كان هناك شاب يعمل مع فتاة في أحد المكاتب في القاهرة. اضطر الشاب إلى السفر في مهمة عمل إلى الإسكندرية فاتفق مع زميلته على أن تنتظره تحت المكتب حتى يأخذ منها أوراقا يحتاج إليها في مهمته. وقفت الفتاة في الشارع تنتظر زميلها. فوجئت برجل لا تعرفه يقترب منها ويهمس: إنتي حِلوة قوي. ثم بدأ يتحرش بها. مد يده يتحسس جسدها في وسط الشارع وفي عز النهار. استغاثت الفتاة وحاولت أن تدفع الرجل بعيدا، لكنه استمر في التحرش بها. وصل زميل الفتاة وشاهد ما يحدث فهجم على المتحرش ليبعده عن زميلته. كان المتحرش أقوى جسديا من الشاب، فضربه ضربا مبرحا أدى إلى كسر أحد ضلوعه وأحدث في وجهه إصابات بالغة، ثم دفعه فسقط في نهر الشارع وكادت السيارات تدهسه. اجتمع الناس وجاءت الشرطة. في وسط الانفلات الأمني المتعمد الذي تعاني منه مصر بعد الثورة، تصرف مأمور القسم بطريقة مسؤولة، فأمر بالقبض على المتحرش وأحاله على النيابة التي قضت بحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق. هذه الواقعة حقيقية لكن تفاصيلها تكسبها بعدا جديدا: فالمتحرش مسلم والفتاة ضحية التحرش مسلمة محجبة اسمها رحمة محمد، وزميلها الشاب الذي دافع عنها باستماتة قبطي اسمه ميشيل جورج، والضابط الذي نفذ القانون ضد المتحرش قبطي أيضا هو العميد هاني جرجس، مأمور قسم قصر النيل، والواقعة تحولت إلى قضية رقم 7788 لسنة 2012 جنح قصر النيل.. السؤال: ما الذي يدفع شابا قبطيا إلى المخاطرة بحياته من أجل إنقاذ فتاة مسلمة محجبة؟ وما الذي يدفع الضابط القبطي إلى أن يقوم بالقبض على رجل مسلم اعتدى على فتاة مسلمة؟ الإجابة أن الشاب والضابط لم يفكرا في الفتاة باعتبارها مسلمة أو قبطية وإنما فكرا في أنها إنسانة تتعرض للتحرش ومن واجبهما الدفاع عنها. هذه الواقعة تجسد لنا السلوك المتحضر: أن ندافع عن حقوق الآخرين لأنهم بشر وليس لأنهم يشتركون معنا في الديانة أو الجنس.. هذا السلوك المتحضر كثيرا ما يقوم به مسلمون أيضا.. ففي وسط الحوادث الطائفية أثناء الاعتداء على الكنائس وبيوت الأقباط ،عادة ما يظهر مسلمون متحضرون يحمون الأقباط من الاعتداء، وهم عندئذ لا ينظرون إليهم كأقباط وإنما كبشر لهم حقوق إنسانية من واجبهم أن يدافعوا عنها.. هذه الوقائع المشرفة التي تظهر بين الحين والحين تطرح السؤال: هل نحن متحضرون فعلا؟.. رأيي أننا متحضرون لكننا نعيش في دولة غير متحضرة. علينا هنا أن نفرق بين التمدن والتحضر.. التمدن مظهر والتحضر جوهر.. إذا حققت الدولة تقدما اقتصاديا ورفعت مستوى معيشة المواطنين وأنشأت جيشا قويا.. كل ذلك يجعلها دولة قوية متمدنة، لكنها لن تكون دولة متحضرة إلا إذا أعْلت من قيمة الإنسان ودافعت عن حقوقه، بغض النظر عن دينه أو طبقته الاجتماعية. لا يمكن للدولة أن تكون متحضرة إلا إذا سادت المفاهيم الآتية: أولا، الفهم الإنساني للدين: هل نعتبر أنفسنا بشرا أولا أم إننا مسلمون أو أقباط أولا؟!.. هل يأتي انتماؤنا إلى الدين قبل انتمائنا إلى الإنسانية أم العكس؟!. الإجابة أن فهمنا الصحيح للدين هو ما يجعلنا أكثر انتماء إلى الإنسانية.. إذا كنت متدينا بحق فسوف تدافع قطعا عن حقوق الآخرين مهما اختلفوا معك في الجنس أو الدين أو الأفكار... هذا المفهوم الصحيح للدين تراجع تماما في نظام مبارك.. على مدى ثلاثة عقود من الزمان، انتشرت القراءة الوهابية للإسلام المدعومة بأموال النفط، ونجحت في أن تنشر في المجتمع المصري وعيا دينيا متشددا يحاسب الناس على معتقداتهم ويعتبر الأقباط فئة ضالة ويحاسبهم على ذلك.. منذ شهور، كتبت في هذا المكان قصة تخيلت فيها أن شهداء الثورة المسلمين والأقباط صعدوا إلى الجنة، فوصلتني ردود فعل مؤسفة من قراء كثيرين لاموني لأنني تخيلت أن الأقباط سيدخلون الجنة، بينما هم يعتقدون أن الجنة ستقتصر فقط على المسلمين، وغير ذلك لا يجوز حتى لو كان في قصة متخيلة. ثانيا، التأكيد على المسؤولية الشخصية: الدولة المتحضرة تعتبر الناس مسؤولين عن تصرفاتهم كأفراد فقط وليس باعتبارهم أعضاء في جماعات أو طوائف. إذا حاسبنا الآخرين بطريقة جماعية، فهذه أول خطوة نحو التعصب.. هل نعارض نحن العرب إسرائيل بسبب سياساتها أم بسبب ديانتها..؟ إذا كنا نعارض سياسات إسرائيل العدوانية الظالمة فهذا موقف إنساني عادل ومفهوم يشاركنا فيه ملايين الناس في كل أنحاء العالم، أما إذا كنا نعارض إسرائيل لمجرد أنها دولة يهودية فنحن نمارس سلوكا طائفيا متعصبا. لا يحق لنا أن نعادي مجموعة من الناس على خلفية ديانتهم.. لا يجوز لنا أن نكره اليهود جميعا لمجرد أنهم يهود، وإلا فنحن نعطي الحق للآخرين لكي يعاملونا بنفس التعصب، فيكرهوننا لمجرد أننا مسلمون.. كما أنه من الظلم البيّن أن نعتبر أي شخص مسؤولا عن أفعال الآخرين لمجرد أنهم ينتمون إلى ديانته. هناك قائمة طويلة بأسماء يهود غربيين اتخذوا مواقف معارضة لإسرائيل وأدانوا سياساتها العدوانية.. الرئيس النمساوي الراحل اليهودي برونو كرايسكي، والمفكر الأمريكي اليهودي ناعوم تشومسكي، وغيرهما كثيرون، بل إن هناك فتاة أمريكية يهودية اسمها راشيل كوري تركت الولاياتالمتحدة وذهبت إلى فلسطين لتدافع عن حقوق الفلسطينيين، وفي يوم 16 مارس عام 2003 كانت الجرافات الإسرائيلية تهدم بيوت الفلسطينيين في مدينة رفح، فاعترضت راشيل كوري طريق الجرافة لتحمي بيوت الفلسطينيين، فما كان من سائق الجرافة إلا أن تقدم وسحقها فماتت تحت الجرافة.. ها هي فتاة يهودية تضحي بحياتها دفاعا عن فلسطينيين مسلمين. ليس من حقنا، إذن، أن نعادي أي مجموعة من الناس بسبب ديانتهم أو جنسهم، بل يجب أن يكون الإنسان مسؤولا عن تصرفاته بشكل شخصي. ثالثا، تأسيس الدولة المدنية: الدولة المدنية لا يرتب فيها الدين أي حقوق سياسية للمواطنين، فيكونون جميعا سواسية أمام القانون بغض النظر عن ديانتهم. في الدولة المدنية من حق المواطنين أن يعتنقوا ما شاؤوا من أديان ومن حقهم أن يمارسوا شعائرهم بغير أن ينتقص ذلك من حقوقهم كمواطنين. للأسف، فإن حرية الاعتقاد في مصر تتراجع بسبب تخاذل الدولة عن حمايتها، في الشهر الماضي حوكم مواطن مصري وهو الآن محبوس لأنه شيعى، وهكذا فقد أصبح الانتماء إلى المذهب الشيعي تهمة يعاقب عليها القانون المصري، بينما في عام 1939 تزوجت الأميرة فوزية، أخت الملك فاروق، من ولي العهد الإيراني واحتفلت مصر كلها بالعرس الملكي ولم يفكر أحد في أن العريس شيعي والعروس سنية... مازالت الدولة المصرية ترفض باستماتة الاعتراف بحقوق البهائيين، مما يضطرهم إلى الكذب في الأوراق الرسمية فيكتبون أنهم مسلمون مع أن ديانتهم بهائية. المؤسف أن الدستور الذي تتم كتابته الآن قد قصر اعتراف الدولة على الأديان السماوية الثلاثة، وهذا النص الدستوري مناف لحرية الاعتقاد، لأن هناك مواطنين مصريين، مثل البهائيين، لا ينتمون إلى هذه الأديان الثلاثة ومن حقهم على الدولة إذا كانت متحضرة أن تعترف بحقوقهم الدينية، كما أن معظم الأديان في العالم يعتبرها معتنقوها أديانا سماوية. السؤال الآن: ماذا لو قررت الدول ذات الأغلبية البوذية أو الهندوسية أن تعاملنا بالمثل، ماذا لو أن أحد المصريين المقيمين في الصين أو الهند، مسلما كان أو قبطيا، ذهب لأداء الصلاة فألقت السلطات هناك القبض عليه وقالت إنها لا تعترف بالإسلام والمسيحية، كما رفضت الدولة المصرية الاعتراف بالبوذية أو الهندوسية. لا يمكن أن تكون الدولة متحضرة قبل أن تبيح لمواطنيها حرية الاعتقاد بغير قيد أو شرط. رابعا، ثقافة التسامح وتجريم الكراهية: الدين ليس وجهة نظر وإنما هو اعتقاد حصري. من هنا فإن أتباع أي دين يؤمنون دائما بأن دينهم الوحيد الصحيح بينما بقية الأديان مزيفة أو محرفة. الإسلام يعترف بالمسيحية واليهودية، لكنه يعتبر أن الديانتين قد أصابهما تحريف أخرجهما عن طريق الحق. المسيحيون لا يعترفون بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أما اليهود فلا يعترفون بالمسيحية ولا بالإسلام، ويؤمنون بأن المسيح الحقيقي لم يظهر بعد.. هذا التضارب بين الأديان تسبب في حروب ومذابح بشعة على مر التاريخ الإنساني، حتى تعلمت الدول المتحضرة أن تحترم الأديان جميعا وتسن القوانين لتمنع أتباع أي دين من إهانة الأديان الأخرى. من حقك أن تمارس معتقداتك، لكن ليس من حقك أن تهين أديان الآخرين. في القانون المصري تهمة اسمها ازدراء الأديان، لكنها لم توجه قط إلا إلى الذين أهانوا معتقدات المسلمين. أما بعض المشايخ المتطرفين الذين يهينون الأقباط ويعلنون أنهم كفار لا تجوز تهنئتهم بأعيادهم، فهؤلاء لا تعتبر الدولة أن إهاناتهم للمسيحية جريمة ازدراء للأديان. إن الشعب المصري متحضر، لكن الدولة غير متحضرة وهي تسمح بالتمييز واضطهاد المختلفين عن دين الأغلبية، كما أنها لا تحترم آدمية المصريين، سواء كانوا مسلمين أو أقباطا. هكذا كانت دولة الاستبداد التي أقامها حسني مبارك على مدى ثلاثين عاما، ثم قامت الثورة المصرية وجاء أول رئيس منتخب من الشعب، وكنا نتوقع أن يشرع في إنشاء الدولة العادلة المتحضرة التي تعلي من قيمة الإنسان وكرامته بغض النظر عن دينه أو انتمائه السياسي؛ لكن الإشارات التي يرسلها الرئيس مرسي للأسف مقلقة ولا تبشر بخير... الرئيس مرسى يوالي الإفراج عن المعتقلين الإسلاميين الذين ينتمون -مثله- إلى جماعات الإسلام السياسي، وفي نفس الوقت لا يريد أن يستعمل حقه في العفو عن معتقلي الثورة المدنيين الذين حوكموا عسكريا لأنهم ليسوا إسلاميين.. هناك مواطنة مصرية اسمها نجلاء وفا يتم جلدها كل أسبوع في المملكة السعودية عقابا لها على إغضابها إحدى الأميرات السعوديات، وهناك المحامي أحمد الجيزاوي، الذي يستغيث من التعذيب الذي يتعرض له في سجون السعودية، وهناك عشرات المعتقلين المصريين الذين لم تكن السلطات السعودية لتجرؤ على المساس بهم لو كانوا أوربيين أو أمريكيين، لكن علاقة الرئيس مرسي بالأسرة المالكة السعودية، في ما يبدو، أهم لديه من كرامة المصريين، تماما كما كان مبارك يحرص على صداقة ملوك الخليج ولا يعبأ إطلاقا بأحوال المصريين العاملين هناك. لن تكون الدولة المصرية متحضرة إلا إذا اعتبرت أن أهم واجباتها الحفاظ على كرامة المصريين وحقوقهم. الديمقراطية هي الحل.