طارق بوبية ترجمة: شكير نصر الدين إنها مغامرة جريئة تلك التي أقدم عليها الناقد الأدبي والروائي صدوق نورالدين حينما لامس موضوعة نادرة في الأدب المغربي: الرواية المتخيلة. يحيل عنوانها «الروائي «على كاتبه المفضل، الروائي محمد زفزاف، الذي يكن له كل الإعجاب، ويخصه بتقدير كبير قاده إلى الاحتفاء بروايته الشهيرة، من خلال كتابة رواية هي بدورها صادمة، مخاتلة ورقيقة. هيا نرسم معالمها! فيما مضى انطلق محمد زفزاف، أستاذ اللغة العربية بالتعليم الإعدادي، نحو مدينة الصويرة، ذات ربيع أو صيف، لا ضير، لقضاء سبعة أيام هناك، هذا ما تخبرنا بها «الروائي»، تحقيقا لحلم راوده منذ الطفولة، بسوق الأربعاء، القرية التي شهدت ولادته؛ ثم عاد إلى الدارالبيضاء بعد رحلة الخلاص تلك، لمقامه بحي المعاريف، وعقله مشغول برواية سوف يكتبها ، أياما أو شهورا معدودة بعد ذلك: «الثعلب الذي يظهر ويختفي»! هكذا سوف يولد الرجل بذيل الثعلب ذاك، كي يجوب، وإلى الأبد، أزقة، وفنادق وحانات موغادور، وشاطئ الذيابات. وسيتم نشر رائعة زفزاف، بادئ الأمر، سنة 1985. أذكر ذلك جيدا: خلال السنة الدراسية 1972 1973، أستاذ ليس كبقية زملائه، كان يعلمني اللغة العربية، ومعها أيضا القواعد الأولى لخوض غمار الحياة والأدب، شغفي الأول. وأتذكر بيقين راسخ أنه في بحر تلك السنة نفسها، قام الأستاذ، الذي كان له كبير الأثر في حياتي، برحلته المشهودة إلى الصويرة. وتعد هذه المقالة في الآن نفسه شهادة خالصة، تنضح بالامتنان، وهي أيضا كشف سعيد، وصدفة عجيبة، وتفكير موضوعي، كله إعجاب، أهديها للجمهور الواسع، حول الاحتفاء الذي خصه به صدوق بكتابة «الروائي» وإن كان ذلك قد تم بعد وفاة المحتفى به. في مقهى «واجهة البحر» ناولني صديقي الجديد نسخة من روايته، واكتشفت باندهاش، رواية داخل الرواية، رائعة أدبية تكرس محمد زفزاف ورائعته في سياقهما الرمزي، والسوسيولوجي، والثقافي والحكائي...صحيح أنه يميل أحيانا إلى اقتفاء أثر صديقه، معلمه، ذلك الرائد الذي يمتلك فن كتابته الخاص به، وسرده الروائي الذي يتأبى على كل تقليد. لكن فلنعط قيصر ما لقيصر، إن شمس الأستاذ تسطع بأنوارها. ولسوف يسر لنا عبد الكبير الخطيبي فيما بعد بهذه العبارة المحيِّرة التي جعلته طوال حياته «يسير نحو القصيدة». إن صدوق، الكاتب ذا الذوق الرفيع، يلم بجنس أدبي محبوك للغاية، ينحت جمله بلا كلل، إذ نحن إزاء إبداع متسام، لا يتردد لحظة في التخلص من عباءة الناقد الأدبي الممقوتة. وهكذا فقد نهج سبيلا باذخا للاحتفاء بمن يعتبره، بدون مواربة، الأب الروحي «للقصة في المغرب». في مستهل الرواية الاحتفاء تشدنا جملة مقتبسة من النص الأصلي، من خلالها يثير صدوق قلق القارئ الذي، بحسبه «يظل يبحث عن شيء في العديد من الكتب دون أن يعثر عليه طيلة حياته»، وهو بذلك يحذر القارئ في استهلاله مما سوف يحدث لتوقعاته، ولو كانت متواضعة. وسواء قرأتم هذا الكتاب من بدايته، أو من نهايته، بين السطور، خارج الزمن أو خارج المكان، فإن ذهنكم سوف يستلذه، ولسوف تجدون عقدا فريدا من «الجمل المرصوصة»، تحلق من نص إلى آخر، ومن مقطع يضج بالحياة إلى مثيله، دون أن يقدم القارئ بمركبه البسيط على مد حبله إلى يابسة معينة، سواء كانت جزيرة موغادور أو جزيرة أخرى قبالتها. حينما يحدثنا زفزاف في هذه الرواية المتخيلة، فإنه يتخذ صورة «أنا» تحكي قصتها الخاصة، لا تنسى أدنى تفصيل، كريمته «سهام»، سلاحفه الكثيرة، وحياة الزاهد التي كان يفضلها على ما سواها. وسوف نلتقي مرارا ذلك الشخص ذا الجسد النحيل واللحية الدوستويفسكية، الفار بجلده من العاصمة بضوضائها في اتجاه الصويرة بحثا عن حياة بوهيمية، ليعيش ويقتسم مع الهيبيين عالمهم الخارق للعادة. ويقول كذلك: «سيجعل منه رواية داخل الرواية».أقتبس هنا هذا المقطع:»الساعة الثانية والنصف. وضع النادل تشكيلا سمكيا على المائدة. وللحظات ضرب الصمت خيمته على فضاء الحانة». نلاحظ أنه دقيق، متلصص سنوات الثمانينيات ذاك، متتبعا أدنى حركة تصدر عن الشخصية الرئيسية، علي والأستاذ. ونكتشف عند المؤلف تلك السعادة التي تكتنفه عند سرد حركات وسكنات المعلم صاحب ذيل الثعلب، تلك المتعة في أن يشهد على مغامراته ويصفها بكل أمانة ممكنة، وفي أدق تفاصيلها. ويسترسل النص فاسحا المجال لمساحات من الصمت غير المنتظم، متدفقا، بل نتيه فيه أحيانا: هل المتكلم محمد زفزاف وقد بعث بين الأحياء، أم هو علي، الأستاذ، عابر موغادور، أم هو الثعلب المتخفي بداخله، بحثا عن المغامرة الألف، عن السكرة الألف؟ أو هو المنهزم أمام دعوة الضحية الأجنبية الألف، التي من الأفضل أن تكون شقراء.وسوف نأتي على ذكرها.والحقيقة أن عقدة الشقراء تحل بين الحين والآخر، إذ أن بطلنا يسقط دوما في شباك أجنبية، فهي تارة ممرضة بلجيكية، وهي صحافية إسبانية تارة، بيضاوات شهوانيات، مثقفات، يفضلن الحشيش والكحول، معربدات، لكنهن جميلات. وأثناء هذه اللحظات الخاصة، يستيقظ الوحش، يظهر، ويحل الثعلب، يشحذ أنيابه، يحاور علي دائما، يهدئ من اندفاعه، ترقبا للدعوة، ساعة النداء الأبدي. ماذا عساني أقول عن هذا النص الذي وفى صدوق من خلاله زفزاف التبجيل، وأعاد له قيمته المستحقة، وخلصه من براثن النسيان، واستخلص منه كنزا يضاهي أصله، بل يفوقه، وأحلَّه مكانته المستحقة: مكانة واحد من كبار الروائيين الذين شهدهم المغرب إلى يوم الناس هذا.