أعادت الانتخابات الجزئية، التي نظمت مؤخرا بكل من مدينتي طنجة ومراكش، تأكيد المعطى المعروف لدى الجميع: تقاطب الحياة السياسية بين حزبين اثنين هما: العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، وعلى هذين القطبين يدور فلك باقي الفاعلين السياسيين؛ فبالعودة إلى النقاشات التي دارت بمناسبة هذه الاستحقاقات بين مختلف الفاعلين السياسيين، يتبين أن الحياة السياسية صارت محتكرة، أكثر من أي وقت مضى، من قبل الإسلاميين المروجين لخطاب شعبوي وهجومي، وكذلك من قبل عناصر مخزنية جديدة تتبنى خطابا شبه حداثي لا يخلو من تقليدانية. ثمة كذلك معطى هام في هذا المشهد: الاختفاء شبه التام لأفكار اليسار من النقاش السياسي، إذ يتملكنا انطباع بأن اليسار أقصي بشكل تام من السباق ولم يعد قادرا على تجديد نفسه من الداخل واقتراح بدائل ذات مصداقية تلقى قبول المجتمع؛ ففي بعض الحالات، أدار اليساريون ظهورهم للأفكار التي استمدوا منها وجودهم وقوتهم في السابق، وهذه حالة حزب التقدم والاشتراكية الذي انصهر في التحالف الحكومي الحالي، رغم أنه كان يقدم نفسه قبل الحكومة الحالية كخصم عنيد للإسلاميين. والمؤلم كذلك أن هذا اليسار، الذي يعتبر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أحد مكوناته، بات تحت سيطرة توجه متجاوز في العصر الحالي يحول دون ضخ دماء جديدة في شرايين اليسار وإعادته إلى واجهة الحياة السياسية المغربية. لا يعي قادة هذا التيار أنهم متخلفون على صعيد عدة جبهات. لا يزالون يراهنون على استراتيجية بائدة تقوم على تصورات متجاوزة في الوقت الراهن، من قبيل التوافق أو التوحيد وجمع الشتات من أجل إعادة إنتاج اللعبة ذاتها. لا يفهمون أن زمنهم ولى إلى غير رجعة، وأن وجودهم مكلف لأحزابهم بسبب تراكم عثراتهم وكبواتهم. وفي هذا الإطار، يقول ملاحظ للحياة السياسية المغربية: «الاعتداد بكلمة هؤلاء الرجال يشبه الإمساك بأفعى من ذيلها». يكمن المشكل الحقيقي لهذا التيار في كونه فَقَد مصداقيته ولم يستطع التموقع على نحو يميزه عن الآخرين، ذلك أن اليسار اتخذ مواقف اتسمت بالضبابية وأخرى صارت متجاوزة اليوم، وبذلك يحرم نفسه من تقديم بديل يمكنه من النهضة والانبعاث من جديد. نهضة تستلزم تغيير الاستراتيجيات والقادة على حد سواء، واستعادة الأمور التي شكلت نقطة قوة اليسار في السابق: اتخاذ مسافة فاصلة بين الأحزاب الإدارية والحفاظ على استقلالية حقيقية عن السلطة. كما يلزم اليسار أن يتحرر من قوقعته وينفتح على قوى جديدة، ويستقطب طاقات جديدة. ويتوجب، بالأساس، العمل على التخلص من القادة الناعمين الذين يقضون جل وقتهم في الترويج لخطاب توافقي لا فائدة ترجى منه غير إثارة اهتمام الآخرين إلى ما يقومون به، والواقع أنهم لا يقومون بشيء عدا تقديم خطاب عام وفضفاض يرفع درجات السخط على الوضع الراهن. قد يتفق الجميع مع خطابهم، غير أنه لا أحد يجرؤ على الجهر بدعمه لهذا النوع من الخطاب. لكن المؤكد أن استراتيجيتهم استنفدت زمنها ولم تعد ذات تأثير على السكان الذين لم ينسوا شيئا من ماضي اليسار، لأن ذاكرتهم ليست قصيرة، عكس ما يعتقده البعض. لا يزال الجميع يتذكر التوافقات القاتلة التي يجرها هذا اليسار وراءه كإرث ثقيل يعيق نهضته من جديد؛ فمن يا ترى نسي التصريح الذي أدلى به عبد الرحمن اليوسفي، الزعيم السابق للحزب، من العاصمة البلجيكية بروكسيل، خصوصا وأن ذلك التصريح اتخذ شكل نقد ذاتي. يحتاج اليسار إلى تغيير جلده مرورا بنقد ذاتي يمس العمق وإعادة أشكلة الماضي وما يستمر في ترويجه من أخطاء، مع إحداث تغيير في القيادة واستقطاب عناصر جديدة. تتطلب الوضعية الحالية زعماء حازمين، وذوي شخصيات قوية، وقادرين، في الآن ذاته، على مواجهة هؤلاء الشعبويين الجريئين والديماغوجيين الذين يؤثثون المشهد السياسي، وكذلك سكانا أكثر تطلبا وأقل سذاجة من الماضي. يتمتع السياسيون المهيمنون على الساحة اليوم بحاسة سادسة تمكنهم من استقراء نقط ضعف الآخر. وإذا أظهرتم استعدادا لجميع التوافقات، وخضعتم وانصعتم، فإنكم تشجعونهم على المضي قدما في تنفيذ خططهم. لا تغفلن أعينكم عن حقيقة هامة: يتوقف كل شيء على صورتكم لدى عموم الجماهير. وإذا اكتفيتم بمواقف دفاعية وقدمتم تنازلات، فإن مصيركم أن تعاملوا بلا رحمة. وحدها الجرأة كفيلة بضمان مكان لصاحبها في الساحة السياسية. وحميد شباط، الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، نموذج يضرب به المثل في هذا المجال. ف«التهور» الذي أبان عنه في الفترة التي سبقت اقتراع الأمين العام لحزب الاستقلال جعل منه رجل المرحلة. لقد بنى نجاحه السياسي على مقاربة هجومية صرفة، تغفر له زلاته وأخطاءه، وتحسب له جرأته وقدرته على جذب الاهتمام واستمالة السلطة. ولا يستطيع السياسي التوافقي منافسته أو إيقاف صعوده. إجمالا، لم يعد لليسار مشروع سياسي؛ لم يعد قادرا على الحلم. وهذا بالضبط ما نعيبه عليه. الفرصة متاحة لليسار من أجل النهوض من جديد واستعادة المواقع التي خسرها وإعادة تنشيط الحياة السياسية وفرض نفسه فاعلا يحسب له حساب في النقاش السياسي. ولذلك يلزمه استحضار المقولة التالية لفرانسوا دو لاروشفوكولد: «الجرأة تقلل من شأن ذوي النفوس الضعيفة وتزيد عظمة الكبار تماما مثل الرياح التي تطفئ الشموع وتوقد النار».