاميرا القناة الثانية «دوزيم» التي كان مبعوثوها ينجزون معنا ربورتاجا عن ظاهرة «البدون مأوى» في الدارالبيضاء كانت تلتقط ما يجري وتوثقه بالصوت والصورة، يعلق صحافي على الأمر قبل أن يكتشف أن هاتفه النقال ضاع منه ويشرع في صب جام غضبه على نفسه فقط لاعنا الظروف التي قادته إلى صعود «السطافيط» ومرافقة دورية التقاط المشردين من عاصمة المملكة الاقتصادية. اللافت أن موجة الصقيع التي تشهدها مدينة الدارالبيضاء عمقت من معاناة المشردين ودفعت بعضهم إلى الاستعانة بمشروب «فودكا» مغربي الصنع، مكون من كحول الحريق الممزوجة بمشروب غازي وشم لصاق «السليسيون» و«الدوليو» للوصول إلى مرحلة تخدير متقدمة تجعل المتشرد لا يحس بأطرافه المتخشبة جراء البرد والنوم في العراء. وحرص مسؤول بولاية الدارالبيضاء على تأكيد أن برنامج» خريف شتاء» ليس سوى خطوة مضافة إلى عملية محاربة ظاهرة التشرد التي انطلقت بالدارالبيضاء منذ يوم 12 ماي الماضي على مستوى تراب عمالتي الدارالبيضاء أنفا والفداء مرس السلطان، مضيفا أنه وإلى حدود يوم 30 غشت الماضي تم ضبط 1191 حالة تشرد، ضمنها 1072 رجلا و119 امرأة. عندما تقدمت سيارة الدورية باتجاه منطقة عين الذئاب، التقطت مشردين كانا يعدان وجبة عشائهما في الهواء الطلق وينصتان لجهاز «ترانزيستور» صغير يصدح بأغنية غربية. وبصعوبة، أقنع فريق المساعدة الاجتماعية هذين الشخصين بالصعود إلى السيارة، وحتى عندما فعلا ذلك، فقد ظلا يطلقان السباب البذيء ويتحسران على وجبة العشاء التي أعداها دون أن يتمكنا من تناولها بعد أن داهمتهما الدورية. رسميا، يجهل عدد المتشردين الذين يجوبون شوارع الدارالبيضاء، وإذا كانت ولاية الدارالبيضاء تقول، استنادا إلى دراسة أنجزها المركز الاجتماعي تيط مليل، إن عدد المتشردين الذين ينامون في شوارع المدينة يصل إلى1200 شخص، فإن تمركز العشرات من المشردين بالقرب من المحطة الطرقية أولاد زيان وداخل الميناء وفي شوارع مركز المدينة يجعل الأرقام التي تقدمها ولاية الدارالبيضاء أرقاما محدودة. وحسب دراسة أنجزها مركز تيط مليل الاجتماعي، على مستوى تراب عمالتي الدارالبيضاء أنفا والفداء مرس السلطان، ما بين 12 ماي و30 غشت من السنة الجارية، فإن البيضاء تضم 1200 متشرد فقط. وأشارت الدراسة المنجزة، في إطار برنامج «فرصة من أجل إعادة إدماج الأشخاص بدون مأوى»، إلى ضبط 1191 متشردا بالدارالبيضاء خلال 3 أشهر، 1072 منهم ذكور بنسبة 90%، مقابل 119 حالة ضبطت في صفوف النساء (10%). وأضافت أن 78% من هؤلاء المشردين يتوفرون على روابط عائلية عادية، أي 925 حالة، فيما تنعدم هذه الروابط لدى 22% منهم أي 226 حالة. وبالنظر إلى الفئات العمرية للحالات التي شملتها الدراسة، فإن فئة الراشدين شكلت الأغلبية بنسبة 67% أي 803 أشخاص، تلتها فئة المسنّين بنسبة 22,25% (265)، ثم فئة القاصرين ب9% (113)، والأطفال الرضع ب1,75% أي 10 رضع. وكشفت الدراسة أن نسبة 54% من المشردين الذين تم ضبطهم بالدارالبيضاء هم أشخاص عاديون (641 حالة)، في حين أن 25% منهم مختلون عقليا (293)، وأن نسبة 21% منهم، أي 257، مصابون بمرض مزمن. ويبدو أن الفقر ليس وحده العامل الذي يقود إلى التشرد، بالنظر إلى المبالغ التي تم ضبطها بحوزة بعض المشردين، حيث بلغت 49.950,20 درهما نقدا. أما أسباب ظاهرة التشرد التي تدفع بعض المواطنين إلى اختيار الشارع كفضاء للعيش فتتوزع بين التفكك العائلي والهدر المدرسي والهجرة السرية والقروية والأمراض العقلية والنفسية وتعاطي المخدرات ومختلف المواد السامة، بالإضافة إلى البطالة وانسداد الآفاق وانعدام الاستقرار العائلي والاجتماعي والمهني. تيط مليل .. ملجأ المشردين الأخير لم يعد المركز الاجتماعي تيط مليل، المخصص لإيواء المشردين والمتسولين الذين تلتقطهم دوريات المساعدة الاجتماعية، كما كان في السابق.. لقد تغير نحو الأفضل، بعد توسيع بناياته وأجنحته لتستوعب نزلاء أكثر. حسب تقرير أنجزته إدارة المركز الاجتماعي تيط مليل والخاص بحصيلة الأعمال المنجزة في السنة الماضية، فقد تم استقبال 3806 أشخاص موزعين بين مشردين وذوي احتياجات خاصة، أما النسبة الأكبر فهي للمتسولين الذين وصل عددهم إلى 3184 متسولا. من جهة أخرى، تم توظيف سبعة مساعدين اجتماعيين لتأطير عملية محاربة التسول، إضافة إلى برمجة تكوين لمدة أسبوع لفائدة 6 مستخدمين، إلا أن واقع الحال يؤكد العكس، إذ يبدو أن المسؤولين عن الأجنحة لا يتوفرون على أي تكوين، بل إن بعضهم تم تشغيله من بين النزلاء نظرا إلى أقدميته وحسن سيرته، حيث يلجأ عادة إلى هذا الاختيار تفاديا لأداء أجور محترمة لمساعدين اجتماعيين تلقوا تكوينهم في المعهد الوطني للعمل الاجتماعي بطنجة والذي تعاني دفعات خريجيه من بطالة قاتلة. توجد في المركز الاجتماعي تيط مليل حالات إنسانية مؤثرة، بعض نزلائه لا يرغبون في مغادرة المركز، وآخرون يحلمون بالحرية والعيش بين أحضان أسرة كما هو حال معظم الناس. رغم أن الإدارة تحاول جاهدة إزالة هذه الصورة وجعل المركز يقوم بوظيفة الإيواء ومساعدة النزلاء على الاندماج، فإن حياة الشارع تظل تغري الكثير من النزلاء السابقين بالمركز.