قبل ثلاثة أشهر تقريبا، بشرنا وزير العدل والحريات بإحالة مجموعة من ملفات «المجلس الأعلى للحسابات» على العدالة، التزاما بالتعهدات التي قطعتها الحكومة على نفسها في إطار «محاربة الفساد»، واحتواء للعواقب الكارثية التي خلفتها «ثرثرة» رئيس الوزراء على قناة «الجزيرة»، حين قال إن «مطاردة الساحرات» ليست هوايته و«عفا الله عما سلف»، وسط ذهول الجميع. يوم 8 غشت بالضبط أمام «لجنة العدل والتشريع» في البرلمان، كشف المسؤول عن «ميزان» حكومة بنكيران عن تشكيل «لجنة من الخبراء» تدرس تقارير «المجلس الأعلى للحسابات» المتعلقة ب«هدر المال العام» من أجل إحالتها على الشرطة القضائية متم شهر شتنبر... ولا شك أن الأستاذ الرميد كان يقصد شتنبر الفلاحي، الذي يرتبط مجيئه بمزاج الطبيعة وسقوط الأمطار، أما شتنبر الذي نعرفه فقد مضى وانقضى دون أن نسمع أن قاضيا فتح تحقيقا أو وجه تهمة أو أوقف مشتبها فيه، رغم أن الحديث جرى عن حوالي 40 ملفا تتعلق بسوء التدبير والفساد المالي، على رأسها ملف «القناة الثانية» و«مكتب التسويق والتصدير» وعدد من الجماعات المحلية... كل ما رأيناه إلى حد الآن هو احتجاجات غير مسبوقة لقضاة المملكة دفاعا عن «استقلالية العدالة»، ومحاولات لإخراس كل الأصوات الجرّيئة داخل الجهاز القضائي، عن طريق فتح تحقيقات عقابية ضد أصحابها، كما حدث مع عادل فتحي، وكيل الملك لدى ابتدائية تازة، ويونس مخلي، رئيس نادي القضاة، حيث أحيل الأول على المجلس الأعلى للقضاء والثاني على المفتشية العامة للوزارة... أكثر من ذلك، في الوقت الذي كنا نترقب فيه بداية مسلسل «الرميد والأربعون حرامي»، فاجأتنا تطورات معاكسة في ملفات الفساد المعروضة على القضاء، إذ باتت تشهد تعثرا واضحا بسبب تزايد الضغوط السياسية على السلطة القضائية، كما هو الحال مع ملف خالد عليوة، الذي قرر حزب وزير العدل السابق أن يشن فيه هجوما مضادا على العدالة، من خلال تبنيه القضية التي يتهم فيها مدير «القرض العقاري والسياحي» السابق بتهم من العيار الثقيل. لكن «الاتحاد الاشتراكي»، مؤازرا ب«الأصالة والمعاصرة» و«الاستقلال» في نسخته «الشباطية»، يدافع بقوة عن خالد عليوة من أجل وضع الحكومة في موقف حرج وكي يقطع الطريق على عرض قضايا أخرى أمام المحاكم، خصوصا أن بعض الاتحاديين تركوا في وزاراتهم ملفات يمكن أن تضعهم بسهولة في إحدى زنزانات عكاشة جنب عليوة، بمجرد إحالتها على القضاء. إذا ظهر السبب بطل العجب، وإذا عرفنا أن نصف عائلة الأمين العام الجديد لحزب «الاستقلال» يلاحقون أمام المحاكم بتهم جنائية، نفهم سبب انضمام حميد شباط إلى نادي المدافعين عن خالد عليوة. لكن ما لا يفهمه كثير من الاتحاديين هو إصرار القيادة على تبني ملف شخص غادر الحزب بمجرد حصوله على منصب «مدير القرض العقاري والسياحي»، في الوقت الذي تترك فيه عبد الحنين بنعلو دون «حنين أو رحيم»، وحيدا ومخذولا في «عكاشة»، رغم أن مدير المكتب الوطني للمطارات ظل إلى حين اعتقاله عضوا في «المجلس الوطني» للحزب! وفي الوقت الذي يواجه فيه الرميد جبهة للدفاع عن عليوة، مازال ملف صلاح الدين مزوار ونور الدين بنسودة يراوح مكانه، ولم نر في المحكمة إلا المهندس الذي «زغبه الله» وفضح التعويضات غير القانونية التي كان يحصل عليها خازن المملكة ووزير المالية السابق، ولا أحد إلى حد الآن استطاع أن يسائلهما عما صرفاه من المال العام دون وجه حق، رغم أن الاتهامات واضحة لا غبار عليها. أما مدير القناة الثانية السابق مصطفى بنعلي، الذي كان «يلهف» ستين مليونا في الشهر طوال أكثر من خمس سنوات، كما هو مثبت بالأرقام في تقرير «المجلس الأعلى للحسابات»، ناهيك عن الاختلالات الخطيرة في التدبير، فقد استغل بطء مسطرة وزارة العدل وهرب إلى كندا قبل أن يتمكن القاضي من إصدار مذكرة تمنعه من مغادرة التراب الوطني، ولم يبق إلا أن يخرج أحد المواطنين إلى الشارع وهو يصرخ: «بنعلي هرب بنعلي هرب»... رغم أن الجملة لن تكون لها نكهة «الفرحة التونسية»، بقدرما ستكون بطعم «الشمتة المغربية»، في انتظار أن ينتصر قضاء «الرجال» على قضاء «الشمايت».