باتفاق الجميع، لم يسبق لأية حكومة أن استفادت من مثل هذه الظرفية والسياقات التي ساهمت وساعدت على تشكيلها، كما لم يسبق لأية حكومة أن تمتعت بمثل الصلاحيات الموسعة التي لهذه الحكومة الحالية، بالإضافة إلى كونها دخلت على خارطة طريق واضحة رسم معالمها الدستور الجديد. لكن للأسف، فالسيد رئيس الحكومة لا يتوان في الحديث عن "التشويش" على تجربة أدائه الحكومي، ولا يمل من إعادة تسميع أسطوانة "عرقلة" أشغاله لكافة المواطنين والمواطنات، كما أنه لا يكل من التنصيص على أن الظرفية التي تحمل فيها المسؤولية مطبوعة بإكراهات اقتصادية كبيرة من أجل تبرير ضعف الأداء الحكومي طيلة العشرة أشهر الأولى على التشكيل. وإذا كانت الحكومة لحدود اليوم لم تثبت ما يؤكد أن سياسيتها تسير في اتجاه التجاوب مع الانتظارات الملحة لأغلب الفئات والشرائح الاجتماعية المعوزة تحت طائلة مبرر الصعوبات المالية، فإن العمل الكبير والمهم على المستوى التشريعي الذي ينتظر الحكومة الحالية قد لا يكون متطلبا على المستوى المالي، لكنه على الرغم من ذلك فالحكومة لا تمتلك بخصوصه أي تصور لحد اليوم، وهو ما يفيد أن الحزب الأغلبي لا يتوان في الاختباء وراء مبررات واهية، وهو ما يفسر عدم تراجعه فيما يخص المزايدة السياسية على باقي الفرقاء السياسيين والاجتماعيين والإعلاميين. فعلى رئيس الحكومة أن يدرك بأن كل القوانين يجب أن تكون متوخية للقواعد الدستورية، وإلا فهي غير شرعية، وهو الأمر الذي نتمنى صادقين ألا يحصل اليوم مع الحكومة الحالية، خاصة على مستوى أجرأة مقتضيات الفصل 86 من الدستور الجديد، الذي تنص عباراته بشكل واضح على وجوب عرض كل مشاريع القوانين التنظيمية الواردة في فصول الدستور على البرلمان قصد المصادقة عليها خلال الولاية التشريعية الأولى بعد صدور الأمر بتنفيذه. وفي المبادئ العامة للقانون الدستوري، يًعرَّف الدستور بأنه مجموع المبادئ الأساسية المُنظِّمة لسلطات الدولة والمُبيِّنة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة. فالدستور هو القانون الأساسي للدولة، وهو الذي يبين أهدافها ويضع الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو الجهة الوحيدة التي تنشئ السلطات الحاكمة، وتحدد اختصاصاتها. لذلك، على هذه السلطات احترام الدستور لأنه هو السند الشرعي لوجودها. وإذا كان الدستور المغربي الجديد، قد شكل تحولا تاريخيا حاسما، في مسار استكمال بناء دولة الحق والمؤسسات الديمقراطية، وترسيخ مبادئ وآليات الحكامة الجيدة، وتوفير المواطنة الكريمة، والعدالة الاجتماعية، فإن أمر احتمال عدم التزام الحكومة الحالية بتطبيق مقتضيات الفصل 86 من الدستور، يضع كل هذه المقدمات محط تساؤل كبير، خاصة إذا كنا اليوم على مقربة من انتهاء السنة الأولى من الولاية التشريعية، ولم يصدر لحد الآن سوى قانون تنظيمي واحد لا أكثر. إن العملية التشريعية هي الإجراء الدستوري الذي يهدف إلى سن القوانين، أي إقرار وإصدار قواعد قانونية ملزمة للجميع من البرلمان، باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع، وبصفته المُعبِّر عن إرادة الشعب في هذا المجال. وقد أشار الدستور المغربي إلى أن القانون يصدر عن البرلمان بالتصويت، طبقا للفصل 70 من دستور 2011 كوظيفة تشريعية، علما أن العملية التشريعية بمقتضى الدستور، يتقاسمها كل من البرلمان والحكومة. فمجال القانون العادي تم تحديده بموجب الفصل 71 من دستور 2011، في حين أن مجال القوانين التنظيمية يتميز بأنه اختصاص يمارس بناء على مقتضى دستوري صريح، بحيث لا يجوز للبرلمان سن قانون تنظيمي إلا أمام صراحة المُشرِّع الدستوري. وطبقا للفصل 71 من دستور 2011، فمجال القانون يشمل الحقوق الفردية والجماعية، وتحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها، والمسطرة المدنية والمسطرة الجنائية وإحداث المحاكم، والنظام الأساسي للقضاة، والنظام الأساسي للوظيفة العمومية، والضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين، والنظام الانتخابي لمجالس الجماعات المحلية، ونظام الالتزامات المدنية والتجارية، وإحداث المؤسسات العمومية، وتأميم المنشآت ونقلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص، والتصويت على قوانين الإطار. وتنضاف إلى المجال التشريعي المذكور، بمقتضى الفصل 71 من دستور 2011، اختصاصات أخرى موزعة على أبواب الدستور تتمثل في: حدود ممارسة الحريات العامة بالفصل 9، والإجراءات الجنائية بالفصل 10، وضمان حق الملكية والمبادرة الخاصة بالفصل 15، وإحداث التكاليف وتوزيعها بالفصل 17، والمعاهدات التي تلزم مالية الدولة بالفصل 31، وقانون الإذن بالفصل 49، وإصدار قانون المالية ومخططات التنمية بالفصل 50، واختصاص المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات وقواعد تنظيمها وطريقة سيرها بالفصل 99. يستخلص إذن، بأن مجال البرلمان في سن القوانين محدد بمقتضى الدستور على سبيل الحصر، مع إسناد ما دون ذلك للسلطة التنظيمية (القوانين التنظيمية)، كما هو ظاهر من الفصل 72 من دستور 2011. فنحن إذا أمام دستور جديد من صنع المغاربة ولأجل جميع المغاربة، قائم على هندسة جديدة همت كل أبوابه، من الديباجة كجزء لا يتجزأ من الدستور إلى آخر فصوله، ويؤسس لنموذج دستوري مغربي متميز، قائم على التشبث بالثوابت الراسخة للأمة المغربية من جهة، ومن جهة أخرى على تكريس مقومات وآليات الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي، لكنه سيكون من المؤسف والمحبط في آن واحد أن نقف على معطى تدشين السلطة التنفيذية مسيرة أدائها الحكومي بالإخلال ببعض المقتضيات الدسورية التي تدخل في نطاق اختصاصاتها. علما بأن كل المؤشرات تسير في اتجاه تأكيد ذلك.