تطورات الحراك السياسي والأمني العربي الناجم عن انطلاق ربيع الثورات تفرض إعادة نظر في مصطلحات كثيرة من بينها «التغيير» و«حق تقرير المصير» و«الديمقراطية» وغيرها مما يرفعه المشاركون في هذه الحراكات وما تحتويه أدبياتهم. ولكن مصطح «الثورة» ربما يكون الأهم الذي يحتاج إلى إعادة قراءة، بعيدا عن الاستعمالات التي قد لا تطابق المعاني السائدة لها. وما أكثر التعريفات التي طرحت للثورة، ويكفي البحث عنها في الشبكة العنكبوتية ليمكن استيعاب الكم الهائل من الاهتمام به، خصوصا في العامين الأخيرين. وفي القرن الماضي كان المصطلح أكثر استعمالا في الأدبيات اليسارية التي كثرت بعد الثورة الشيوعية في روسيا في 1917. وشهد نصف القرن الماضي صراعا فكريا وأدبيا ملازما للحرب الباردة، كان مصطلح الثورة حاضرا فيه بقوة. ولكن في العقود الثلاثة الأخيرة أصبح هناك حذر شديد من استعمال ذلك المصطلح في الإطار العربي لأسباب ثلاثة أساسية: أولها، ارتباط المصطلح بالثورة الإسلامية الإيرانية والجهود الغربية غير المحدودة لمنع انتشار ظاهرتها في الدول العربية، خصوصا تلك المرتبطة بالمشروع الأمريكي؛ ثانيها، حالة القمع التي هيمنت على الوضع العربي واستهدفت من يسعى إلى التغيير، حتى اكتظت السجون بالمعتقلين السياسيين، وأصبح مصطلح الثورة مرادفا لتهمة «السعي إلى إسقاط النظام»، وهي التهمة الأخطر التي كثيرا ما وجهت إلى دعاة الإصلاح والتغيير في دول المنطقة العربية؛ ثالثها، أن هيمنة الثقافة الأمريكية أقامت حواجز بين الشباب ومفاهيم التغيير. وعندما لاحت بوادر تشير إلى احتمال تبلور مشاريع تغييرية في العديد من البلدان انطلقت ظاهرة العنف المسلح على أشدها التي ساهمت في تهميش التحول السياسي المنشود عن طريق الثورة الجماهيرية السلمية. منذ انطلاق ما أطلق على تسميته «الربيع العربي» شاع استعمال مصطلح الثورة، خصوصا بعد أن تجسد الحراك الشعبي في أوضح صوره في كل من تونس ومصر في الأسابيع الأولى بعد استشهاد الشاب التونسي محمد بوعزيزي. فجأة، ظهر الحماس الشبابي للتغيير بدون إنذار سابق، فإذا شباب الأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، الذي كان تحت تخدير ثقافة الاستهلاك والتمييع والإقصاء السياسي، يتحول إلى بركان ثوري يطيح بأعتى العروش. يمكن القول إن مصطلح الثورة استعمل على نطاق واسع آنذاك، وكانت مشاهد الجماهير في شارع «بورقيبة» التونسي أو ميدان التحرير في مصر مصداقا لمفاهيم الثورة الشعبية. وفي غياب الجهات الحزبية المنظمة للمظاهرات العارمة التي استحوذت على اهتمام العالم، حظي المصطلح بمصداقية أكبر. هذه المصداقية تبلورت للمرة الأولى بعد عقود من محاولات منع رياح التغيير التي كانت متوقعة بعد الإطاحة بأكبر نظام حليف للولايات المتحدةالأمريكية في المنطقة في 1979 وأدت إلى امتداد «الثورة» إلى العديد من الدول، أولاها البحرين ثم اليمن ثم ليبيا. وجاءت الثورة في سورية متأخرة قليلا عن البقية. أيا كان الأمر، فإن انتشار ظاهرة الحضور الشعبي في الشوارع الرئيسية للعديد من عواصم الدول العربية أصبح ظاهرة مرعبة لأعداء الثورة والتغيير. واستعمل مصطلح «تسونامي» التغيير لوصف الانتشار الثوري الذي باغت السياسات الغربية والمحلية ووضع القوى التي كانت تمثل سدا منيعا ضد محاولات الثورة والتغيير في العالم العربي في مواقع دفاعية عاجزة عن صد ذلك الحراك الذي كانت له مصاديق في أكثر الدول العربية في النصف الأول من العام الماضي. الثورة كانت العنوان الأوسع الذي يجمع هذه الحراكات، ولم تكن هناك قوة قادرة على تحجيمها أو احتوائها أو وقف انتشارها. ولكن تغير الموقف الأمريكي بشكل مفاجئ، من التصدي لتلك الثورات إلى احتضانها، أربك المشهد بشكل جوهري وحوّل الظاهرة الثورية إلى تطور ليس مثيرا للجدل فحسب بل مقلقا للكثيرين. وبالإضافة إلى التشويش على المفاهيم الراسخة في عقول الأجيال المناضلة طوال نصف القرن الماضي، صاحب اقتحام أمريكا مسار الثورات كافة مساوئ السياسة الغربية في المنطقة: العنف، تهميش دور الجماهير، تخويف الناس من المستقبل، تعظيم الغرب وقوته العسكرية لدى الجماهير، تشطير المجتمع وفق خطوط الانتماء الإيديولوجي والعرقي والديني والمذهبي، ووفق الولاء أو العداء للمشروع الغربي وترويج التطبيع مع العدو الصهيوني. في ظل هذه الفسيفساء الفكرية والنفسية، أصبحت أمرا مطلوبا إعادةُ قراءة مفاهيم «الثورة» ليتم استيضاح ما يجري في الساحة العربية في ضوء ذلك. وربما تساهم هذه القراءة في إعادة التوازن للتوجهات التي تعمقت لدى المتحمسين للتغيير ووقف انزلاقها لكي لا تكون مطية للمشروع الغربي الصهيوني. وربما من أكبر الظواهر مفاجأة، الغياب الكامل للنخبة المثقفة التي طالما روجت للثورة وسعت لطمس معوقاتها، خصوصا ما يرتبط بالتمايز العرقي أو الديني أو المذهبي. وربما الأكثر غرابة ما يبدو من استعداد لدى قطاعات مثقفة، ليبرالية وإسلامية وربما محسوبة على اليسار، للسير ضمن المشروع الغربي-الصهيوني تحت ضغوط الواقع السياسي والأمني، والتخلي عن النقاء الإيديولوجي. البعض يفسر ذلك بأنه تفكير واقعي براغماتي، حل مكان «الدوغما» التي طالما وصفت بها الأطروحات المبدئية أيا كان شكلها، يسارية أو إسلامية. إن مما يصم الآذان ويزكم الأنوف أن يتم تسويق المشروع الغربي، الذي ارتدى لباس الثورة هذه المرة رغم عدائه لمصالح الأمة وانحيازه إلى الاحتلال الصهيوني، بأنه الطريق الوحيد لتحقيق أهداف الشعوب في تحقيق الحرية والتخلص من أنظمة الاستبداد. وإذا أمكن استيعاب ذلك حين ينطلق من ذوي التوجهات الليبرالية، فإن ما لا يمكن استيعابه أو قبول صدوره عن ذوي الاتجاهات الإسلامية أو اليسارية التي طالما اتسمت علاقتها بذلك المشروع بالرفض والعداء. الأمر الذي أصبح واضحا أن الحديث عن التغيير الثوري ينحسر تدريجيا على المستويين الواقعي والنفسي، خصوصا في ظل ما يحدث في مصر وليبيا وسورية بشكل خاص. وكما يقال، فإن الجديد لا يكون جديدا إلا إذا أصبح القديم قديما. أما أن يحدث التغيير وتنجم عنه إعادة الماضي برموزه وعقليته إلى الواقع العملي، فإن ذلك إعادة رسم خريطة الماضي بألوان مختلفة، مع بقاء الحدود والملامح ثابتة. وعندما يترسخ الاعتقاد لدى «طلائع التغيير» بأنه غير ممكن إلا بالتنازل عن الثوابت، يمكن القول بقدر من الاطمئنان بأن «الثورة» انتهت واستبدلت بمناورات سياسية لا تختلف عما يجري عندما يحدث انقلاب أبيض في أحد قصور الحكم، فيستبدل الحاكم بغيره من الجنرالات أو يقوم الولد بانقلاب ضد حكم والده، أو يحل جناح حزبي مكان الجناح الآخر في الحكم. وتكمن المشكلة أساسا في مدى الالتزام بمشروع الثورة وعمق الإيمان بقدرتها على إحداث التغيير، وما إذا كان بالإمكان فرض ذلك التغيير وإن عارضته أمريكا وبريطانيا اللتان تستمران في إدارة الملف العربي وفق أجندتهما الخاصة. وعندما يصبح فساد النظام السوري ذريعة للاستقواء بالأمريكيين، فإن ذلك يعني أن النظام المستقبلي لن يستطيع الخروج على المشروع الأمريكي الذي يدعم الكيان الإسرائيلي بكافة الإشكال ويسعى إلى فرض التطبيع معه على الدول العربية. وعندما يدشن الرئيس المصري (الذي انتخبته الجماهير للمرة الأولى في التاريخ المصري الحديث) عهده برسالة «بروتوكولية» إلى رئيس الكيان الصهيوني ويضمِّن حكومته خمسة من وزراء الحقبة السابقة (بمن فيهم رئيس المجلس العسكري) فإن ذلك يستدعي إعادة النظر بشكل جدي في مفهوم «الثورة» وما إذا كانت نتائجها ستختلف عما كان سائدا قبلها. وعندما تصبح ليبيا مهددة بالانقسام الداخلي وفق خطوط العرق والانتماء المذهبي، فلا يمكن استيعاب ذلك إلا ضمن مقولة إن دخول أمريكا على الخط في أي مكان إنما هو مقدمة للمصائب والأزمات؛ فأمريكا لا تحل مشكلة إلا وتخلق أكبر منها، ولا تسعى إلى «تحرير» شعب من نظامه الديكتاتوري إلا طوقت ذلك الشعب باستعباد من شكل آخر وهيمنة بدون حدود. وما لم يتضمن المشروع الثوري بنودا تحرر الشعوب من العقدة التي كانت لدى السادات عندما قال إن أمريكا تملك 99 في المائة من الأوراق، فإنه سوف يتحول إلى تغيير محدود لا يلامس ما يختزن في نفوس «الثوار» الذين تمردوا في الأساس على المنظومة الغربية التي دعمت الاستبداد والاحتلال عقودا، ولن تتغير سياستها أيا كانت التطورات. كانت مصر جديرة بأن تتصدر مشروع التغيير الثوري، فتصبح منارة لبقية الشعوب المتمردة ضد أنظمتها. ولكن الواضح أن التطورات لا توحي بذلك، بل تطرح سؤالا جوهريا: ما جدوى التغيير إذا بقيت سياسات التعايش مع الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي مستمرة؟ وقد كان أمام الرئيس المصري المنتخب خياران واضحان: الخيار الثوري الذي يؤكد التشبث بالقيم التي طرحها الإخوان عقودا، وفي مقدمتها تحرير فلسطين وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، واسترداد السيادة على مصر كلها ومن ضمنها سيناء، أو الدخول في دهاليز السياسة التي تمتلك الأطراف الأخرى أغلب أدواتها وأوراقها. الواضح حتى الآن أن الحكام الجدد لمصر اختاروا الخيار الثاني، وهو خيار لن يحقق أيا من الأمرين الأساسيين لهم: البقاء في السلطة أو تنفيذ أجندتهم الإسلامية. فمهما تنازل الإخوان عن مشروعهم الإسلامي، فلن يقبل المحور الآخر بهم. وقد بدأ فعلا بالإعداد لتقسيم مصر على أساس ديني، وبدأت أولى حملات التحريض ضد الإخوان بطرح ورقة المسيحيين هم وتسليح بعضهم في الشطر الغربي والجنوبي من مصر. أما الخيار الثوري فيقتضي تشكيل حكومة خالية تماما من عناصر نظام مبارك، من التكنوقراط وعناصر الثورة الشابة بدلا من المشير طنطاوي ورئيس المحكمة الدستورية وغيرهما. كان الأحرى بالرئيس مرسي ألا يبعث رسالة إلى شمعون بيريز (إن صدقت الحكومة الإسرائيلية التي بثت الخبر)، أيا كانت الضغوط والملابسات؛ فالتآمر ضده وضد الإخوان لن يتوقف بل إن وضوح تخليه عن المشروع الثوري يكشفه أمام أعداء الثورة ويطمعهم في إمكان إسقاطه. فلا بد هنا من إعادة النظر في استخدام مصطلحات الثورة والتغيير ما لم تكن لها مصاديق عملية واضحة. المشكلة تتعمق عندما يستدرج «الثوريون» إلى مشاريع قوى الثورة المضادة إما بالتهديد أو الترغيب؛ فثورة إيران، مثلا، اتخذت قرارا حاسما، بعد انتصارها فورا، بقطع العلاقات التي كان الشاه قد أقامها مع «إسرائيل» وأغلقت سفارة الكيان الإسرائيلية وفتحت أول سفارة لفلسطين في العالم. صحيح أن الرئيس مرسي مدد فتح معبر رفح أربع ساعات إضافية (قبل حدوث العدوان بالقرب من المعبر الهادف لإفشال مبادرته)، ولكن الأجدر به أن يفتحه كاملا، فذلك قرار سيادي يفهم الأمريكيين والإسرائيليين أن الوضع تغير جذريا، وأن السياسات الجديدة واضحة ومباشرة ومدعومة من الشعب؛ ذلك هو المشروع المنسجم مع مقولة «الثورة» في نقائها وعدم إخضاعها لمنطق «الواقعية» و«البراغماتية»، وهو منطق يقول في الوقت نفسه إن القوي هو الذي يفرض ما يريده.