يخرج جورج بوش من البيت الأبيض وقد خلف وراءه أمة مفلسة ومأزومة ليس في المجال الاقتصادي فحسب ولكن أيضا على كافة الأصعدة الأخرى، فحينما تسلم قيادة الولاياتالمتحدة في عام 2000 كانت في أوج قوتها ونفوذها العسكري والاقتصادي والسياسي، حيث انتهت الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية التسعينيات وتفردت الولاياتالمتحدة بقيادة العالم وإدارته والسيطرة على الكثير من خيراته. لكن بوش يخرج من البيت الأبيض نهاية عام 2008 والعلاقة الأمريكية مأزومة مع معظم أنحاء العالم فالاتحاد السوفياتي بدأ ينتفض ويوجه انتقادات حادة للسياسية الأمريكية، كما أن الأوروبيين، الحلفاء التقليديين للأمريكيين، بدؤوا ينتقدون السياسة الأمريكية بشكل علني وحملوا بوش وإدارته المسؤولية عن الانهيار الاقتصادي الذي يواجهه العالم والكساد الذي بدأ يخيم للمرة الأولى على منطقة اليورو. وكان الانتقاد الفرنسي والألماني والإيطالي واضحا للإدارة الأمريكية وربما هي المرة الأولى التي توجه فيها مثل هذه الانتقادات بشكل علني من طرف الأوروبيين للإدارة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد أدى هذا إلى تراجع التأثير الأمريكي على القرار الدولي، وقامت أطراف عديدة بمحاولات لملء الفراغ الأمريكي وهي نفس السياسة التي قامت بها الولاياتالمتحدة لملء الفراغ محل النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، الآن تقوم قوى وأطراف عديدة لملء الفراغ الأمريكي في أماكن عديدة، ولعل ما يحدث في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وتحديدا في دول أمريكا الجنوبية من تحد واضح للسياسة الأمريكية، وبناء كيانات اقتصادية وتحالفات سياسية يقودها الرئيس الفنزويلي شافيز، يعتبر التحدي الأكبر للنفوذ الأمريكي في القارة الجنوبية الذي امتد على مدى قرن أو أكثر، حيث كانت الولاياتالمتحدة تقوم بتغيير الرؤساء كما تشاء، فقد تم تغيير نورييجا رئيس بنما بل والقبض عليه وسجنه في الولاياتالمتحدة كما قامت الولاياتالمتحدة بدعم معظم القادة المتسلطين الذين أقاموا أنظمة قمعية استبدادية في معظم دول أمريكا الجنوبية طوال العقود الماضية، لكنها الآن عاجزة عن زحزحة معظم رؤساء دول أمريكا الجنوبية الذين يجهرون بالمناوءة لها رغم محاولاتها حتى عن طريق الانقلابات العسكرية. ولعل هذا الضعف أمام هذه الدول شجع دولا أخرى على أن تمرغ أنف أمريكا في التراب، مثل إيران التي تعتبر حتى الآن قد نجحت إلى حد كبير من حيث الشكل على أن تتغلب على الضغوط الأمريكية وتواصل برنامجها النووي رغم التهديدات الأمريكية. كما أن فشل إدارة بوش على مدى ثماني سنوات في المضي ولو بخطوة واحدة في مسيرة التسوية للقضية الفلسطينية وتعاظم نفوذ حركة حماس بل وسيطرتها على قطاع غزة، رغم إنفاق مئات الملايين من الدولارات من قبل الولاياتالمتحدة وحلفائها على الأجهزة الأمنية التي انهارت خلال ساعات أمام مقاتلي حماس، كل هذا جعل الموقف الأمريكي ضعيفا في التأثير على القرار، رغم ما يقرب من عشرين رحلة قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس ومن قبلها وزير الخارجية كولن باول للمنطقة، إلا أنهم عجزوا عن زحزحة الوضع ولو قيد أنملة، بل إن الولاياتالمتحدة وإسرائيل وحلفائهم في السلطة قد خسروا الكثير رغم النفقات الباهظة والحصار المضروب على غزة. وفي إفريقيا هناك حرب خفية بين الولاياتالمتحدة والصين على مناطق النفوذ من أجل النفط، بدءا من السودان الذي تستخرج أكثر من ثمانين في المائة من نفطه شركات صينية إلى غرب القارة في خليج غينيا حيث تقوم الصين بتقديم المساعدات وبناء الطرق والجسور وشق الأنفاق لمساعدة هذه الدول على النمو في مقابل السماح للصينيين بموطئ قدم في إفريقيا. وقد فشلت الولاياتالمتحدة فشلا ذريعا في أن تجد دولة إفريقية واحدة من كل حلفائها تقبل بوجود قيادة «أفريكوم»، وهو الإدارة العسكرية الجديدة التي شكلتها للقارة الإفريقية على أرضها، حيث كانت إفريقيا قبل ذلك تتبع للقيادة الأمريكية الوسطى، رغم أنها تقوم بعمليات تدريب كبيرة للجيوش والقوات الخاصة في أكثر من عشرين دولة إفريقية، وهذا يعني أن الوجود الأمريكي في القارة ليس مرحبا به بالشكل الذي كانت تترقبه الإدارة الأمريكية. فالخوف من الولاياتالمتحدة بدأ يتلاشى مع فشلها العسكري في أفغانستان والعراق، وقرار الناخبين في أمريكا الجنوبية باختيار أنظمة حكم مناوئة للإدارة الأمريكية، واعتذار الدول الإفريقية الحليفة كلها عن استضافة مقر «أفريكوم» وجرأة أوروبا وانتقادها لأمريكا وسياسة إدارتها، ولم يقف الأمر عند حد الحكومات وإنما وصل إلى الشعوب التي أصبحت وفق استطلاعات كثيرة تنظر بشكل سلبي إلى الولاياتالمتحدة، فالألمان على سبيل المثال تغيرت نظرتهم الإيجابية للولايات المتحدة بشكل كبير، ففي عام 2000 أجري استطلاع أبدى فيه 80% من المشاركين الألمان نظرة إيجابية للولايات المتحدة، لكن استطلاعا آخر أجري في عام 2007 انخفضت فيه النسبة إلى 30% فقط، وفي تركيا النظرة الإيجابية للولايات المتحدة لا تتجاوز 2% وفي مصر 20% واليابان 11%، هذه أرقام العام 2007 ومن المؤكد أنها انخفضت بشكل كبير في نهاية عام 2008، إنه ميراث مضطرب لإمبراطورية مضطربة أخذت طريقها إلى الأفول لأن سنن الكون غلابة ومن يغالب الله يغلب... ولو بعد حين.