مع بداية الدورة البرلمانية الخريفية، تقدمت الحكومة بمخطط تشريعي يمكن اعتباره بمثابة خارطة الطريق التي تنوي من خلالها الحكومة تنفيذ الفصل 86 من الدستور وتطبيق ما جاء في برنامجها؛ وبالتالي فإن المخطط التشريعي، في عرف معديه، هو عرض مجموع مشاريع القوانين التي تعتزم الحكومة تقديمها إلى البرلمان قصد المناقشة والمصادقة عليها خلال مدة ولايتها. ويرتكز هذا المخطط على مجموعة من المحاور نوجزها في ما يلي: عرض القوانين التنظيمية الواردة في الدستور؛ تحيين وملاءمة قوانين مؤسسات الحكامة الواردة في الدستور؛ ملاءمة القوانين الجارية مع أحكام الدستور؛ إخراج وتحيين النصوص المتعلقة بتنفيذ السياسات القطاعية المتضمنة في البرنامج الحكومي. لقد نص الدستور الجديد، في فصله ال86، على أن «تعرض مشاريع القوانين التنظيمية وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ الدستور»، وهو ما يغلق الباب دون سياسة التماطل والتسويف التي كانت تنهجها الحكومات السابقة، عندما لم تخرج مجموعة من القوانين التنظيمية كقانون الإضراب الذي لم يخرج إلى حيز الوجود إلى يومنا هذا رغم التنصيص عليه في كل الدساتير التي عرفها المغرب. ومن ثم، فإن الدستور الحالي تدارك هذا المشكل بإجباره الحكومة والبرلمان على الانتهاء من جميع القوانين التنظيمية قبل متم ولاية الحكومة التي انبثقت عن أول انتخابات أعقبت الموافقة على الدستور. لكن، هل استجاب المخطط التشريعي لروح الدستور الجديد، شكلا ومضمونا؟ من الناحية الشكلية، يسجل على المخطط التشريعي أنه تجاوز، من حيث الجهة التي أشرفت عليه، مبدأ الفصل بين السلط، وذلك باستحواذ الحكومة على مهام البرلمان وإلزامه بأجندتها السياسية؛ فرغم أن الدستور، في فصله ال76، يخص البرلمان بالسلطة التشريعية: «يختص القانون، بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة، بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في الميادين...»، ورغم أن مشاريع القوانين الواردة في المسودة تدخل كلها ضمن دائرة اختصاص البرلمان، فإن الحكومة بادرت إلى إنجاز هذا المخطط دون أدنى استشارة للبرلمان -كما صرح بذلك رئيس مجلس النواب نفسه- ودون أي مقاربة تشاركية مع الفاعلين والخبراء، وإنما تم إحلال الأمانة العامة للحكومة محل السلطة التشريعية، وهو ما يعتبر تعديا صريحا على السلطة التشريعية التي تفترض فيها الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، حيث إن الحكومة قامت بتحديد الجدولة الزمنية للتشريع، وبتحديد المضامين ذات الأولوية، إما تأسيسا أو تعديلا، إذ عجلت بمشاريع قوانين وأجلت أخرى بمحض إرادتها ودون أخذ في الاعتبار لدور البرلمان في اقتراح القوانين؛ ففي البلدان الديمقراطية تؤول العملية التشريعية برمتها إلى البرلمان، سواء من حيث الجدولة الزمنية أو من حيث تحديد الأولوية، دون أن يمنع ذلك الحكومات من تقديم مشاريعها حتى ولو سجل أن أصول أغلب القوانين تعود إلى الحكومات، ولكن المبادرة التشريعية تبقى حقا مصونا للبرلمان. في الواقع، هذه ليست الحالة الوحيدة التي يتم فيها خرق مبدأ فصل السلط الواجب توفره في أي نظام سياسي يسعى إلى تكريس الديمقراطية، بل إن الدستور الحالي نفسه يجعل من البرلمان تابعا للسلطة التنفيذية، ويتجلى ذلك في إمكانية دعوة البرلمان إلى الانعقاد بصفة استثنائية (الفصل 66)، وإمكانية إنهاء مهامه في حالة تجاوزه لمدة الدورة التشريعية بمرسوم (الفصل 65)، وجعل البرلمان مشرعا استثنائيا والحكومة مشرعا عاديا (الفصل 72)، وإباحة تفويض البرلمان سلطتَه إلى الحكومة دون أن تقابل تلك الاباحة بالعكس (الفصل 81)، ومنح الحكومة الأولوية التشريعية، وذلك من خلال مجموعة من الآليات (الفصل 82)، وتقييد سلطة البرلمان المالية (الفصلان 76 و77 )، وطلب قراءة جديدة (الفصل 95)، وحرمان البرلمان من استجواب أعضاء الحكومة كما هو معتمد في أغلب الديمقراطيات العتيقة أو الحديثة. لم نمض بعيدا عن موضوع هذا المقال، فقط أردنا الإشارة إلى أنه لا داعي إلى خرق الدستور من أجل تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على البرلمان، مادام الدستور نفسه يتضمن مجموعة من الآليات التي تجعل البرلمان خاضعا للحكومة. ومن حيث المضمون، تسجل على المخطط التشريعي مجموعة من الملاحظات، نوجزها في الآتي: أولا، ضيق الحيز الزمني المخصص لعرض ومناقشة المشاريع الواردة في المخطط، فالبرلمان بمجلسيه مطالب بمناقشة أكثر من 19 قانونا تنظيميا (منها اثنان تم إنجازهما) قبل متم سنة 2015، منها 5 قوانين تنظيمية يجب إنجازها في الدورة الحالية (أو، على الأقل، إحالتها على البرلمان)، وهو ما يعني أنه في الوقت الذي أخذت فيه الحكومة (الأمانة العامة للحكومة) الوقت الكافي لتهييء هذه المشاريع، فإن البرلمان سيكون، تحت ضغط الوقت، مجبرا على تسريع وتيرة المناقشة والمصادقة، الأمر الذي سينعكس على جودة التشريع وتمرير المضامين التي أشرفت عليها الحكومة، خاصة في ظل الثنائية المجلسية وتعقد عملية التشريع؛ ثانيا، نسجل -مع الأستاذ عبد القادر باينة- أن الحكومة أوّلت الدستور بشكل مخالف عندما وضعت قانونين للفصل 146 من الدستور، الأول تم إنجازه قبلا، والثاني اقترحته ضمن المخطط التشريعي، في الوقت الذي كانت تنبغي فيه إحاطة قانون تنظيمي واحد وموحد لكل ما يمس الجماعات الترابية، فبدل أن يكون لدينا 19 قانونا تنظيميا نص عليها الدستور، سنكون أمام أكثر من 19 قانونا تنظيميا؛ ثالثا، غياب النفس التشاركي لدى المشرفين على المخطط التشريعي، فبدل أن يتم أولا إشراك الفاعلين السياسيين والخبراء وذوي التجربة في إنجاز هذا المخطط، تم الاقتصار على مكاتب الأمانة العامة للحكومة مع تزويدها بموظفين جدد (30 موظفا)، ويظهر المنتوج المنتقَد لأعمال الأمانة العامة، إضافة إلى ما ذكرناه، في ضبابية الخطوط العريضة للمنهجية المتبعة في الإعداد، وتجلى ذلك في تكرار بعض العبارات من قبيل: ستعقد ندوة في الموضوع، مناظرة من أجل ذلك، مقاربة تشاركية،... وغيرها من الصيغ التي يتضح من خلالها أن النصوص قد تكون جاهزة ولا تنتظر إلا مصادقة البرلمان في غياب أي رغبة في إشراك المعنيين؛ رابعا، وتبقى أهم ملاحظة نسجلها على المخطط التشريعي، هي تلك التي عنونا بها هذا المقال، ويتعلق الأمر بالاجتهاد الفريد الذي سيدخل بموجبه الديوان الملكي إلى قاعات البرلمان؛ فرغم أن مؤسسات الحكامة الواردة في الدستور جاءت تحت عنوان واحد ودون تمييز، فإن الحكومة -أو بالأحرى الأمانة العامة- ميزت بينها في المخطط التشريعي، دون ذكر أو إشارة إلى المعايير والمقاييس التي تم الاستناد إليها من أجل هذا التمييز، إذ قسمت هيئة الإشراف على مشاريع القوانين التي تمس هذه الهيئات على أربع جهات وهي: الديوان الملكي (مثاله، مؤسسة الوسيط)؛ رئاسة الحكومة (مثالها، هيئة المنافسة)؛ لجنة خاصة (مثالها، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري)؛ الوزارة المعنية (مثالها، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة). فهل ينتقل أعضاء الديوان الملكي إلى البرلمان من أجل مناقشة المشاريع التي أعدوها، سواء داخل اللجان أو بالجلسات العامة، وهل من سند دستوري لذلك؟ خامسا، يضاف إلى ذلك ما يتعلق بتقديم بعض المشاريع وتأخير أخرى رغم التفاوت في الأهمية؛ فمثلا، تم تأخير مشروع قانون ينظم استطلاعات الرأي إلى سنة 2015 رغم الحاجة الملحة إليه؛ وتأجيل قانون الجماعات الترابية إلى سنة 2013 رغم الحالة غير الشرعية التي يعيشها مجلس المستشارين؛ وتأخير مشروع قانون الضوضاء إلى سنة 2015، مما يكرس المشاكل التي يعيشها المواطن يوميا جراء الضوضاء؛ كما نسجل تغييب بعض الجهات عن هيئة الإشراف عليه كوزارات الاتصال والأوقاف والثقافة؛ بناء على كل ما ذكرناه وغيره، فإن البرلمان سيجد نفسه عبارة عن غرفة للمناقشة والمصادقة على مشاريع قوانين الحكومة، دون أن يتبقى له حيز للقيام بمهامه المتمثلة في المبادرة باقتراحات القوانين والتأكد من جودة التشريع ومراقبة أعمال الحكومة. يضاف إلى ذلك عزوف أصلي لدى الكثير من البرلمانيين عن حضور اللجان ومناقشة مشاريع القوانين أو تقديم مقترحات القوانين، ومرد ذلك إلى مجموعة من الأسباب، نكثفها على الشكل التالي: المردود الضئيل على المستوى الشعبي، لأن أعمال اللجان لا تنقل عبر سائل الإعلام في ظل غياب قناة برلمانية؛ انشغال العضو البرلماني باليومي وبقضايا الدائرة والحملات الانتخابية، يجعله غير آبه لقضايا التشريع ويقصر حضوره للبرلمان على طرح الأسئلة الشفوية، وفي بعض الأحيان المصادقة على مشاريع القوانين؛ ضعف التكوين القانوني والسياسي والاقتصادي لدى أغلب البرلمانيين، في ظل غياب ثقافة الاستعانة بالخبراء والمستشارين، إما بسبب ضعف الإمكانيات أو بسبب عدم الجدوى. كما لا نمل من التأكيد على الوضعية غير الشرعية التي يوجد عليها مجلس المستشارين، والتي يعتبر فيها السادة المستشارون (التسعون المنتهية ولايتهم على الأقل) محتلين لمؤسسة عمومية بدون موجب حق، علاوة على مشاركتهم في الفساد بإهدارهم للمال العام، وذلك لأنهم تجاوزوا مدة انتدابهم المتمثلة في تسع سنوات، وبالتالي فإن أي قرار يصدر عن مجلس المستشارين اليوم هو قرار غير دستوري ولا يستند إلى أي جانب من الشرعية أو المشروعية، ولقد نبهنا إلى ذلك مرارا وتكرارا كما نبه إليه غيرنا، ونخص بالذكر الأساتذة: عبد القادرة باينة وعبد الرحيم منار اسليمي... إلخ. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة