منذ الوهلة الأولى أجازف بالقول بأنه كان من المفترض أن تلعب الثقافة والتراكم المعرفي دورا كبيرا في تجويد الإبداع وملاءمته مع حاجيات المجتمع كمؤطر ومواكب للتحولات الجارية والمحيطة، بنفس القدر الذي تلعبه التغذية والوعي الصحيين في تحسين النسل ورد الاعتبار إلى الجمالية كقيمة اجتماعية تطور الأذواق وتشكل الحياة الجمعية وفق إشباعات ذهنية وعاطفية ضدا على عنف التاريخ وجبروته. إن كل السلطات في طريقها إلى إعادة التشكل أو الزوال، غير أن سلطة المعرفة تتعزز قوتها ومكانتها في تدبير الشأن العام والحيوات الخاصة يوما عن يوم، فلا أحد منا ينكر دور الكلمة في تحرير الذات وتحررها، وبالأحرى في تراكمها كمعرفة تؤثث للمسارات الرابطة، ذهابا وإيابا أفقيا وعموديا، بين الأخلاقيات كتعبئة من أسفل وبين الأخلاق كآلية للضبط من أعلى. ومهما بلغنا من التعالي والاستغناء، ستظل الصور اللغوية الأولى التي تلقيناها في بداية مشوارنا الدراسي، راسخة ومترسبة بحمولاتها الثقافية والنفسية، نتمثلها أحيانا كبديل عن عجزنا في التفكير للبدائل والحلول. من هنا، تأتي القراءة كوقود يغذي التراكم المعرفي من خلال إعادة صياغته وتطويره في ضوء التحولات الجارية، على الخصوص مع تطور وسائل التلقين والتلقي اللذين يختلطان لدى البعض بالاستهلاك السلعي، إلى درجة أن المعلومة صارت بضاعة تخضع في السوق لقانون العرض والطلب، وصار معها الإعلامي وسيطا بين مصدر المعلومة والمتلقي بغض النظر عما توفره له هذه «المهمة» من امتيازات تجاه الطرفين، تتراكم عبر الزمن لتتحول إلى سلطة متخصصة في صناعة الحقائق السوسيولوجية، والتي بدورها تؤثر في صناعة القرار الأمني والسياسي. وبنفس القوة التي يقيم بها الدين والأخلاق والفن والرياضة والتربية علاقات مع الواقع المجتمعي، وتتحكم فيه، يقيم الإعلام علاقات مكثفة بحكم كونه يشكل قنوات لتمرير تلك الروابط، بواسطة الإذاعة والنشر والتواصل المتحرك والحي واليومي. إن هذه السلطة، التي كانت مفترضة «ذهنيا»، صارت قوة مادية تؤثر في الخيارات والمسارات والابتكار الجماعي، بل تجاوزت هذا السقف إلى المساءلة والمحاكمة من خلال التوجيه والضغط على الرأي العام، إلى درجة صارت معها المختبرات التحليلية تلجأ إلى المعطى الإعلامي وتعتمده في قياس الحريات والحقوق والتحولات التاريخية.. وقد لاحظنا أن الفلسفة لعبت دورا كبيرا في فرض الرقابة الإنسانوية على العلم، تفاديا للانحراف والانزلاق، ومن هنا يقتضي الأمر رد الأمور إلى نصابها بالإعلان عن افتحاص ثقافي لرسالة الإعلام، خاصة في ظل هيمنة السياسي على الفكري وانقلاب السحر (الإعلام) على الساحر (الفاعل السياسي وصانع القرار)؛ فبملاحظة أن هذا القطاع صار منذ عقدين ملاذا لكل العاطلين عن العمل، شأن المجازين في الحقوق في العلاقة بمهنة المحاماة، غير أن عددا كبيرا من هؤلاء الطلبة تمثلوا مقاصد المهنة بنبل وأخضعوا أنفسهم لتكييف وملاءمة مهنية، وتلقوا تكوينا بعصامية متناهية وصاروا من خيرة الإعلاميين وطنيا ودوليا؛ لكن البعض الآخر تنصل من مبادئه واختار الارتزاق حرفة وغاية، ومنهم من تحول إلى سلاح للتدمير الشامل للقيم النضالية والتربوية، فنال من «رسالته» شرفاء الوطن دون استثناء، وتحول الحق في النشر لديهم إلى حرية مطلقة في «النشير»/نشر الغسيل والنبش في العورات والحيوات الخاصة كمورد ومصدر للابتزاز.. وكم من «زعيم» مستقل عن الأحزاب تولد لدى إعلامنا غير المتحزب، وكم من صحافي راكم الجنح والمخالفات والاعتقال في القذف والسب وحول نفسه من إعلامي وسوسيولوجي إلى معتقل رأي، بل إن تنسيق المعلومات «النادرة» المسربة من قبل الأجهزة المحتكرة للمعلومة في أعمدة حوّل أصحابها إلى مثقفين ومحللين يؤخذ بكلامهم معيارا لقياس التحولات المجتمعية الدفينة.. من هنا، كان من الضروري تسطير حدود أخلاقية ومعيارية بين الإعلام وبين المعرفة حتى لا تتماهى الحقيقة العلمية مع الحقيقة السوسيولوجية، حيث تصعب المحاججة والمحاسبة والنقد، وليس ما نراه من إسهال في التصريحات وبيانات التوضيح والتكذيب والاعتذارات المبتذلة سوى مثال على ميوعة رسالة الإعلام وفسادها، فحتى القضاء لم يسلم من سيفها الإرهابي.. إن هذه الوسيلة -الإعلام- تحولت إلى غاية في يد أشخاص ومؤسسات، ليس باليسير التسليم بصمودهم لولا تضافر جهود أخرى تستمد قوتها وشرعيتها من سلطات معينة، فهذا التداخل يجعل من الإعلام كفضاء يجسد حرية التعبير مجرد بورصة لتبخيس المبادرات المجتمعية بترجيح الكفة لصالح قوى نافذة في الدولة والمجتمع على حساب ذوي الحاجات العمومية في التعبير. فكيف السبيل إلى تأهيل هذا القطاع خارج دعوات التخليق المعنوي وباستقلال عن سلطة المال والنفوذ؟ فهل من اجتهاد لإخضاع الإعلام للرقابة الفلسفية، كما حصل ويحصل في المعرفة والعلوم، ببلورة مواثيق أخلاقية متلائمة مع المعايير الكونية لحقوق الإنسان لدرء التعسف في استعمال الحق في التعبير؟ أم إن الافتحاص الثقافي لن يخرج عن روتينية نزعة «التطهير الذاتي» العرضية التي لا تهدف سوى إلى امتصاص النقمة في سياق التظاهر بإسقاط الفساد؟ إن راهنية هذه المؤاخذات تقتضي منا الحذر من انفلات إعلامي قادم في الأفق يهدد الكيانات والسيادة في ظل تحولات عالمية صارت معها المعلومة جسرا لزحف «الانقلابات» والأمراض الفتاكة تسري في شرايين الدولة والمجتمع بلبوسات دينية ومساعدات مالية وتعاون ثقافي وبمراجعة تاريخ حروب الجواسيس يمكن استخلاص كون الاختراقات تتم عبر الوكالات والملحقات الإعلامية، ونخشى أن تتحول مهنة الإعلام طابورا خامسا من خلال التجنيد والاستقطاب ضمن صيغة «الإعلام معسكر من لا ملة له».