برفقة وفد من رجال الأعمال الفرنسيين.. السفير الفرنسي في الرباط يواصل زيارة الأقاليم الجنوبية    انعقاد الاجتماع الخامس للجنة العسكرية المختلطة المغربية – الموريتانية    نظام الجزائر على شفا الهاوية.. هل تقترب لحظة الحسم؟    الركراكي يستدعي بلحيان لتعويض ريتشارسون المصاب        الحكومة تخصص 14 مليار درهم في مالية 2025 لاحداث مناصب الشغل    اختتام فعاليات الدورة السابعة من مهرجان القصبة للفيلم القصير    فتاح: الحكومة "متفائلة جدا" بشأن النمو الاقتصادي في 2025    لقجع: أسعار بعض الأدوية في المغرب مضاعفة 5 مرات ونرفض الاحتكار وفرض أثمنة مرتفعة بحجة "الصناعة الوطنية"    وزارة التربية الوطنية ترخص للأساتذة تقديم ساعات إضافية في المدارس الخصوصية    المغرب يجدد التأكيد أمام مجلس السلم والأمن على دعمه لعملية سياسية شاملة في ليبيا    هيئة رئاسة فرق الأغلبية تتجاهل المبادرة البرلمانية لتقريب وجهات النظر بين وزير العدل والمحامين    الأحمر يُوشّح تداولات بورصة الدار البيضاء    الحرس المدني الإسباني يحجز أكثر من 4.7 أطنان من الحشيش بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني    مباراة المغرب و الغابون.. تغييرات في اللائحة الجديدة للأسود    عاجل.. تأجيل محاكمة إلياس المالكي لهذا السبب    "أكديطال" تنخرط في مشروع للطب 4.0    يوعابد: العاصفة الجوية "دانا" ستؤثر على المغرب ولكن بكيفية ضعيفة    منيب: المهداوي مظلوم والمغرب يعيش تكميم الأفواه بكل الطرق    المرض يُغيب المالكي عن المحكمة .. والدفاع يرفض المزايدة بالأمازيغية    أوجار يشيد بجهود الحكومة في تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية كما أرادها جلالة الملك    لقاء مغربي إسباني بالرباط لبحث سبل تأهيل وتحديث قطاع اللحوم الحمراء    تقديم كتاب بجنيف عن صحراء المغرب    إتحاد طنجة يبحث عن ملعب لاستضافة المغرب التطواني بدلا من ملعب سانية الرمل    سبتة تطالب مدريد بالدعم المالي للتعامل مع قضية القاصرين في المدينة    وزير النقل يريد ربط الحسيمة بخدمات القطار بدون سكة حديدية!    حملة توعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الرئة    "تصريح خطير".. وزير المالية الإسرائيلي: 2025 هو "عام السيطرة" على الضفة الغربية    "لارام" تورط جامعة كرة القدم في حفل "سخيف" لتقديم قميص المنتخب الوطني    مجلس عمالة الدار البيضاء يخصص 150 مليون لكل من الرجاء والوداد    التغير المناخي يهدد حياة اللاجئين في مناطق النزاع والكوارث الطبيعية        الجيش الإسرائيلي يعلن فتح معبر جديد لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    تقارير.. المغرب من أكبر مستوردي الأدوية الروسية في إفريقيا    كيوسك الثلاثاء | الوقاية المدنية أنقذت أزيد من 25 ألف شخص من الغرق في 2024    التمسماني: طنجة كانت وستظل مثالًا يحتذى به في احترام التنوع الثقافي والرياضي    ألباريس: المغرب بلد صديق وشريك استراتيجي لإسبانيا    الدولار إلى أعلى مستوى خلال أربعة أشهر    أخنوش أمام قمة الرياض: جلالة الملك يضع القضية الفلسطينية ضمن ثوابت السياسة الخارجية للمملكة    قمة الرياض تؤكد على مركزية القضية الفلسطينية            بروفايل |يوسي بن دافيد.. قائد دبابة "ميركافا" بجيش الإحتلال على رأس "مكتب الاتصال الإسرائيلي" في الرباط    تحسين ظروف السكن ل16 ألف و300 أسرة كمعدل سنوي خلال الولاية الحكومية الحالية    التصفيات الإفريقية تقترب من الحسم    مقتل 4 جنود إسرائيليين شمال قطاع غزة    دراسة: تناول الدهون الصحية يقلل من احتمالات الإصابة بالسرطان    الصين تطلق بنجاح صاروخا تجاريا على متنه 15 قمرا اصطناعيا    طنجة تحتضن فعاليات الدورة الأولى لملتقى الزجل والفنون    قمة الرياض مكرر.. كل شيء تغير، ولا شيء تغير ..    علاج واعد جديد لفقدان السمع المفاجئ الحاد    خلط في خبر وفاة محمد المسيح وشقيقه عبد الاله    نصائح للوقاية من آلام الظهر والرقبة بسبب الجلوس لفترات طويلة    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تفسير الحاجة إلى العلوم الإنسانية على ضوء تحولات العالم العربي
نشر في المساء يوم 12 - 03 - 2011

قبل النظر في الشروط التاريخية والسياسية والعلمية والاجتماعية و المؤسساتية التي شكلت مرتكزا لنشأة العلوم الإنسانية، بما هي علوم مختصة، حولت النظر إلى الإنسان
من مقولة «القوة الناطقة» عند الأقدمين إلى النظر إليه كفعالية متعددة ومنتجة لأثر في الواقع المادي، لا بد أن نقف أولا عند مفارقتين، الأولى ستسمح لنا أن نستنتج اليوم الحاجة إلى جعل العلوم الإنسانية ضمن أولى أولويات برامجنا التكوينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهذه المفارقة تتمثل في كون الأنظمة العربية تحكم شعوبا لا تعرفها، والمغرب لا يشكل في هذا الباب استثناء، والمفارقة الثانية هي أن الأبحاث التي قام بها المستعمر الفرنسي والإنجليزي عن المنطقة العربية أهم من الناحية العلمية من الدراسات الفردية التي تمت بعد استقلال هذه الشعوب العربية.
فمنذ إغلاق المعهد المتخصص في الدراسات الاجتماعية، والذي أسسه الراحل بول باسكون، قررت الدولة آنذاك أنها ليست في حاجة إلى معرفة شعبها، فهي تريده كما تشتهيه لا كما هو، لذلك فهي ليست مضطرة لدراسته وفهمه، ما دام تخويفه طريقا سليما لتنميطه. وقد كانت نتائج هذه الخطوة غير المحسوبة من طرف النظام كارثية في ما بعد، أهمها أن الدولة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني تجهل تماما الإنسان المغربي، ليس لأن له خصوصية متعالية، كما يعتقد العامة، بل لأن التحولات التي شهدها المغرب في العهد الجديد أثبتت أن الدولة المغربية تجهل شعبها، بل ولم تواكب هذه المرحلةَ أيُّ دراسات مؤسساتية حقيقية عن الإنسان المغربي، الذي ستتوجه إليه مختلف المبادرات، فقد أقدمت الدولة على خطوات مهمة في سبيل إشراك المواطن في مبادرات الإصلاح السياسي والحقوقي والثقافي والتنموي، ولكن المواطن أثبت أنه لا يريد المشاركة ويفضل بالمقابل التفرج على ما يحدث وانتقادَه، في نفس الوقت، بسلبية كبيرة.
فهم التحولات الاجتماعية
إن الدرس المهم هنا هو أن عدم المعرفة بالتحولات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي يعرفها المغرب يعتبر عائقا اليوم في وجه إدارة التنمية وعائقا أيضا في وجه المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها الدولة لإشراك المواطن المغربي في الحياة العامة، فمعرفة العلوم الإنسانية تُمكّن من فهم التحولات الاجتماعية وإدارتها على نحوٍ أفضل، كما تركز على تحسين الرابط بين الأبحاث وصناعة السياسات، بما في ذلك صياغة أعمال التنمية وعملياتها ومراقبتها وتقييمها ونشر نتائج الأبحاث وتقديم أفضل الممارسات وتعزيز القدرة على البناء... وهذه الرؤيا غائبة عند الدولة المغربية، بشكل مطلق.
أما الأحزاب والتنظيمات المدنية، والتي يُفترَض فيها أن تشكل بدائل في الرؤيا، فنجدها أكثر جهلا وتجاهلا للحاجة إلى العلوم الإنسانية، وهنا يصبح الوضع المأساوي أكثر بروزا، وهو أنها تصوغ ما تعتقد أنه برامج سياسية وتتوجه به لشعب تجهله، فالحزب الذي لا يقوم بدراسات علمية دورية ومنظمة لجهات المملكة، ليدرس عن قرب تحولات شخصية الإنسان المغرب في مختلف فعالياته، هو حزب يجب على قادته أن يخجلوا من أنفسهم عندما يتكلمون باسم شعب لا يعرفونه، خصوصا أن الملاحظة العفوية والتلقائية، على بساطتها، تعطي الأدلة الدامغة عن أن شخصية المغربي اليوم تختلف كثيرا عن المغربي الذي حصل على الاستقلال، أو حتى مغربي «سنوات الرصاص»، فرجل الدولة والسياسي لم يبق هو نفسُه، والاقتصادي لم يبق هو نفسُه ، والفاعل الجمعوي لم يبق هو نفسُه، فقد شمل التغيير جميع شرائح المجتمع المغربي، المربي والتلميذ، رب العمل والعامل، المثقف والأمي، المرأة والرجل، القروي والحضري، لكنْ هل نعرف ما هم عليه الآن؟ وهل يستطيع أي مثقف أو سياسي التنبؤ بما يمكن أن يقدم عليه المغربي غدا؟
كل محاولة للإجابة، بدون الاستناد إلى الدراسات العلمية حول هذا الإنسان، هي إجابات تنتمي إلى خانة المزايدات من طرف قوى المعارضة، أو تنتمي إلى خانة الأماني من طرف قوى الحكم، إذ إن هناك فراغا كبيرا وخطيرا في هذا المجال، وكدليل على هذا الفراغ هذا التسيب الموجود اليوم في مشهدنا السياسي والإعلامي والثقافي، حيث نتابع أشخاصا ذوي تكوين معرفي هزيل جدا يرفعون مطالب لمجرد «الموضة»، دون أن تكون لهم فكرة -ولو بسيطة- عما يطالبون به، ونتذكر هنا، على سبيل المثال، «مهزلة» أحد «متزعّمي» حركة «20 فبراير»، والذي سئل عن فحوى التعديلات الدستورية التي يطالب بها، فأجاب بأنه لا يعرف، ولكن المهم هو «شي دستورْ يكونْ مزيان»... وكأن صاحبنا في محل لشراء الأحذية أو الدهن الذي يضعه على شعره!...
البحث المؤسساتي في العلوم الإنسانية
لسنا نبالغ إن قلنا إن «الإعاقة» التي يعرفها المجتمع السياسي في المغرب هي تجل فقط لإعاقة عامة تشمل أيضا مجتمع المعرفة، لكون الدولة لا تهتم بالبحث العلمي، وإن اهتمت به فبالبحث في العلوم التقنية، والمفارقة هنا هي أن تولي اليسار «المتنور جدا» حقيبةَ وزارة التربية الوطنية والبحث العلمي، وخاصة من طرف وزراء هم في الأصل باحثون في العلوم الإنسانية، آخرهم أحمد اخشيشن، وهو باحث في علم التواصل (المفارقة) هي أن هذا اليسار ومنه هؤلاء الباحثون/الوزراء، لم يبذل أي جهد لتأسيس معاهد أو مؤسسات حقيقية للبحث العلمي في العلوم الإنسانية، مكتفيا بوحدات تنسب إلى العلوم الإنسانية في الجامعات، مع أن أقصى ما يقدم فيها من دروس لا يتعدى الشق النظري، في أحسن الأحوال، وقد نجد باحثين متخرجين من هذه الوحدات، بدرجة ماستر أو دكتوراه، وبدل أن يبدؤوا العمل البحثي الحقيقي فإنهم ينتهي بهم المطاف «موظفين» أو مدرسين، يصولون ويجولون باسم «علمية العلوم الإنسانية».
والسليم اليوم، حتى في ظل أدبيات الأمم المتحدة، هو ضرورة ربط العلوم الإنسانية بكل جهود التنمية، للسبب ذاته الذي طرحناه في السابق، وهو أن عدم انخراط الناس المحليين في التنمية هو إفشال لها. ولكي تكون البرامج مناسبة لهؤلاء، ينبغي على واضعيها أن يكونوا على بيّنة من الذهنيات والأعراف ومختلف الفعاليات التي ينتجها البشر الذين تتوجه إليهم هذه البرامج، فتتبادل المعلومات والمعرفة حول أبرز التحولات الاجتماعية المعاصرة عبر شبكات الأبحاث الإقليمية والخبراء والاجتماعات والمؤتمرات والمعامل والمنشورات ومنتديات النقاش، ثم تقوم بقياس تأثير هذه الأبحاث على السياسة وإدارة الدراسات المتعلقة بالسياسة وتأمين المعرفة في مبادرات التنمية ومشاطرة المعلومات حول كيفية تصميم سياسة أبحاث معتمدة.
إن هذا الوضع يجرنا إلى الحديث عن المفارقة الثانية، والتي يطرحها غياب مؤسسات بحثية متخصصة في العلوم الإنسانية في المغرب وفي العالم العربي عموما، وهي أن التراث الكولونيالي في مجال العلوم الإنسانية يظل، حتى الساعة، نموذجا لا غنى عنه اليوم لمن يريد معرفة المغرب، لذلك فمختلف الباحثين في العلوم الإنسانية في المغرب اليوم، وخاصة الباحثين في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، يؤمنون أن ما خلّفه التراث الكولونيالي في هذه المجالات هو أهم بكثير مما أنجز حتى الآن في ما بعد حصول المغرب على استقلاله السياسي. فرغم كل المآخذ التي يسجلها هؤلاء الباحثون حول الخلفية الاستعمارية الواضحة لهذه العلوم، فإن المسح العميق والشامل لتركيبة المجتمع المغربي وهياكله الاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية ومنظومته القيمية والعرفية والنتائج الضخمة التي تمخضت عن هذه العمليات هي أكبر من أن تُلقى جانبا.
فبفضل الحركات الأوربية نحو شمال إفريقيا في أواسط القرن ال19 وقبلها في الجزائر بعقدين من الزمن، استطاعت أوربا تحصيل تراكم معرفي، كمي ونوعي، مهّد الطريق نحو السوسيولوجيا الكولونيالية، إلى جانب الأبحاث والدراسات التي أنجزتها البعثات العلمية، التي تمثلت في بعض الرحالة والقادة العسكريين والسوسيولوجيين، فقد مكّن احتلال الجزائر فرنسا، بالفعل، من تطوير وتعميق معرفتها بالبلد الذي ستحتله. وقد لعبت السنوات الأولى من القرن ال20 تكوين بعثة علمية خاصة بالمغرب، بعد أقل من 30 سنة من تأسيس «مدرسة» الجزائر، وكان ذلك تحديدا سنة 1904، (لعبت) دورا هاما في السوسيولوجيا الكولونيالية.
وقبل ذلك بقليل، بدأت عمليات اكتشاف المغرب عن طريق استعمال المعرفة، إذ في هذا الجانب يعد كتاب «المغرب المجهول» لمولييراس، الذي ظهر منه الجزء الأول سنة 1895، أول بحث إثنولوجي يتناول جزءا كبيرا من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع المغربي، وهو كتاب يأتي ضمن سياسة أشرف عليها الحاكم العام في الجزائر، كامبون، الذي عُرِف عنه ميله إلى استقلال العلوم الاجتماعية في تنفيذ سياسات الاحتلال، مستفيدا من التجربة الفرنسية في الجزائر، كما يرى ذلك مجموعة من الباحثين.
كما لا يمكن تجاهل دراسة شارل دوفوكو بعنوان «Reconnaissance au Maroc»، خاصة ما تعلق منها بيهود المغرب، إذ يعدها بيرك أهم إنجاز ولو بالمقارنة مع ما تلاها، وكذا دراسة لوبلاي لحياة حرفيي طنجة (1877) ودراسة لوشاتولي حول قبائل الجنوب الغربي وغيرها...
لقد كان ميشوبلير، إضافة إلى ذلك، أول ما انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية العرب/البربر، وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لتغلغلها. وقد عرفت تلك الأطروحة أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930، كوسيلة للهيمنة الكولولونيالية. وستأخذ هذه الثنائية، ذات البعد العرقي، أبعادا أخرى في أبحاث ميشوبلير وغيره من الباحثين الكولونياليين لِما لها من نتائج عميقة ومؤثرة عندما بدأ الحديث عن «بلاد السيبة» و«بلاد المخزن» والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسة الكولونيالية لِما لها من نتائج عميقة ومؤثرة في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع .
وقد انطلق روبير مونتاني في دراساته من هذه الثنائيات التي تتحكم في النظام الاجتماعي السياسي في المغرب (1952/1893) والذي كان مشرفا على القسم السابع المتخصص في الإثنولوجيا والسوسيولوجيا المغربية، التابع لمعهد الدراسات العليا المغربية الذي حل محل البعثة العلمية سنة 1925 وقبله تحت مسمى شعبة سوسيولوجيا الشؤون الأهلية.
لقد كُلِّف روبير مونتاني من طرف الجنرال اليوطي بدراسة أصول السلطة عند القياد الكبار ودراسة القبائل المتمردة في الجنوب المغربي، وهي قبائل معروفة بتنظيماتها المميزة والمحكمة، «لكن روبير مونتاني، بخبرته، اهتم بدراسة القبائل البربرية في منطقة سوس في الجنوب المغربي وأعطانا صورة حول مسألة تداول السلطة داخل القبائل وسبل الهيمنة للحصول على الحظوة داخل المنطق القبلي التي تقود بدورها إلى التمثيل المزدوج ل«أمغار» كزعيم للقبيلة وك«قايد» يحوز على ثقة المخزن».
فمن خلال هذه اللمحة البسيطة، والتي يعرفها كل الباحثين المبتدئين في مجال العلوم الإنسانية، وخاصة السوسيولوجية منها، والتي تتناول بداية تشكل ما يعرف بالعلوم الإنسانية للمرحلة الكولونيالية، فإن ما تم إنجازه من طرف هذه الاستعمار يعد فريدا، لكونه لم يستثنِ أي منطقة في المغرب عن الدراسة، وهو ما نفتقر إليه الآن، لاسيما أن الحاجة اليوم ملحة لفهم هذا التراث، من جهة، ثم للشروع على ضوئه في فهم المغرب المعاصر، والذي لا يشك أحد في كونه أضحى أكثر تعقيدا، ديناميكيا وستاتيكيا.
العلوم الإنسانية.. التجلي الأبرز للعصر الحديث
سينكر علينا مجموعة من القراء المتخصصين تأخير الحديث عن ظروف نشأة العلوم الإنسانية، وخاصة ضرورة الحديث عن الأزمنة الحديثة، لكونها تعتبر السياق الطبيعي لظهور مباحث حولت نظرة الإنسان من الطبيعة إلى نفسه، بالشكل الذي أزاح أو على الأقل زحزح النظريات الفلسفية التقليدية عن مفهوم الإنسان، والتي كانت تقاربه بصفته نوعا له جوهر ثابت وأزلي هو النفس ناطقة، وأن فعالياته الجسدية والتاريخية والاجتماعية والنفسية والفردية مجرد أعراض وأحوال لا يستقيم النظر العلمي الحق من خلال فحصها، غير أننا أخّرنا الحديث عن الموضوع لسبب يرتبط بالتحولات التي بشهدها العالم العربي اليوم، وهي تحولات تميل، في تقدير مجموعة من المثقفين، إلى تغليب مجموعة من الأطروحات والمفاهيم المنتمية إلى الحداثة، فلامبالاة شباب الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن بفتاوى بعض الفقهاء التقليديين الذين أفتوا بتحريم التظاهر والخروج عن الإمام، هو دليل على أن النظرية التقليدية التي ترتب العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس «راع ورعية» أضحت متجاوَزة، لصالح رؤية جديدة تضرب بأصولها في العصر الحديث، ترتب العلاقة بينهما على أساس أنهما مواطن ومواطن، حق وقانون...
فالناظر في الشعارات والمطالب التي حققها التونسيون والمصريون، والتي يطالب بها الليبيون واليمنيون والبحرينيون والعمانيون واللبنانيون والعراقيون، هي مطالب تتجه في الصميم إلى جوهر الدولة الحديثة، حيث الدولة الديمقراطية والسيادة للشعب والانتخابات الحرة والتداول على السلطة، وهي مطالب في عمق الحداثة السياسية.
ما نريد التأكيد عليه هو أن هذه الثورات يمكن أن تعطي الدليل على تنبؤ كان قد قام به الأستاذ العروي قبل سنوات، مفاده أن «الحداثة هي قدَر الشعوب العربية»، فهذه الثورات يمكن بالفعل أن تحل المعادلة الصعبة التي لم يستطع العرب حلها مع الحداثة ومتطلباتها السياسية، وبالتالي فالحاجة إلى العلوم الإنسانية ستصبح أكر إلحاحا، نظرا إلى توفر المناخ الطبيعي لنشوئها، وهو دخول العالم العربي، من خلال هذه الثورات، إلى «الأزمنة الحديثة» من الأبواب الواسعة.
إن الحداثة تعتبر تحولا جذريا على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ. إنها بنية فكرية كلية، وهي تنتقل كما يعبر عن ذلك الأستاذ محمد سبيلا «كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى، إما بالإغراء والإغواء، عبر النماذج والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر، من خلال التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي، بمختلف أشكاله، إلى غير ذلك من القنوات والوسائل»، وها هي تنتقل اليوم عبر الثورة الرقمية، ليخرج الشباب ما آمنوا به في العالم الافتراضي إلى الواقع الفعلي...
وبتعبير الأستاذ سبيلا دائما، فعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية، فإنها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم، بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا، فللتقليد صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة وله طرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها، ومختلف آليات التكيف والمقاومة والصمود أنتجت سلوكيات وظواهر جديدة يمكن للباحث في العلوم الإنسانية رصدها اليوم في المجتمعات العربية، بما فيها المجتمع المغربي.
مفهوم الحداثة هو مفهوم حضاري شامل يطال كافة مستويات الوجود الإنساني، حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية، وأخرى سياسية وإدارية واجتماعية وثقافية وفلسفية... إلخ. وقد ساهمت مجموعة من المتغيرات والمرتكزات في ترسيخها، فعلى المستوى المعرفي، تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من «المعرفة» التأملية إلى المعرفة التقنية، أي معرفة عمادُها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتكميم، وهمها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة، الداخلية والخارجية، على الإنسان وعلى الطبيعة، أو بعبارة أدق إنها سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان. وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الإنسان والعلوم الإنسانية ذاتها، حين يختلط همّ المعرفة والتحرر بهمِّ السيطرة والتحكم.
الحدث الفكري الأساسي في تاريخ الفكر الغربي الحديث هو نشوء ما اصطلح على تسميته بالعصر العلمي التقني ابتداء من القرن ال17 الميلادي. ويشكل منشأ هذا العصر الجديد تحولا أساسيا في النظر إلى الطبيعة. وقد كانت هذه الأخيرة في العصور الوسطى نظاما متكاملا يتسم بنوع من التناسق الأزلي الذي يعكس الحكمة العلوية المبثوثة في كافة أرجاء الكون والمحققة لمظاهر كمالاته الروحية.
والعلاقة القائمة بين عناصر الطبيعة هي علاقات ميكانيكية وديناميكية خاضعة لقانون العلّية. ويشكل هذا القانون نقلة نوعية في فهم العلاقة بين الظواهر، لأنه ينتقل بها من مستوى التفاعلات العضوية المحمَّلة بالأسرار والألغاز إلى تفاعلات القوى والكميات القابلة للرصد والحساب، أي من التصور العضوي والغائي إلى التصور الميكانيكي والديناميكي العِلّي. وقد واكب هذا التحولَ في مجال العلم تحول في مفهوم التاريخ والزمن، فبتعبير الأستاذ سبيلا دائما، فزمن الحداثة يتميز بكونه زمنا كثيفا، ضاغطا، ومتسارع الأحداث، فهو يعاش كمادة فريدة، تتمركز حول حاضر مشرئبّ إلى الآتي، فالحاضر هو اللحظة التي يتم فيها انتظار الانتقال المتسارع إلى مستقبل مختلف كلي. وهذا الحاضر، الذي تمثله في نظر هيغل، الأنوار والثورة الفرنسية، يمثل «البزوغ الرائع للشمس»، الذي يقطع مع العالم القديم وينشئ عاملا جديدا كليا.
عصر الحداثة هو العصر الذي يختلّ فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيى بدلالة المستقبل وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضية، بل يستمد معياريته من ذاته.
يتميز فكر الحداثة وثقافة الحداثة بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية. ففي مجال المعرفة، أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات، وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر، «الكوجيتو».
المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل وينسب إليه العقل الشفاف والإرادة الحرة والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ، فهو في نفس الوقت يكشف، بجلاء، عن مكونات وضعه البشري ومحدداته العضوية الغريزية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية...).
وبتعبير الأستاذ سبيلا، تلتقي النظرة الحداثية إلى الإنسان، من حيث هي إضفاء صبغة طبيعية على الإنسان، بإضفاء صبغة تاريخية على الطبيعة وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ. وتنخرط الفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية والاجتماعية في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية إلى الأنثروبولوجيا الإحيائية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى العلوم السلوكية المعاصرة...



العلوم الانسانية تفضح الروابط العميقة بين أحداث تبدو متباعدة
هذه الأحداث والوقائع، المتنوعة والمشتتة في المكان والزمان، والتي أدرجها المؤرخون باكرا ضمن عهد تاريخي جديد هو «العصور الحديثة»، هي في الظاهر أحداث لا رابط بينها، باستثناء عملية إدراجها ونظمها داخل تصنيف زمني للعصور. وأول مفكر وعى بشكل واضح الروابط العميقة بين هذه الأحداث واستشعر جدتها الكلية، بالقياس إلى ما سبقها، بل فطن إلى الدلالات الفلسفية المشترَكة بين هذه الأحداث المتناثرة هو الفيلسوف الألماني هيغل، لذا كان يتعين على الإنسان الحديث الوقوف عند مختلف التحولات الاجتماعية والقيمية والنفسية والاقتصادية، فالمجتمع الحديث يوفر شروط تحرر الفرد من الروابط والإكراهات التقليدية المتوارَثة ويطرح أمامه طيفا أكبر من الاختيارات وقسطا أكبر من الحريات، وإن كان يعود ليولد وسائل وآليات لضبط هذه الحريات ولإدماجها و»ترويضها»، خدمة لنسقه الخاص، إلا أن السمة الأساسية الغالبة لدينامية الحداثة في هذا الباب هي توفير شروط استقلالية أكبر للفرد ولوعيه بذاته وبمسؤوليته ولتمتعه بقسط أكبر من حرية الاختيار. وهذا الشرط السوسيولوجي الأساسي لانبثاق الفرد الحر المسؤول هو القاعدة التي ينبني عليها مفهوم الفرد كذات فاعلة (Sujet) في كل المجالات، وخاصة في المجال السياسي كمواطن فاعل وذي حقوق (Sujet de droits).
خلاصات مهمة
أدى تهميش البحث المؤسساتي في العلوم الإنسانية في المغرب إلى فقدان هذه العلوم أهميتها بين أفراد المجتمع المغربي، بدليل أن أضعف التلاميذ هم الذين يختارون هذا التوجه في التعليم الثانوي، وتتجلى خطورة هذا التهميش في إقفال أبواب الفكر الحر والنقد الذي يلعب دورا بالغا في دفع مسيرة المجتمعات وتحضرها، وقد يقودنا إهمال هذه التخصصات إلى حالة من الجمود الاجتماعي وإلى عدم مسايرة التطورات المادية التي تعيشها بلادنا، مما يجعل حياة المجتمع أكثر تعقيدا، بسبب أن الفرد، عضو المجتمع، قد يجد نفسه محاطا من جميع النواحي بعناصر الحضارة المادية، إلا أنه غير مهيأ فكريا للتعامل معها بشكل إيجابي، مما يفقده فرصة الاستفادة الحقيقية من هذه الحضارة المادية، بل قد يلجأ في بعض الأحيان إلى اتخاذ موقف عدائي من بعض العناصر المكونة للحضارة المادية المعاصرة من حوله.
العلوم الإنسانية هي المجال الوحيد الذي يستطيع شرح وتفسير الظواهر الإنسانية حول الفرد والمجتمع والبيئة ودراسة العلاقات البشرية والتفاعل المجتمعي، فضلا على أنها تحمل الفكر الفلسفي والسوسيولوجي الذي يتطرق إلى المواضيع الحساسة في حياة الشعوب، ويعبر أصحابها عن إرادة الشعوب وتذكي لديهم حب الاستطلاع وتدفعهم نحو الاهتمام بقضايا الحرية وحقوق الإنسان وتشجيع ممارسة النقد وإثارة التساؤلات حول العادات والتقاليد التي يشكل البعض منها حجر عثرة في سبيل تطور المجتمعات وتقدمها، وهي التي تثير التساؤلات حول أوضاع المجتمع وتستثير فيهم روح الإبداع والبحث عن الحلول والمبادرة في التفكير النقدي في أوضاع المجتمع.
لا تقل حاجة المجتمعات إلى العلوم الإنسانية عن حاجتها إلى العلوم الأخرى بأي شكل، نظرا إلى أن العلوم الإنسانية هي التي يقع على كاهلها عبء تنمية الإنسان والمجتمع على وجه الخصوص ومواجهة المشكلات الاجتماعية التي سوف تتضاعف مع التغير المادي السريع الذي يشهده المجتمع المغربي، والذي يأتي مصحوبا بانفتاح إعلامي، بطريقة غير مسبوقة، يجعلنا في حاجة ملحة إلى المئات من الحاصلين على أعلى الشهادات في تخصصات العلوم الإنسانية. وزيادة على ذلك، نجد العلوم الإنسانية هي التي تملك الجرأة في نقد وتحليل الواقع، من خلال إثارة التساؤلات وإخضاع الظواهر والحقائق الاجتماعية للمنطق وجعلها في متناول العقل البشري، كما حدث في أوربا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.