يوسف الحلوي يعد محمد بن أحمد أكنسوس واحدا من أهم مؤرخي الدولة العلوية، ولأن الشيء بالشيء يذكر، نذكر مؤرخا آخر معاصرا له لا يقل باعا عنه في خدمة التاريخ هو صاحب الترجمانة الكبرى، أبو القاسم الزياني، وقد انتبه الزياني إلى ذكاء وفطنة أكنسوس مبكرا فبشر به في «الروضة السليمانية» رفقة رفيق دربه ابن إدريس واليازغي كخلفاء لحمدون بن الحاج والحوات في البلاط الملكي. إن أكنسوس حلقة في سلسلة طويلة متينة الترابط من علماء المغرب الأفذاذ، والحق أن نسيبه في تخصصه وفي معاناته من عوادي الزمن ومن يمثل أكنسوس امتدادا له في صيانة ميراث الأجداد ومجدهم الأثيل ليس غير المؤرخ الزياني الذي جمعه به الشغف بعلم التاريخ وفرقهما المشرب الصوفي، حيث كان أكنسوس تيجانيا حين كان الزياني خصما للتيجاني متحاملا على طريقته، وإذا كان أكنسوس قد كال لأبي القاسم ما شاء له الله أن يكيل من ضروب الازدراء وألوان الاحتقار في كتاب «الجيش العرمرم الخماسي» حتى وصفه بالجاهل والأحمق، فإن ذلك لم يمنعه من الاستمداد من مؤلفات الزياني والإحالة على صاحبها. وقد كُتب لأكنسوس أن يعيش خمسة وأربعين عاما بعد وفاة أبي القاسم، فأضاف لتاريخه حقبة لم يسعفه الزمن في مواكبة أحداثها فقَدرُ الخلف إتمامُ مسيرة السلف، ذلك هو درس التاريخ الذي يطل علينا به من بوابة الزمن «أكنسوس». ولد أبو عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس بقبيلة أيدا وكنسوس وهي قبيلة سوسية تقع في الجنوب المغربي، وكانت ولادته عام 1796م في بيت يتصل نسبه بجعفر بن أبي طالب عرف أهله بالصلاح، يقول محمد الراضي كنون في ترجمة أكنسوس : «ولم تمض سنوات قلائل على ولادة أكنسوس حتى توفي أبوه فبقي مع أمه فريدا لا إخوة له، حاول أهله صرفه في مصالحهم الدنيوية من حرث ورعي وغير ذلك مما يتنافى مع ميوله وطموحه، إذ كانت نفسه تواقة إلى القراءة والمعارف اقتداء بسلفه»، وهكذا التحق أكنسوس بالزاوية الناصرية بتمجروت تلبية لنداء مطامحه فحفظ بها القرآن وأمهات المتون وهو دون العشرين من العمر، فلما أتم ذلك ارتحل إلى فاس واتصل بكبار علماء عصره وتتلمذ لهم ومن هؤلاء حمدون بن الحاج، ومحمد بن عامر التادلي، وأحمد بن التاودي بن سودة، وابن منصور الشفشاوني وغيرهم، فضرب في علوم عصره بسهم مصيب وحاز منها أوفر نصيب، فلا عجب بعد ذلك أن يبرع في التاريخ والبلاغة والتوقيت، فإن النبوغ كالعدوى سرعان ما تسري من أهل العلم إلى طلبتهم، وأولئك كانوا خاصة السلطان يشيرون عليه حين يستشيرهم ويعكفون على إعداد قادة الأمة بجامعة القرويين في سائر الوقت، ولمن أمعن النظر في مهامهم تلك أن يدرك أن العلم والسياسة يومها كانا متلازمين يفيد أحدهما من الآخر ويغذيه. اتصل أكنسوس بالزياني في أيام الطلب فكان عونا له على اقتحام غمار السياسة، والغالب في ذلك العهد أن النوابغ لا يحال بينهم ويبن البلاط، فالسلطان دائم الاتصال بالقرويين متتبع لسير حلقات شيوخها فمن حظي بتزكيتهم التحق بركب السلطان دون عناء، ولا بد أن أكنسوس استفاد من ذيوع صيته كطالب لفت انتباه علماء القرويين بذكائه وفطنته ومن تزكية حمدون بن الحاج بين يدي السلطان ومن اتصاله بالزياني صاحب المكانة المرموقة. كانت الاضطرابات السياسية تعم أرجاء المغرب في أواخر عهد السلطان أبي الربيع سليمان، إذ ثار عليه أهل الشراردة وخرج عليه سكان فاسوتطوان بإيعاز من شيوخ الزوايا، فوجد أكنسوس نفسه محاصرا بفاس بسبب ولائه لأبي الربيع، غير أن السلطان سيمهد له سبل الالتحاق به، يقول عبد الله كنون: «فوُجِّه إليه كتاب السلطان مع من تسور السور ليلا واحتال هو في الخروج وركب الصعب والذلول إلى أن وصل عند السلطان فوجده بالقرب من القصر الكبير قاصدا تطوان لإخضاعها». إن اتصال أبي الربيع بأكنسوس على هذا النحو يدل على أنه احتل مكانة خطيرة في دولته كما يدل على أن أكنسوس ظل مخلصا لأبي الربيع وهو الإخلاص الذي سيدفع ثمنه غاليا بعد حين. كان من أحداث التاريخ ما هو معلوم من تنحي أبي الربيع عن الحكم وتولي ابن أخيه عبد الرحمان بن هشام، ولمكانة أكنسوس من أبي الربيع صار هدفا لسهام الحاسدين فسرعان ما سعوا به لدى السلطان عبد الرحمان واتخذوا من مداخلته لأبناء أبي الربيع ذريعة للادعاء بأنه يخطط للانقضاض على ملك عبد الرحمان، ويحكي عبد الله كنون أن السلطان سجنه ثم أشخصه إلى مراكش مغضوبا عليه. وإذا كانت قصة تنكُّرِ حاشية السلطان له ثابتة يعضدها قول أكنسوس نفسه حين يروي حكاية قدومه على السلطان عبد الرحمان : «فلما خرجت من عند السلطان وجدت الأحوال التي كنت أعرفها قد تبدلت والأقوام قد تنكرت، وكان قدومي ودخولي على السلطان وفرحه بي قذى في عيونهم وشجا في حلوقهم وصدورهم»، فإن قصة سجنه التي حكاها كنون في ذكريات مشاهير رجال المغرب لا تثبت. يقول محمد الراضي في «ترجمة معلمة معالم سوس» : «لما بويع مولاي عبد الرحمان بن هشام بوصية من عمه عرض على أكنسوس الاستمرار في الوظيفة الوزارية فامتنع ورفض». فالتوجه إلى مراكش لم يكن بعد سجن أو غضبة ملكية بل كان بمحض إرادة أكنسوس الذي مل من مكائد الحاسدين، يقول أكنسوس : «فلما خلوت مع نفسي ظهر لي أنه لا يمكنني معاشرة هذه الدائرة المتواطئة على بغضي وعداوتي». وهكذا انقطع ما بينه وبين السياسة فانصرف إلى مراكش بحثا عن ذاته زاهدا في الدنيا ومتاعها، وقد لقيه السلطان بمراكش لاحقا فأنكره إذ وجد أمامه رجلا غير الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في ما مضى من أيامه، فحاول استنقاذه من دنيا الزهد إلى عالم السلطان فأبى، ولا عجب أن يستغرب كل منهما موقف صاحبه. فالسلطان يرى أن الأمر والنهي والتقلب في نعماء القصر أعظم مُتَع الدنيا، وأكنسوس الذي خبر حلاوة الزهد ينعمُ في شقاء الزهدِ نعمة لا تعدلها كل نعم الكون، وتمسك أكنسوس بموقفه فعزم عليه السلطان أن يضطلع بأمور الفتيا وتدريس أولاد الأمراء فقبل على مضض. شيد أكنسوس بمراكش زاوية صارت منارة للعلم في عهده ومحجّا للفقراء وعابري السبيل، وبها اعتكف على التدريس والتأليف فبلغ فيهما شأنا عظيما. وإذا كان أكنسوس اشتهر بين الناس بكونه مؤرخا فالحق أنه عالم موسوعي طرق مختلف مجالات عصره، فله أبحاث في الفلك والكيمياء ونُقل عنه أنه برع في الرياضيات ناهيك عن نبوغه في الشعر والفقه والأدب واللغة بما في ذلك اللغات الأجنبية . خلف أكنسوس العديد من المؤلفات في مختلف العلوم منها «البديع في علم التعديل» و»خمائل الورد والنسرين في وزارة بني عشرين» و»الجيش العرمرم الخماسي»، وقد أشار ولده إلى أنه عثر على كتاب له في علم الكيمياء ضمن أوراقه، كما ذكر أحمد بن يوسف الكنسوسي أنه عثر على آلة من اختراعه بزاويته بمراكش وقال في ذلك : «ترك أبو عبد الله آلة اخترعها في التوقيت على شكل الربع المجيب فيها خطوط وأرقام حسابية»، وأما جهوده في التحقيق فيكفي أن نذكر أنه اعتكف بزاويته سنتين على تحقيق القاموس المحيط للفيروز آبادي، ففي ذلك دلالة عظيمة على أنه صرف جانبا من اهتمامه للعناية بالموروث الثقافي لأمته. ويشهد معاصروه أنه لم ير مثل نفسه ولم يروا مثله قط في نظم الشعر وإجادة الترسل، ومن شعره : ياليت شعري والأيام شيمتها تمنع وضمير الغيب مجهول هل من وفاء بعهد من أحبتنا والوعد عند حسان الدل ممطول انكب أكنسوس زمنا غير يسير على التأليف والتدريس بزاويته كما أسلفنا فذاع صيتها وتحولت لما يشبه الأكاديمية المتعددة الاختصاصات يقول محمد الراضي: «كانت هذه الزاوية مختبرا للتجارب الرياضية والفلكية» وبهذه الزاوية أمضى بقية عمره بعد اعتزاله للسياسة إلى أن فقد بصره سنتين قبل وفاته فلزم بيته غير متبرم من محنته ولا متسخط على قدره إذ روي أنه فرح لما فقد بصره لأنه سيعفى من الفتيا. توفي أكنسوس عام 1877م مخلفا ولدين اشتهر أحدهما بالشعر وبرع الثاني في علم الفلك غير أن ميراثه العلمي تعرض للإهمال والضياع فظنت الأجيال التي اطلعت على شيء من بنات أفكاره أنه لم يحسن غير التاريخ من حيث كان بحرا لا يعرف له ساحل في شتى العلوم.