يوسف الحلوي في شخص أبي المحاسن يجتمع العالم والزاهد والمجاهد، ففي العلم كان منارة عصره وإليه كان يفزع الناس فيما أشكل عليهم من قضايا المنطق والفلسفة والتوحيد وغير ذلك من العلوم، وفي الزهد كان مضرب الأمثال، ويكفيه فخرا أن يخطب وده الملوك ذوو التيجان فينأى بنفسه عن مخالطتهم، وأما الجهاد فإن يكن من فضل لعلماء المغرب في دحر النصارى في وادي المخازن فقد حاز أبو المحاسن معظمه، ولا نغلو إذا قلنا إنه أحد ركائز النصر في هذه المعركة التي حفظت للمغرب هيبته بين الأمم قرونا مديدة وأعادت إلى الأذهان ذكرى الزلاقة والأرك حتى إذا انصرف الناس إلى جمع الغنائم انصرف أبو المحاسن عنهم غير آبه بدنياهم فكان كما قال عنترة : ينبئك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم ولد يوسف بن محمد الفاسي المعروف بأبي المحاسن عام 937ه بالقصر الكبير وبه حفظ القرآن بقراءة نافع عن أبي الحسن علي العربي، وتتلمذ لأبي زيد عبد الرحمان بن محمد الخباز وعليه قرأ رسالة أبي محمد بن أبي زيد وألفية ابن مالك ثم رحل رفقة والده إلى مدينة فاس فجالس أفاضل علمائها وأخذ عنهم، كأبي عبد الله اليسينتي، وعبد الوهاب بن محمد الزقاق، وعبد الرحمان بن إبراهيم الدكالي وغيرهم، فلما تحصل من علوم الشرع على بغيته عاد إلى القصر الكبير معلما ومرشدا، فقصده الناس زرافات ووحدانا وعكف على التدريس عشرين عاما تخرج فيها على يديه جمع غفير من أهل العلم. ومما يروى عنه في تلك الفترة أنه نذر نفسه لتدريس الناس وكان يستنكف من قبول أجرة نظير ذلك فحظي بإكبار أهل القصر وإجلالهم وقد رضي من الدنيا بالفتات فلم يكن في قلبه تعلق بها، وقد قال ولده في وصفه : «كان الشيخ ذا سمت حسن وأنس حاضر وهيبة ظاهرة... تارك لما فيه الشهرة والتمييز من الخلق في اللباس وغيره، صارفا لهمته في مصالح الخلق ومنافعهم الحسية والمعنوية..». حظي أبو المحاسن بثناء الشعراء ممن كانت لهم به صلة وقيلت في مدحه المطولات ننتقي منها أبياتا لأبي العباس أحمد بن محمد اليلصوتي جاء فيها : ضحك الزمان وحف بالأعراس من بعدما كان في إبلاس وافتر عن آقاحه مستبشرا بطلوع شمس الدين أعني الفاسي ذاك الذي خضعت فحول زمانه في الشرق والغرب وفي الأرماس كم سنة قد شاد بعد دروسها وغدت بكف يديه كالمقباس والبدعة الشنعاء هد منارها ولطالما قد خيمت في الناس ولا عجب أن يتبارى الشعراء في مدحه، فقد كان في مدينة القصر سلطانا على الحقيقة، ملك قلوب الناس بحرصه على قضاء حوائجهم فانقادوا له. ومما يروى عنه أن أهل نقيب الأشراف أبي العباس أحمد بن عبد الله الشريف تشفعوا به في إطلاق سراح أبي العباس فسار إلى صاحب القصر عبد الكريم بن رح بن تودة، ولم يدر إلا وجمع غفير من ساكنة القصر تسير خلفه في موكب مهيب، فلما لقي القائد عبد الكريم وعرف منه حاجته أطلق سراح النقيب وكافة السجناء إكراما لأبي المحاسن. وقد راسله المنصور الذهبي يوما يلتمس منه تدارك أمر المسلمين بعدما لاحت له بوادر الفتنة بعد خروج ولده الشيخ المأمون عليه، وكان مما جاء في رسالته «إن جمعتني بهذا الولد فقد فعلت فيّ وفي المسلمين جميلا لم يفعله غيرك، وإلا فلا لوم إلا على القادر» فسار أبو المحاسن إلى ولد السلطان فرجع به إلى صف والده وحقن دماء المسلمين، وهذه الأحداث وغيرها كثيرٌ تدل على أن أبا المحاسن كان يحتل مكانة مرموقة في دولة المنصور الذهبي رغم إعراضه عن الالتحاق ببلاط المنصور بل ورفضه لصلاته وعطاياه، فسلطته مستمدة من علمه وزهده وورعه وهو ما يقر به المنصور نفسه حين يستنجد به في مدلهمات الأمور. ويروى أن السلطان بعث إليه بحاجبه علي بن عزوز يلتمس منه إيفاد ولده ليصير قيما على مكتبة القرويين بفاس فأبى وقال لولده : «ما كرهت لكم مطالعة الكتب والاستفادة منها ولكني كرهت لكم عملا يحوجكم إلى الوقوف بباب السلطان». عرف عن الشيخ أبي المحاسن كرمه وسخاؤه ومساعدته للمحتاجين، يقول الإمام أبو حامد محمد العربي في «مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن» : «وكان يعول ديارا كثيرة ويقوم بمؤونتها من الأيتام والضعفاء والمساكين والمتفرغين للعبادة أو لطلب العلم، ويعين كثيرا منهم بحسب الحاجة والإمكان، يعظم عنده المعروف ولا يزال يراه لفاعله». ولما طرق مسامعه نبأ عبور جيش سباستيان بمعية المتوكل إلى عدوة المغرب، ترك الشيخ مجالس العلم ونزع عنه ملابس الزهاد ولبس للحرب لباسها وتهيأ للطعان كما يجدر بالفرسان، وجعل يحرض الناس ويجمع شملهم على مدافعة عدوهم فاجتمع إليه خلق كثير قبل وصول الجيش النظامي بقيادة المعتصم والمنصور الذهبي، وقد أسندت إليه مهمة قيادة ميسرة الجيش فصمد صمود الأبطال وثبت ثبوت الجبال الرواسي، ولما انجلى غبار المعركة انصرف أبو المحاسن إلى حاله كأن لم يكن واحدا من صانعي نصر وادي المخازن المؤزر. يقول أبو حامد «وقد قال الشيخ أبو عبد الله المراق كنت أفتيت بأخذ المجاهد من الغنيمة قدر حقه لقلة الاهتبال لجمع الغنائم وقسمها، وما كان أحد وافقني على ذلك إلى أن وجدت النص بما أفتيت به في نوازل البرزلي فكان يمكن أخذ القدر الذي يتحقق أنه يجعل له لو قسمت، لكن الشيخ ترك ذلك ورعا وزهدا فيه». ومن غرائب إقبال الناس على أبي المحاسن أنه لما ترك القصر إلى مدينة فاس اغتم أهل القصر وقضوا في العويل والبكاء أياما بلياليها، فلما أمضى بفاس ردحا من الزمن ورجع إلى أحبته في القصر متعهدا خرجوا إليه عن بكرة أبيهم وتمسكوا به يرجونه العودة فبلغ خبر ذلك إلى أهل فاس فوفدوا على قاضي الجماعة الحميدي فأرسل إلى القصر برسالة يلتمس من أهله أن يخلوا بين أبي المحاسن وبين العودة إلى فاس ومما جاء فيها : «فقد بلغنا ما فعلتم مع السيد المعظم العالم العَلَم، الفقيه البركة سيدي يوسف بن محمد، وإنه جاءكم زائرا لتجديد العهد، ثم إنكم اجتمعتم عليه بأهلكم وصبيانكم وسائر المحاضر وتوسلتم له أن يرجع إليكم راجلا بأهله وأولاده وتطلبون منه المحال فهذا أمر لا يحل بكم... لأنه قاطن بين أظهرنا ومن جملتنا ومتعهد لتعليم العلم، وقد دعت إليه الحاجة في هذه الحاضرة التي هي أم القرى ومنبع العلم... فلا نسمح برحيله أصلا ولا يخطر لكم ببال» ثم انهمرت بعد ذلك على القصر رسائل أعيان فاس فتركوه على مضض. تتلمذ للشيخ جمع من علماء فاس كما أسلفنا، ومن هؤلاء أبو العباس أحمد بن أبي العافية المكناسي وأبو محمد عبد العزيز ابن القاضي وعبد العزيز بن إبراهيم الدكالي، وكان بفاس قد تخصص في تدريس الحديث والتفسير فظل عاكفا على ذلك إلى أن توفي بها عام 1013ه حيث دفن بمقبرة باب الفتوح موصيا أصحابه بألا يبنوا على قبره لحاجة المسلمين للمال الذي سينفق على هذا البناء.