هذا العرض يتضمن 3 محاور المحور الأول: المؤسسة التشريعية في صلب الممارسة السياسية في البلدان الديمقراطية، المحور الثاني البرلمان المغربي بين القائم والممكن والمحور الثالث التجديدات الحاسمة للدستور الجديد في مجال التشريع. المحور الأول تعتبر المؤسسة التشريعية المحور الأساسي الذي تدور حوله كافة الممارسات والمؤسسات السياسية في البلدان الديمقراطية. وقد رمزت إلى ذلك المقولة الشهيرة عند فقهاء القانون الدستوري من أن برلمان ويست مينيستر (البرلمان الإنجليزي يستطيع أن يفعل كل شيء ماعدا أن يحول المرأة إلى رجل أو الرجل إلى امرأة؛ وذلك في إشارة إلى قوة صلاحياته التشريعية ثم إن البرلمانات تلعب في النظم الديمقراطية الدور الأول في شرعنة نظم الحكم: تركز إلى ذلك مقولة أن القانون هو التعبير الأسمى عن إرادة الأمة. إن المخاضات الديمقراطية التي لاحظناها عالميا وخاصة خلال مراحل الانتقال تميزت بحركية البرلمانات وباحتلال هذه الأخيرة لمواقع طلائعية في مجال تصريف الإرادة العامة وتوجيه الممارسة السياسية ومراقبة كل الأجهزة المخولة لاتخاذ القرار. تجدر الإشارة كذلك إلى الدور المتنامي للمراقبة والمحاسبة الذي تلعبه البرلمانات. ولن أتدخل كثيرا في هذا الباب مادام هو موضوع ورشة مجاورة. إن المطالبة بالملكية البرلمانية عندنا هو عمليا اتجاه نحو وضع يصبح فيه البرلمان محورا أساسيا في الحياة السياسية: مصدرا أساسيا للتشريع، مصدرا أساسيا للمراقبة، والإطار الأمثل الذي يغذي النقاش السياسي العام في القضايا المصيرية للأمة. المحور الثاني الوظيفة التشريعية للبرلمان بين الممكن والقائم: أعتبر هذا المحور أساسي وسأحاول أن أزاوج فيه بين الإطار القانوني الصرف وما أفرزته، فعلا، التجربة الميدانية كما عشناها من داخل المؤسسة التشريعية. وأود هنا أن أطرح سلسلة من القضايا والإشكالات والوقائع. أ- ضرورة تجاوز قراءة معينة كانت تقول إن ماكان موجودا من صلاحيات للبرلمان في إطار الفصل 45 لم يكن يطرح مشكلا وأن المشكل كان هو التفعيل. أعتبر أن هذا الطرح غير صحيح وأن مجال التشريع في المغرب خلال مختلف الدساتير السابقة كان جد مقلص وكان موضوعا على سبيل الحصر. وهذا في حد ذاته كان يشكل عائقا أساسيا أمام انطلاق المؤسسة التشريعية. وكان هذا يشير في الحقيقة إلى رغبة -غير معلن عنها بالطبع- في تكريس دونية المؤسسة وتكريس نوع من التراتبية في حرم السلط لايكون فيها للسلطة التشريعية فعلا المكانة المركزية كما في النظم الديمقراطية الناضجة. اليوم، بالطبع، نرى أن الوضع مختلف جدا (أنظر الفصول المتعلقة بالسلطة التشريعية في الدستور الحالي، الباب الرابع الفصول من 60 إلى 86 وبصفة أخص الفصل 70 و71 اللذين يحددان مجالات القانون). ب- لابد من التوضيح فيما يتعلق بإشكالية حجم مشاركة النواب في التشريع بأن زمن البرلمانات التي كان فيها مصدر التشريع للنواب فقط كاختصاص حصري قد ولى: برلمانات القرن التاسع عشر وإلى حدود الحرب العالمية الثانية؛ وذلك أن الحكومات، اليوم، عبر الأغلبيات السياسية كما تعكسها تركيبة البرلمانات، صارت تساهم في التشريع بطريقة مباشرة أو أنها تلهم التشريع وتحدد أولوياته. وأعطي هنا بعض الأمثلة: - أولا قانون الرفع من سقف سن التقاعد في فرنسا في إطار معالجة اختلالات صناديق التقاعد. -قانون دونكان وزير شؤون الرعاية الاجتماعية في حكومة الكامرون في بريطانيا والذي أدخل تغييرات جذرية على نظم الرعاية الاجتماعية (benifit). -قانون الرعاية الصحية الذي ضبط إيقاع الجهود الإصلاحية للرئيس الأمريكي أوباما في المجال الاجتماعية، ثم القوانين الجديدة التي تفرض التزامات جديدة على الأبناك عبر الفصل بين مهام الأبناك التجارية وأبناك الاستثمار وفرض حدود على تعويضات كبراء المدراء وفرض تقنين على مايسمى بالمنتوجات البنكية الفرعية (Produits Devirés) في كل هذه المجالات لم نعد نسمع عن قانون يرتبط بشخص نائبا أو سسيناتورا، بل أصبحنا نسمع عن قانون يرمز إلى حكومة كذا أو أغلبية سياسية كذا. الوظيفة التشريعية تغيرت في منطوقها وأصبحت ترتبط أكثر بوضع النصوص تحت مجهر المعالجة الدقيقة التي يطلع بها النواب، سواء تعلق الأمر بمشاريع القوانين أو اقتراحات القوانين. لقد أصبحت هذه الوظيفة -بتعبير أحد المحللين السياسيين الأمريكيين للنظم البرلمانية الحديثة- وظيفة التشريح والتقصي (scrutiny)،نحن نرى، اليوم، أنه يندر أن يناقش قانون دون أن يتعرض لعشرات، بل مئات التعديلات التي ترمز إلى هذا التطور في مضمون الوظيفة التشريعية. ج - الطابع التقني والمعقد لكثير من مواضيع التشريع في المجتمعات المعاصرة. وأعطي هنا من تجربتنا ماعشناه عند مناقشة قانون البورصة وقانون الملكية الصناعية والفكرية. لقد استلزم الأمر تحول عدد كبير من النواب إلى طلاب بستمعون إلى الشروحات التي كان يقدمها الخبراء في إطار التعريف بالجوانب التقنية لبورصات القيم وكذا الملكية الصناعية والفكرية. أريد أن أخلص إلى أن التشريع، اليوم، أصبح يتطلب خبرة تقنية بالطبع ليس من الضروري أن يتحول النواب من سياسيين ومشرعين إلى خبراء. وقد كانت الأمانة العامة للحكومة التي كثيرا ما وصفت بأنها مقبرة للنصوص القانونية قد أشارت عبر ما كان يتقدم به المرحوم ربيع، الأمين العام السابق للحكومة، من توضيحات في لجنة العدل والتشريع بخصوص مسألة التأخير في تقديم النصوص، حيث كان يعزو ذلك إلى إشكال حقيقي في موضوع صيافة العديد من المشاريع واقتراحات القوانين... فقد أشارت العامة للحكومة إلى معضلة الصياغة الفضفاضة التي كانت تقدم بها العديد من النصوص. والحاصل، اليوم، أنه لم يعد من الممكن تصور العمل التشريعي خارج إطار ما يستلزمه العمل الحكومي من قوانين جديدة بحيث لا يمكن أن نتصور مثلا أن يغلق نائب ما أو مجموعة نواب الباب خلفهم وأن يبدأوا في التفكير في أي ميدان يشرعون.وعلى سبيل المثال فإن الرغبة في معالجة اختلالا ت الضمان الاجتماعي أو صناديق التقاعد يمكن أن يكون باعثا قويا على التشريع اليوم. د - ومع ذلك نلاحظ ضعفا بينا في مجالات مقترحات القوانين عندنا؛ وذلك لسببين: الأول يهم رد الفعل النمطي للحكومات عندنا والتي تتبرم من مساهمة النواب حينما يتعلق الأمر بالتشريع في قضايا استراتيجية وعلى سبيل المثال قانون المستهلك تمت بلورته في إطار مقترح قانون في الولاية التشريعية السابقة ولكنه لم ير النور إلا في صيغة مشروع قانون خلال الولاية التشريعية الحالية. السبب الثاني يهم وضعية النواب ومساهماتهم. وهنا لابد أن نشير إلى ضعف حجم ما هو متاح من خبرة وتأطير للنواب في بلادنا قياسا إلى ماهو موجود في الأقطار الأخرى. (خبراء مستشارون وسائل مكتبية... إلخ). إذن، في موضوع الوظيفة التشريعية للبرلمان المغربي القائم والممكن، وبعد تقديم هذه الملاحظات، نصل إلى بيت القصيد في الموضوع، أي إلى المسألة العوائق السياسية الأساسية التي تحول دون انطلاق مؤسسة التشريعية لحد الآن. ومرة أخرى، فإنني، واعتمادا على مخزون الذاكرة والممارسة والتجربة، أقول طبقا لذلك إنه حتى إذا توفرت النصوص الجيدة يبقى مطروحا مشكل نوعية النخب السياسية والكفاءات وأن ما يسمى في الثقافة السياسية الدستورية بمبدأ (CHEKS AND BALANCES)، أي كون السلطة تحد السلطة لا يمكن أن يستقيم في وجود اختلال نخبوي بين الجهازين التشريعي والتنفيذي. أقول اختلال نخبوي وأزن كلماتي وأكاد أضيف إلى الاختلال البنيوي بين السلطتين التشريعية والتنفيدية اختلالا آخر بين السلطة الإدارية ممثلة في المدراء والإداريين والمستشارين الذين يرافقون الوزراء في أشغال اللجان وبين العديد من النواب. وكثيرا ما كنا نشعر بنوع من الحرج الذي يتحول إلى جرح ونحن نرى نظرة الإداريين للعديد من النواب. وكخلاصة بالنسبة لهذا المحور يمكن القول، الآنو وقد تطورت النصوص، هل تتطور معها وتبرز نخب برلمانية جديدة؟ هذا هو السؤال. ومع ذلك، فإنه يجب التحذير من النزعة التقنوقراطية التي تنزعج من المؤسسات التمثيلية والنيابية. ولا مناص من التأكيد من أن نؤكد أن الديمقراطيات لا تستقيم شكلا ومضمونا بدون وجود برلمانات قوية وازنة وفاعلة. المحور الثالث الدور التشريعي: التجديدات الأساسية لن نبالغ إن قلنا إن الدور التشريعي في ظل الدستور الجديد تنامى بشكل كبير يعد بتحول جذري في المهام المنوطة بالمؤسسة التشريعية في ما إذا توفرت الشروط البنيوية الأخرى، وفي مقدمتها شرط وجود النخب الفاعلة والمؤثرة. وهذه بعض التجديدات الحاسمة التي استجابت للعديد من المطالب التي ظلت مرفوعة منذ سنوات طويلة: - تقليص عدد أعضاء مجلس المستشارين الفصل 63. - تطور نسبي في وظيفة لجان تقصي الحقائق بحيث أصبحت هذه الوظيفة تطال بصريح اللفظ الدستوري شكل تدبير المقاولات العمومية الفصل 67. - الجلسات المشتركة لمجلس النواب ومجلس المستشارين تنعقد برئاسة رئيس مجلس النواب الفصل 68. - الإحالة في الفصل 69 على الفصل 10: إسناد لجنة العدل والتشريع للمعارضة. - الفصل 70 توسع في منطوق مراقبة العمل الحكومي ليطال بصريح اللفظ الدستوري كذلك تقييم السياسات العمومية (وهذا يطرح مرة أخرى إشكالية النخب البرلمانية التي بإمكانها تنفيذ وإنجاز هذه المهمة الرقابية). - الفصل 71 الذي يجرد ميادين التشريع بشكل تفصيلي (30 مجال اختصاص، إضافة إلى مواد أخرى مسندة إلى المؤسسة التشريعية صراحة في فصول أخرى من الدستور). هذا الفصل يستفاد منه الآن أن المؤسسة التشريعية أضحت مؤتمنة على مختلف جوانب الحياة السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية. - من التجديدات كذلك ضبط وقت تقديم قانون التصفية في وقت قريب من نفاده السنوي (السنة الموالية). - النص على توازن المالية، وهو اتجاه عالمي الآن الفصل 77 وهو ما يعد تجاوزا لمنطوق الفصل الذي كان مثار جدل كبير والذي كان يسمح للحكومة برفض غير معلل للتعديلات تحت ذريعة التوازن المالي يبقى للحكومة وحدها تقديه. - الفصل 81 يحدد يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من طرف المعارضة، وهو مايشكل، مبدئيا، حافزا قويا للتشريع الذي يكون مصدره النواب أنفسهم. - الفصل 86 كل القوانين التنظيمية التي ينص عليها الدستور الحالي سيتم وجوبا المصادقة عليها قبل انتهاء الولاية التشريعية التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا القانون. التزام في غاية الأهمية إذا ما استخضرنا أن القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب مثلا ظل مجرد نص في الدساتير السابقة دون أن يرى النور. تجدر الإشارة كذلك إلى أن الفصل 100 نص على أسئلة عامة يجيب عنها كل شهر رئيس الحكومة نفسه، وهو ما يشكل دعما لموقعه الدستوري وتطريرا للدور التشريعي بما يسمح بإذكاء النقاش والتواصل بين الحكومة ممثلة في رئيسها وبين البرلمان، على غرار ماهو موجود في التجارب البرلمانية الناضجة. ويبقى الإشكال الأساسي والحاسم الذي نود التأكيد عليه في نهاية هذا العرض هو مدى التطابق الذي ستبين عنه الأسابيع والشهور القادمة بين التطور الذي طال النصوص الدستورية الضابطة لسير المؤسسة التشريعية وبين نوعية النخب التي ستناط بها مهمة تنزيل أحكام الدستور. ذلك هو السؤال... ذلك هو الرهان ... وذلك هو التحدي الذي سيواجهه الوضع السياسي في بلادنا بعد الانتخابات التشريعية المقبلة.