الاحتفالات العفوية، التي انفجرت طوال يوم الخميس في قطاع غزة ابتهاجا بالنصر وإعلان وقف إطلاق النار، تؤكد بالصوت والصورة أن إسرائيل خرجت خاسرة مهزومة من حرب الأيام الثمانية التي شنتها على قطاع غزة. بنيامين نتنياهو لم يتلفظ مطلقا، وطوال المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم الأربعاء، بحضور وزير دفاعه إيهود باراك ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، لم يتلفظ مرة واحدة بكلمة الانتصار في غزة، ولم ترد الكلمة نفسها على لسان أي من جنرالاته وهيئة أركان حكمه. في حرب دجنبر عام 2008 لم يخرج أبناء القطاع بالآلاف، مثلما حدث الخميس، احتفالا بالانتصار، لأنهم كانوا يدركون جيدا أنها كانت حربا من اتجاه واحد، أُخذت فيها حركات المقاومة في القطاع على حين غرّة، أي لم تكن جاهزة لها، ولم تملك الإمكانيات القادرة على التصدي لها بفاعلية. في الحرب الأخيرة اختلفت الصورة وتغيرت المعادلة، وفوجئت إسرائيل، مثلما فوجئ العالم بأسره، بامتلاك المقاومة أسلحة حديثة متطورة نجحت في إلحاق الذعر بالإسرائيليين في قلب تل أبيب، ومنع الجيش الإسرائيلي من تنفيذ تهديداته باجتياح القطاع. نتنياهو هو الذي استجدى وقف إطلاق النار، بدليل أنه، ومثلما تبيّن من نص اتفاق وقف إطلاق النار، لم ينجح في فرض أي من شروطه، وجاءت التهدئة مقابل التهدئة، في بداية تحقيق توازن في الرعب، كان منعدما طوال السنوات الماضية من عمر الصراع. النصر مسألة نسبية، فهناك انتصار معنوي، وآخر عسكري، وثالث سياسي، والمقاومة نجحت في تحقيق الثلاثة، أو اثنين منها على الأقل، وتعادلت في الثالث، أي انتصار سياسي تمثل في فرض نفسها قوة تفاوضية صلبة في جهود وقف إطلاق النار، وانتصار معنوي نفسي عندما صمدت في المواجهة بصلابة، ولم تنهر أو تستسلم طوال أيام القصف، والأهم من ذلك توحيد الشعب الفلسطيني والعالم الإسلامي بأسره خلفها، أما التعادل فيمكن القول مجازيا إنه تحقق في الميدان العسكري. حرب غزة أثبتت عمليا أن نتنياهو لا يملك القرار المستقل، سواء في المجالات الاستراتيجية عندما فشل في تنفيذ تهديداته بضرب إيران في هجوم أحادي منفرد، أو في المجالات التكتيكية في الغلاف الفلسطيني المحدود، عندما لم يجرؤ على غزو قطاع غزة بريا، واضطر إلى الرضوخ لمعطيات المفاجآت العسكرية للمقاومة، والإذعان لجهود الرئيس أوباما وضغوطه للقبول باتفاق التهدئة، للحيلولة دون الوقوع في مصيدة قد لا يعرف كيف يخرج منها في غزة، وتدمير أهم أركان السياسة الخارجية الأمريكية، وقلب سلم أولوياتها في المنطقة العربية. نحن أمام عملية تصحيح استراتيجي للمفاهيم والتوازنات السياسية على الأرض، أول أضلاعها عدم قدرة إسرائيل على إملاء شروطها، وفرض الوقائع على الأرض حسب مصالحها؛ فقد هاجمت غزة مرتين في غضون أربع سنوات، ولم تنجح في وقف الصواريخ، أو إنهاء ظاهرة المقاومة المتصاعدة فيها، مثلما فشل حصارها الخانق، الذي يتآكل حاليا، في منع وصول الأسلحة الحديثة المتطورة. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بعمر هذه الهدنة الجديدة، أي كم ستطول أو تقصر، ولكن ما يمكن التنبؤ به بكل ثقة، أن المقاومة باتت في حال معنوية عالية، وثقة أكبر على تحقيق انتصار أكبر في المرة المقبلة، ثم إن توقفها مؤقتا في غزة لا يعني عدم استئنافها من سيناء أو أي مكان آخر. في المواجهة الأخيرة وصلت الصواريخ إلى قلب تل أبيب والقدس، وتلكأت الدبابات الإسرائيلية في دخول القطاع أو الاقتراب من حدوده خوفا من صواريخ «كورنيت» المضادة للدروع، ولن نستغرب لو امتلكت المقاومة صواريخ مضادة للطائرات، فمن زودها بالصواريخ الأولى التي غيّرت المعادلات، لن يتردد في تزويدها بالصواريخ الثانية، أو هكذا يقول منطق الأشياء، والمقصود هنا إيران التي شكرها السيدان خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، ورمضان عبد الله شلّح، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، في مؤتمرهما الصحافي المشترك، اعترافا بجميلها على حد قولهما. إنها حرب طويلة، في صراع عقائدي وجودي، بين الحق والباطل، ولن نستغرب أو نستبعد أن نفيق ذات صباح على جولة جديدة، وأكثر شراسة من الأولى، فالتهدئة ليست حلا للصراع، وإنما هي تأجيل أو تجميد لإحدى حلقاته، فطالما هناك ظلم واضطهاد وحصار واستيطان وإذلال، سيستمر الاحتقان، وسيأتي عود الثقاب الذي يفجره، على شكل صاروخ أو عملية اغتيال غادرة، لكن المواجهة المقبلة ستكون حتما مختلفة، وقد تكون في الضفة المنتفضة، أو القطاع الملتهب، أو الاثنين جنبا إلى جنب. إنها معجزة المقاومة الفلسطينية المستمرة، والتي لا يمكن أن تُقهر مهما بلغت آلة القتل الإسرائيلي من فتك، ومهما تكالب العالم الغربي، وبعض العرب الرسميين على دعمها.