يقدم كتاب «محطات في تاريخ المغرب المعاصر»، الذي صدر مؤخرا في طبعته الثانية، عن منشورات الزمن، للناطق الرسمي باسم القصر الملكي ومؤرخ المملكة الدكتور عبدالحق المريني، إضاءات عن فترة حساسة وهامة من تاريخ المغرب ,وهي الفترة الممتدة من سنة 1894 إلى سنة 1956 تاريخ حصول المغرب على الاستقلال، وهي إضاءات قلما يعرفها الدارسون أو توقفوا عليها، بله عموم الجمهور المغربي. يكتسي كتاب «محطات في تاريخ المغرب المعاصر» أهمية خاصة في فهم الموار التاريخي الذي مر منه المغرب والأحداث التي وسمت تلك المرحلة الحاسمة من حياة البلاد. ولعل ميزة هذا الكتاب أنه يأتي خلافا لعدد من الكتب والأبحاث التي تناولت تاريخ المغرب، متوسلا بالحقيقة التاريخية، على نسبيتها، وبأسلوب هادئ خال من التمجيد، ومحتكم إلى نظرة المؤرخ ومنهجه في البحث وتمحيص الحقيقة التاريخية أو تقديمها إلى القارئ وصاحب الاختصاص، دون السقوط في البهرجة التي يرتكبها بعض من مدوا أيديهم إلى الكتابة في هذا الحقل الملغم والملغز والمليء بالعثرات. والدكتور عبد الحق المريني على وعي تام بهذه الصعوبات، فهو يقر بأن «تاريخ المغرب مادة غزيرة تحتاج إلى كثير من البحوث المعمقة، تزيل القناع عن حقيقة الأطوار الهامة التي مر منها المغرب، في عهوده الحديثة، وعن قضايا المسألة المغربية وما تمخض عنها من مؤتمرات دولية تحكمت في مصير المغرب والمغاربة». ومن الأحداث التي يتوقف عندها الكتاب ما يتصل بثورة الروكي الجيلالي الزرهوني المدعو «بوحمارة»، الذي بدأ عمله مخزنيا مع المولى عمر ابن السلطان المولى الحسن الأول، ثم كمعاون ب «بنيقة الحرب» ل«العلاف» الفارس المهدي المنبهي، أبرز شخصية مخزنية بعد وفاة باحماد، وأقرب الناس إلى المولى عبد العزيز. الروكي الجيلالي الزرهوني، الملقب ب«بوحمارة»، قام بتزوير طابع السلطان المولى عبدالعزيز وصار يستخدمه لخدمة أغراضه، وسجن لذلك السبب، لكنه استطاع أن يهرب من سجنه وأن يتجول في منطقة المغرب الشرقي وفي غرب الجزائر منتحلا صفة فقيه وولي صالح. واستطاع أن يعود إلى المغرب ويتولى إدارة فتنة في الريف، وادعاء أنه المولى امحمد بن الحسن الأخ الأكبر للسلطان المولى عبدالعزيز، الذي كان مرشحا لخلافة والده، وكما يقول عنه المريني، نقلا عن تلك الفترة، فإن الروكي كان يريد الانتقال من الحمارة إلى الإمارة. بطبيعة الحال سيستطيع بوحمارة تحقيق عدة انتصارات على الإسبان وبالأخص في معركة «خندق الذئب»، وسيبسط نفوذه على الريف، لكن المولى عبد الحفيظ سيتمكن من أسره سنة 1909 على يدي القائد المنبهة في ضريح للالة ميمونة في جبالة وسيوضع في قفص في رياض السبوعة في القصر الملكي في فاس، وهناك سيتم إعدامه، ويرجح المريني أن يكون إعدامه تم بالرصاص. من الحقائق الأخرى، التي يتعرف عليها القارئ أن المولى عبدالحفيظ أقام لاجئا في مدينة طنجة، المدينة الدولية آنذاك، بعد أن وقع على معاهدة الحماية. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن الكتاب على صغر حجمه، يقدم معلومات طريفة عن عدد من الشخصيات التاريخية، ومنها شخصية المولى عبدالحفيظ، من قبيل أنه عاش منفيا في فرنسا إلى أن توفي بها سنة 1937، ونقل جثمانه إلى ضريح مولاي عبدالله بفاس حيث دفن به. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا السلطان لم يلهه الحكم ولا صعوبة المرحلة عن التأليف والكتابة، ويورد المريني أن الرجل كان صاحب إنتاج فكري خصب في علوم العربية والفقه والحديث والشعر والملحون والسياسة والتاريخ، ومن كتبه «داء العطب قديم» الذي شخص فيه الأزمة التي كان يتخبط فيها المغرب وكتاب «كشف القناع عن اعتقاد وطرائق الابتداع» و«مغني اللبيب» و«نظم الحديث» و«تحفة الألبا في حروب أوروبا»، نوه فيه بشجاعة الجيوش الألمانية. لا ننسى هنا أنه حاول الاستعانة بالألمان والأتراك من أجل استرجاع سلطانه ومحاربة الفرنسيين، لكن معادلة الحرب العالمية الأولى لم تكن في صالحه، الشيء الذي جعل أمله يخيب نهائيا في هذا المسعى. وترك هذا السلطان ديوانا شعريا عنوانه «نفائح الأزهار في أطايب الأشعار»، ومن أشعاره قوله في فرنسا «أأمر بالجهاد وجل قومي / يرى أن الحماية فرض عين». فلم أترك معاهدنا لعجز/ كمثل القاصدين جنا اللجين». وهو يرد في هذه الأبيات عن الذين اتهموه بالتخلي عن الإمارة وبيع البلاد للفرنسيين. وكتب المولى عبد الحفيظ كتابا يدافع فيه عن نفسه، بعنوان «براءة المتهم» يشرح فيه الظروف التي دفعته إلى توقيع معاهدة الحماية مع الفرنسيين، والظاهر أن عقدة التوقيع على وثيقة الحماية لازمته حتى مماته، وقد أنصفه الشاعر المصري حافظ إبراهيم بقصيدة مدحية، قال في أحد أبياتها: «أطل على الأكوان والخلق ينظر/هلال رآه المسلمون فكبروا وقام بأمر المسلمين موفق/على عهده مراكش تتحسر». يلقي الكتاب أيضا أضواء على المقيمين العامين الفرنسيين الذين تعاقبوا على المغرب، ومن أهمهم الجنرال ليوطي، ومنهم تيودور ستيغ وهنري بونسو الذي وصف مطالب الحركة الوطنية سنة 1936 ب «رسالة صالحة لنيل شهادة الدكتوراة في القانون» ومارسيل بيروطو، الذي قال عنه علال الفاسي بعد أن التقاه «رجل يهرف بما لا يعرف»، وشارل نوكيس الموالي لنظام فيشي، والمارشال بيتان ولوسيان سان وغابرييل بيو، الذي كان مقيما عاما متطرفا حتى أن محمد الخامس طلب من الجنرال ديغول أن يتوسط له لدى الحكومة الفرنسية من أجل إقالته من منصبه. ومن الحقائق التي يثيرها الكتاب قصة تصدي الباشا محمد بن بوشتى البغدادي الجامعي للمغاربة الذين ثاروا ضد الظهير البربري، الذي قاد «الحركات» مع الفرنسيين، في جبال الأطلس ومنطقة الريف، الذين كان جلادا ودمويا بلغة سنوات الرصاص. وقد هجاه شاعر الحمراء، محمد بن إبراهيم بقصيدة لاذعة يتحدث فيها عن وحشية الباشا الجامعي. إن كتاب «محطات في تاريخ المغرب المعاصر» للدكتور عبد الحق المريني كتاب صغير الحجم، لكنه مؤلم من ناحية الحقائق التاريخية، لأنه يكشف الغطاء عن دور العديد من العائلات الكبيرة في الوقوف ضد إرادة المغاربة في التحرر، ويفتح السؤال على مصراعيه حول خطورة كتابة تاريخ المغرب اليوم، فلا يمكن التقدم ولا المصالحة إلا بمعرفة وكتابة هذا التاريخ كتابة موثقة وصحيحة بعيدا عن التحامل والضغينة وتصفية الحسابات، فيكفي أن صرخات الأجداد والآباء ما تزال تسمع من بين الأجداث.