بمدخل باب سبتة تصطف العديد من السيارات الراغبة في دخول هذا الثغر المحتل وبمحاذاته يوجد ممر حديدي مسيج يدخل عبره راجلون، منهم نسوة مسنات يحملن أكياسا بلاستيكية بها خضر وقنينات من الحليب والألبان ومشتقاتها، وشابات مغربيات في هيئة جذابة تمكن من الولوج بشكل عادي. هؤلاء لسن سوى «بائعات الهوى» اللواتي يدخلن إلى سبتة من أجل «الكسب السريع»، وقد ألفن الدخول يوميا إلى هذه المدينة حتى أن العاملين بهذا المدخل يعرفون كل واحدة منهن. باب سبتة. عشرات المهربين والنشالين والحمالين... يتسللون مع أولى أشعة الشمس نحو المدينة «المغتصبة». لكن، إلى جانب هؤلاء ثمة مهربات قلما ينتبه إليهن بوليس الحدود، لأنهن لا يهربن غير لحومهن. هدوء تام يخيم على المدينة الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، فاليوم يوم أحد. الشارع المتوجه نحو «بانوس أرابيس» حركته شبه مشلولة إلا من فتيات بهيئة «العمل»: ملابس لا تحجب تفاصيل الجسد، تسريحة الشعر، رائحة كولونيا تغري خياشيم الزبون، والمشية المتثاقلة الغنوج... هكذا يصطففن على طول الشارع الرئيسي الذي يربط مركز سبتة بهوامشها، ليذكرنك، وهن يربطن «بيع الهوى» بلقمة العيش، أن سبتة «المغتصبة» ممعنة في الاغتصاب. الفقر باب لممارسة الدعارة توقفت سيارة ونزل منها رجل بعد ثوان قليلة التحقت به إحدى الفتيات، اللواتي يتحدرن في الغالب من مدن شمال المغرب. سميرة (اسم مستعار) ظنت للوهلة الأولى أنها أمام صيد ثمين، غير أنها سرعان ما فوجئت بطلب الزبون المفترض، الذي أخبرها أن الأمر يتعلق بدراسة تقوم بها إحدى الجمعيات المختصة بهدف معرفة الأسباب التي تدعو العديد من الفتيات المغربيات إلى دخول سبتةالمحتلة لبيع «لحومهن» بتلك الطريقة المهينة لمواطنين إسبان، وأيضا مغاربة يحملون الجنسية الإسبانية. رحبت سميرة بطلب الزبون المفترض وكأنها كانت بحاجة إلى جلسة لإفراغ شحنة نفسية كانت تضغط على صدرها. السيدة لم تكن في مقتبل العمر، بل أشرفت على الخمسينيات من عمرها، ومع ذلك تقول إنها مضطرة لبيع لحمها لمن يدفع لها أكثر. لم تتمالك سميرة نفسها وهي تحكي عن تجربتها المريرة في هذه الحياة التي قالت إنها «لم تكن منصفة معها»، حيث عجزت عن حبس دموعها التي انسكبت بمجرد ما بدأت في سرد معاناتها بسبب وضعية الفقر التي تعيشها وهي الأرملة والأم لستة أطفال. إذ بمجرد ما توفي زوجها ذاقت هي وأطفالها الصغار ألوان الحاجة والعوز والجوع, وما زاد من وضعها هذا هو المرض الذي ألم بها، حيث أصيبت ب«الفتق» وأصبحت عاجزة عن العمل بعدما أجرت بسببه ثلاث عمليات جراحية متتالية. كشفت سميرة عن بطنها ل«المساء» حيث ماتزال آثار العمليات الثلاث بادية على بطنها بشكل واضح. تقول إن «الطبيب المعالج قال لي يستحيل عليك القيام بأي مجهود عضلي متعب حتى أنه منع عني حمل كيس يزن بعض الكيلوغرامات». لا المستوى الثقافي ولا العلمي ولا حتى الصحي كان مساعدا لسميرة في الحصول على عمل يقيها وأطفالها من الجوع بعد أن «خطف» الموت المعيل الوحيد لها، لذلك كانت الدعارة الباب الوحيد الذي يمكن أن تعيل به أطفالها الصغار. بدأت التجربة بمدينة المضيق حيث تستقر وبعدها فتحت بعض المحترفات شهيتها للاشتغال بسبتةالمحتلة بسبب ارتفاع الأجر والاحترام الذي يلاقينه هناك مقارنة بما تتعرض له بائعات الهوى في المغرب من تضييق. مهنة من أجل الكسب غالبا ما توهم ممارسات الدعارة عائلاتهن بأنهن يمتهن مهنة قارة بسبتة أو بمدينة الفنيدق، لأنهن يغادرن منازلهن في ساعات الصباح الباكر ولا يعدن إليها إلا في ساعات متأخرة من الليل، حتى أنهن لا «يحضن» أطفالهن طوال اليوم في «سبيل الحصول على لقمة عيش لهم». تضيف سميرة «أسرتي لا تعلم بطبيعة عملي فأنا أم لستة أطفال، من بينهم ثلاث شابات. «أعمل جاهدة على أن يظل عملي سرا إلى النهاية مثلما أحرص على تربيتهن تربية صالحة وأحثهن مساء على الابتعاد عن المحرمات لأني شخصيا كرهت نفسي وعندما أغادر منزلي صباحا تجتاحني نوبة بكاء وغضب وكأني في طريقي إلى جهنم لأني أقوم بهذا مرغمة ومضطرة لإطعامهن». وتضيف سميرة أن لها ابنة مهاجرة بإحدى الدول العربية مصابة بالسرطان، وأنها لحسن الحظ أصيبت به هناك، وأنها الآن تتلقى العلاج بمساعدة من جمعيات المجتمع المدني هناك، و»لو عادت إلى المغرب لفقدتها لأني «عاجزة» عن توفير العلاج لها فبالكاد أطعم باقي إخوتها رغم أنهم الآن أصبحوا في ريعان شبابهم، إلا أنهم عاطلون عن العمل ومازلت أن المعيل الوحيد لهم، مثلما أعيل أخي السجين»، تتابع سميرة، قبل أن تدخل في موجة بكاء هستيري وهي تحكي تفاصيل دقيقة عن المشاكل التي تعانيها وعن العبء الثقيل الذي يثقل كاهلها، فهي تبيع لحمها قطعة قطعة حتى ينعم أفراد أسرتها بحياة كريمة نسبيا. «كاين النهار اللي ما كاندي فيه والو وما كنلقاش ما نعطيهم». تقول سميرة، مضيفة «همي الأول هو توفير السومة الكرائية التي تتجاوز ألف درهم لغرفة واحدة تحمينا من الشارع» أما الأكل والشراب فذاك همّ آخر. وإذا كان همّ سميرة إطعام أطفالها فإن هناك فتيات أخريات دخلن عالم الدعارة «من أجل المتعة وتغطية مصاريف المخدرات». دعارة من أجل كلفة المخدرات فاطمة(اسم مستعار)، التي كانت تبدو الأكثر شبابا وأناقة وجمالا من رفيقاتها، كانت تتحرك بكبرياء وهي واثقة من نفسها، تداعب بأناملها خصلات شعرها الأشقر. كانت تدفعها رغبة أخرى غير المشاكل الاجتماعية، فهي على علاقة «غير شرعية» بأحد الشباب، وهو نفسه من يشجعها على ممارسة الدعارة من أجل تغطية مصاريف الحصول على المخدرات القوية التي أصبحت مدمنة عليها هي وصديقها. قالت سميرة عن فاطمة إن «الزيغة فقط هي التي تدفعها إلى ممارسة الدعارة»، موضحة أن زميلتها ليس لها أطفال ولا تتحمل أي مسؤولية حيال أحد، بل هي مدفوعة من طرف صديقها الذي «يرغمها» على ممارسة الدعارة حتى يشبع رغبته في «حك جر»، في إشارة إلى تعاطيه للمخدرات القوية. وتضيف سميرة التي بحت حنجرتها من كثرة الحديث عن الحياة المريرة التي تعيشها «أنا كرهت راسي كيف التواليت لا قيمة لنا لأننا مجرد بضاعة ما إن تستهلك حتى يتم التخلص منها في القمامة». نوال بدورها، التي تتحدر من الدارالبيضاء والتي تستقر بالمضيق، قالت إن الظروف الاجتماعية والفقر هما الدافع إلى هذه الطريق «المنحرفة»، وأنه «لو كان الوضع المادي جيدا لأسرنا لما بعنا أجسادنا للأجانب». عبور الإهانة بمدخل باب سبتة تصطف العديد من السيارات الراغبة في دخول هذا الثغر المحتل وبمحاذاته يوجد ممر حديدي مسيج يدخل عبره راجلون، منهم نسوة مسنات يحملن أكياسا بلاستيكية بها خضر وقنينات من الحليب والألبان ومشتقاتها، وشابات مغربيات في هيئة جذابة تمكن من الولوج بشكل عادي. هؤلاء لسن سوى «بائعات الهوى» اللواتي يدخلن إلى سبتة من أجل «الكسب السريع»، وقد ألفن الدخول يوميا إلى هذه المدينة حتى أن العاملين بهذا المدخل يعرفون كل واحدة منهن. لذلك تقول سميرة «يتساهلون معنا»، حتى أنهم لا يدققون كثيرا في وثائقهن من أجل الدخول، خاصة أن بطاقاتهن التعريفية تحمل عنوان إقليمتطوان حيث يسمح لهؤلاء بالدخول دون قيد أو شرط من طرف السلطات الإسبانية شرط ألا يقضوا الليلة هناك. أضحى الانتقال إلى مدينة سبتة أمرا ضروريا وملحا بالنسبة لهؤلاء الفتيات وكأنهن ملزمات بذلك مثل من له التزامات عملية تفرض عليه الحضور يوميا إلى هذا الثغر. فهذا هو حال سميرة ونوال وفتيحة واللائحة طويلة لفتيات مغربيات «يبعن» أجسادهن للأجانب والمواطنين المغاربة على حد سواء، والهدف هو «الربح المادي»، أو بالأحرى تأمين مصاريف العيش والسومة الكرائية. تقول سميرة إنها اضطرت إلى دخول هذا «العالم المظلم»، مضيفة أنها ليست مقتنعة بما تقوم به، ولولا الحاجة «لانزويت في منزلي وتحجبت، وأقسم أنني لن أغادره إلا إلى المقبرة إن كان لدي مدخول شهري قار يدفع عني السؤال» تقول سميرة. دعارة حذرة حال سميرة هو نفس حال باقي زميلاتها اللواتي يمارسن «الدعارة الرخيصة»، فهن لا يستقررن بسبتة، إذ إنهن يغادرنها في المساء على أن يدخلنها من جديد في اليوم الموالي طيلة أيام الأسبوع إلا في حالة المرض. وإذا ما ابتسم الحظ لهؤلاء الفتيات فهن يلتقين بزبناء إسبان «يغدقون» عليهن العطاء. وعموما فهن «محظوظات» تقول نوال (زميلة سميرة) لأن المسؤولين بسبتة «يعاملوننا بأدب واحترام كبيرين فنحن غير مهددات بالسجن إلا في حالة فعل مخالفة. كما لم يسبق أن عُنّفت إحدانا هنا». السيارة أو الفندق هما الوجهتان الوحيدتان لبائعات الهوى المغربيات بسبتة، فهما الأكثر أمانا لهن. تقول سميرة إن الأمر لا يتطلب وقتا طويلا، فأغلب الزبائن مسنون. وأضافت سميرة أنها وزميلاتها لا يغامرن بالتوجه إلى الدور السكنية، لذلك يفضلن الرضوخ لرغبات الزبائن بالسيارة الخاصة لهم أو بالنزل. وعن المدخول الذي «تدره» هذه «المهنة» تقول سميرة: «كل نهار ورزقو».لكن عادة ما يتراوح المدخول ما بين 300 درهم و500 درهم في اليوم. مدخول يستحيل عليهن جنيه في المدن التي يستقررن بها مهما كانت المهنة التي يمارسن. الفتيات أنفسهن قلن إنهن يتجنبن المغاربة المقيمين بسبتة تفاديا لأي مشاكل قد تكلفهن «المنع الكلي» من دخول سبتة التي تعتبر مصدر رزق لهن ولعائلاتهن. تقول نوال وهي أم لطفلة: «يستحيل أن ننتقل إلى الأحياء التي يقطن فيها المغاربة هنا تفاديا لأي مشاكل، علما أن المواطنين الإسبان أنفسهم يخافون الاقتراب من هذه الأحياء من قبيل حي خادو وحي روساليس حيث يوجد سجن روساليس وحي سيدي امبارك وحي بانتير وحي بريسيبي «درءا لأي خطر أو مشكل». وتضيف «نحن مسالمات لا همّ لنا غير الكسب لإعالة أنفسنا وأطفالنا بعدما أغلقت منافذ العمل علينا في المدن التي نستقر فيها بالمغرب». تأثير الأزمة العالمية مثل باقي القطاعات الأخرى تراجع مدخول المواطنين الإسبان, الذي فرضته الأزمة العالمية, التي أثرت على إسبانيا. وكان لهذا الوضع تأثير أيضا على الدعارة، فمثلما سار الكثير من سكان سبتة في اتجاه التخلي عن عادات البذخ التي كانوا يعيشون فيها من قبيل الاستعانة بمساعدات البيوت اللواتي تتحدر غالبيتهن من المغرب تراجعت أيضا عادات أخرى من قبيل «الإقبال على الدعارة» بسبب الوضعية الاقتصادية الراهنة التي أفضت إلى «سياسة تقشفية» والتخلي عن مجموعة من العادات. تقول سميرة إن مدخولها اليومي تراجع كثيرا في الفترة الأخيرة، حيث إن التأثيرات السلبية للأزمة الاقتصادية التي تجتاح إسبانيا أرخت بظلالها على مدينة سبتةالمحتلة حتى أنه «تراجع الطلب عليهن بشكل كبير، «ففي السنوات الماضية، تقول، كان المدخول محترما بسبب ارتفاع الطلب عليهن، أما اليوم ففي أحسن الحالات لا يتجاوز الأمر ثلاثة طلبات»، فيكون المدخول «جد متواضع» وهو ما يجعله في الغالب يصل إلى 300 درهم في اليوم وأحيانا، تضيف، قد نخرج «خاويات الوفاض». أرقام مخجلة أفصحت بعض الأرقام التي تصدرها بين الفينة والأخرى مؤسسات تهتم بالمهاجرين في إسبانيا عن أن 90 في المائة من عاهرات إسبانيا من المهاجرات! وهو رقم يثير تساؤلات لدى الكثير من المتخصصين في مجال الدفاع عن حقوق النساء بإسبانيا، خاصة المهاجرات منهن بمبرر أنه رقم مبالغ فيه. لكن الاختلاف حول صدقية الرقم يبقى أمرا غير قابل للحسم، غير أن بعض المهاجرين المغاربة قالوا إن المغربيات يشكلن رقما مهما في الظاهرة، إلى جانب عاهرات أوربا الشرقية وروسيا ودول أمريكا اللاتينية. وأكدت المصادر ذاتها أن الظاهرة تتخذ أبعادا خطيرة نظرا لوجود شبكات منظمة تستغل فقر المهاجرات المغربيات ورغبتهن في تحسين أوضاعهن وتسوية وضعيتهن القانونية. فعاليات جمعوية بالمدينة نددت بالظاهرة وأشارت إلى وجود شبكات في المدينة من أجل المتاجرة في لحوم المغربيات. وأضافت أن ظروف العيش في بلاد الغربة هي التي تدفع آلاف المغربيات إلى الاشتغال في مجال الدعارة بإسبانيا، بعدما تحولت أحلامهن بالعيش الرغيد والقطع مع حياة البؤس في المغرب إلى كوابيس، وأضحى بيع أجسادهن للقوادين وسماسرة الجنس والباحثين عن اللذة العابرة السبيل الوحيد لسد الرمق. مفارقة في الوقت الذي تبيع فيه فتيات مغربيات أجسادهن وشرفهن للأجانب بحثا عن مدخول مالي سريع، تدخل نسوة من المعبر نفسه وهن محملات بكيلوغرامات كبيرة من الخضر والفواكه والحليب والألبان ومشتقاتها على أكتافهن من أجل بيعها بأحياء سبتة التي يقطن بها المغاربة. تقول السعدية (بائعة خضر) بلكنة شمالية إنها تدخل من أجل عرض بضاعتها من الخضر التي تقتنيها من الفنيدق والنواحي وتعيد بيعها بسبتة للمغاربة هناك. المشكل أن السعدية لا تكون محظوظة كثيرا عكس بائعات الهوى اللواتي يسمح لهن بالعبور دون مشاكل، إذ كثيرا ما عادت أدراجها من حيث أتت وهي محملة بسلعتها بعد أن يتم منعها من الدخول، علما أنها معروفة أيضا لدى موظفي المعبر كما هؤلاء الفتيات. وقالت السعدية إن بوادر الأزمة العالمية بدت بالمنطقة حتى أنها لا تبيع في بعض الأحيان أغلب سلعتها، فتحتفظ بها إحدى القاطنات بحي سيدي امبارك حيث تعرض سلعتها باستمرار وإلا لحملتها من جديد على ظهرها نحو الفنيدق دون نتيجة. وأوضحت السعدية بأن «العيش مر والصحة مشات»، وأن سبتة التي كانت تعد بريق أمل للكسب لها ولغيرها من المغاربة أصبحت في وضع سيء اقتصاديا، وهو ما أثر على أغلب الأنشطة وعلى أوضاع سكانها بالأساس، فبالأحرى المغاربة الذين يعرضون خدماتهم بها، حتى أن العديد من مساعدات البيوت غادرن المنطقة بعد أن استغنت المشغلات عن خدماتهن بسبب الأزمة الاقتصادية، وهو ما أثر على سكان شمال المغرب الذين يعملون في التجارة، تضيف هذه المرأة.