لا يعدم الذين يميلون إلى التفسير التآمري لمسيرة الثورات العربية القدرة على حشد الأدلة على مقولتهم تلك، مستندين إلى وقائع شتى تؤكد نظريتهم، وفي مقدمتها أن الغرب ليس جمعية خيرية، وأنه لا يساند ثورة من الثورات إلا أن تكون له مصلحة في انتصارها، فضلا عن حرصه على مصالح الكيان الصهيوني والنفط قبل أي شيء آخر. والحق أن أحدا لا يماري في أن الغرب ليس جمعية خيرية، وأن مساندته لهذه الثورة أو تلك تستدعي التوقف والتفسير، مما يفرض علينا وضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى الحالة برمتها، إلى جانب التوقف عند كل ثورة عربية على حدة. لو أن هذه الثورات اندلعت قبل عشر سنوات على سبيل المثال، لكان الأمر مختلفا، فحينها كانت الولاياتالمتحدة سيدة الكون بلا منازع، ولم يكن بوسع أحد من دول الغرب أن ينازعها القرار الدولي، فضلا عن الشرق أوسطي؛ لكن الأمر اليوم مختلف إلى حد كبير، إذ لم تعد أمريكا هي الحاكم بأمره في الكون، بالطبع تبعا لضعفها الذي نتج عن هزائمها في العراق وأفغانستان، والصعود الروسي والصيني، وحتى الأوربي، ومن ثم الأزمة المالية. والنتيجة أن المشهد الدولي غدا أقرب إلى التعددية القطبية منه إلى الأحادية القطبية التي عاشها العالم منذ مطلع التسعينيات، بل إننا نجزم بأن نجاح الثورات العربية لم يكن ممكنا لو بقي المشهد الدولي على حاله القديم. أما الكيان الصهيوني، فقد فشل في تمرير مسار أوسلو بالطريقة التي يريدها، ومن ثم جاءت هزيمته في لبنان وقطاع غزة، فضلا عن تراجع حصانته الداخلية، اجتماعيا وسياسيا وعسكريا وأمنيا، الأمر الذي نسف مقولة إنه كيان يفعل ما يريده، وإن مخططاته تنجح في معظم الأحوال. هذا من حيث العموم، أما في ما يخصّ التفصيل، فإن البداية تكون من تونس التي فاجأت الجميع بثورتها الشعبية التي أطاحت بأحد رموز عناصر التحالف الأمريكي الغربي (الصهيوني أيضا) في المنطقة، وهنا لن يكون بوسع أحد القول إن الغرب لم يفاجأ بتلك الثورة، بدليل موقفه الأولي منها. لكن الشارع ما لبث أن فرض نفسه ولم يجد الغرب بدا من دعم الثورة، ومن ثم السعي إلى تدجينها على نحو لا يسمح لها بتهديد مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني، وهذا هو المخاض الذي نتابع فصوله إلى الآن. بعد تونس، جاءت الثورة المصرية الأكثر أهمية وتأثيرا من زاوية كونها تتعلق بالدولة المحورية في المنطقة. ولو كان بوسع الولاياتالمتحدة مساعدة النظام على البقاء لما ترددت لحظة، الأمر الذي ينطبق على الدولة العبرية التي كانت تعتبر مبارك «كنزا استراتيجيا» حسب تعبير بنيامين بن إليعازر، وزير الصناعة الأسبق والصديق الشخصي لحسني مبارك. لكن مساعي العمل على تدجين الثورة وفرض سيطرة العسكر عليها لن تتوقف. وقد كشفت الدوائر الإسرائيلية عن غضب رسمي على الأبيض بسبب دعوته المجلس العسكري إلى تسليم الحكم إلى المدنيين، كما تسعى الدولة العبرية بمساعدة الغرب إلى الحفاظ على تلك المؤسسة. والمرة الأولى التي يتراجع فيها نتنياهو كانت من أجل عدم إحراج المجلس العسكري، حيث مرر أولا صفقة تبادل الأسرى، ثم أوقف هدم جسر باب المغاربة في المسجد الأقصى. بعد تونس، جاءت الثورة الليبية (قبلها كانت اليمنية) التي يمكننا القول إنها كانت مفاجئة أيضا، ولولا الموقف الفرنسي الذي جرَّ الموقفين الأمريكي والأوربي لما وقع التدخل أصلا (قيل إنه بدأ قبل قرار الناتو بالتدخل). وخلاصة المقاربة الفرنسية تتعلق بالاقتصاد قبل كل شيء طمعا في بلاد واسعة مدججة بالثروات كانت بريطانيا وإيطاليا وأمريكا قد حصلت منها على عقود ضخمة عن طريق القذافي. ونعلم بأن أوربا ومنطقة اليورو تحديدا تعيش أزمة مالية خانقة، وتبحث -تبعا لذلك- عن مخرج منها، فكانت ليبيا جزءا من ذلك الطموح. لا يعني ذلك أن حكام ليبيا الجدد سيكونون دمية في يد فرنسا والغرب، فالأمر يتعلق بالتدافع الداخلي القائم حاليا والذي يصعب الجزم بمآلاته، وإن آمنا بأن إرادة الشعب الليبي ستفرض نفسها في نهاية المطاف، وستحول دون رهن البلد ومقدراته للقوى الأجنبية. في اليمن، لم تكن هناك مصلحة واضحة للغرب في إنجاح الثورة، بل إن مصلحته تتمثل في مجاملة المملكة العربية السعودية التي لا تريد التغيير الثوري فيه، ومعها أكثر دول الخليج الأخرى خشية تمدد مسيرة التغيير (أو الإصلاح) نحوها، وهذا ما يفسر موقف الغرب المتردد والذي ساهم -إلى جانب العوامل الأخرى- في توفير مخرج «مشرف» لعبد الله صالح عبر المبادرة الخليجية، وإن أمل المعارضون أن ينتهي المسار الجديد في تغيير حقيقي لبنية النظام برمته. في الحالة السورية، كانت الثورة بقوتها وحيويتها مفاجئة للنظام وللغرب في آن، بل لقوى المعارضة أيضا، اللهم إذا اعتقد البعض أن إشارة وصلت من أوباما إلى السوريين بالتحرك، فكان أن استجابوا لها طائعين مضحين بالآلاف من أبنائهم طلبا لرضاه!! سيقول البعض إن مصلحة الولاياتالمتحدة والغرب والكيان الصهيوني تتمثل في التخلص من نظام مقاوم وممانع، وهذا صحيح دون شك إذا كان البديل من قماشة أخرى، لكن إدراك تلك الفئات لحقيقة أن الثورة السورية ستنتصر في نهاية المطاف وأن البديل قد يكون أسوأ، هو الذي دفعهم إلى الدخول على خطها من أجل رسم معالم ذلك البديل، ولاسيما أن انتصار السوريين بقواهم الذاتية سيعني أن النظام الجديد سيكون أكثر مقاومة وممانعة تبعا لتعبيره عن إرادة الناس. وفي هذا السياق تحديدا، نشير إلى تصريحات عاموس جلعاد، رئيس الهيئة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، والتي ذهب فيها إلى أن سقوط نظام بشار الأسد ستترتب عنه كارثة كبرى تقوّض الدولة العبرية. ولا قيمة، بالطبع، للاستناد لتصريحات برهان غليون أو سواه لأن السوريين لن يستبدلوا دكتاتورية بأخرى. الآن يسعى الغرب إلى إدخال سوريا في نفق الحرب من أجل تدميرها، فضلا عن تكبيل الشعب السوري وقواه السياسية بجميل لا يمنحهم فرصة التمرد عليه، وما هذه الحماسة للعسكرة سوى دليل على ذلك، إذ إنهم يدركون أن بديل العسكرة ليس بقاء النظام، وإنما استمرار الثورة حتى الانتصار. هذا السيناريو ليس قدرا بالتأكيد، فمنطق سقوط الأنظمة الأمنية ليس واحدا في كل الأحوال، ولا يستبعد أن يتهاوى النظام السوري بين لحظة وأخرى بعد اقتناع الجميع بنهايته وحسم المترددين لموقفهم، وربما تغيير الطائفة العلوية لموقفها. من المؤكد أن المواجهة مع إيران تبدو حاضرة في السياق، وثمة قناعة بأن المحور الإيراني سيغدو في حالة ضعف إذا انتزعت منه سوريا، كما أننا نعلم بأن التخلص من المشروع النووي الإيراني لم يغادر العقل الصهيوني أبدا، وهي معركة نتنياهو الأكثر أهمية في هذه المرحلة، وعندما تتحرك واشنطن على إيقاع المصلحة الإسرائيلية فهذا يعني الاستجابة لما يريده الأخير. هنا، يبدو من حقنا أن نتساءل: هل ما يريده الغرب هو القدر الذي لا راد له؟ وهل إرادة الغرب تدمير سوريا وحرف بوصلتها السياسية بعد نهاية النظام ستمر بسلاسة؟ وهل ستكون ليبيا رهينة بيد الغرب؟ وهل ستنجح مساعي سرقة الثورة المصرية أيضا؟! الجواب الذي نؤمن به هو (لا)، وإذا كانت أمريكا يوم كانت سيدة الكون لم تفلح في إنجاح مشاريعها الكبيرة، فهل ستفلح اليوم في ظل الصحوة الشعبية العربية، وفي ظل التعددية القطبية والمصالح المتناقضة للقوى الدولية، والتدافع الواضح بينها على المصالح والنفوذ؟ إذا كانت الولاياتالمتحدة في ظل تفردها بالوضع الدولي قد عجزت عن دفع مسار أوسلو الرامي إلى تكريس الدولة العبرية سيدة على الشرق الأوسط، وإذا كانت في ظل وضعها ذاك قد عجزت عن إنجاح مشروع غزو العراق الذي كان يستهدف إعادة تشكيل المنطقة، فكان أن وقع العراق رهينة بيد إيران التي كان الغزو يستهدفها كمحطة تالية، ولا تسأل بعد ذلك عن مشروع غزو أفغانستان وأحلام الهيمنة على آسيا الوسطى ونفط بحر قزوين (روسيا في تلك المناطق اليوم أقوى مما كانت عليه قبل عشر سنوات). إذا كان كل ذلك قد انتهى إلى الفشل، فلماذا يريد البعض إقناعنا بأن مخططات الغرب وواشنطن ستنجح هذه المرة بكل يسر وسهولة؟! عندما تتوفر شعوب حية كتلك التي تحركت وتتحرك في الشوارع العربية اليوم، فيما التناقضات الدولية تتعزز، فلماذا يجب علينا أن نفترض أن ما يريده الغرب من الثورات العربية هو الذي سينجح وليس ما تريده الشعوب؟! إن أمة جديدة هي في طور الولادة اليوم، بل ولدت بالفعل من رحم الثورات، أمة قوية الإرادة تعرف مصلحتها جيدا، أمة ترفض حكام التبعية للغرب وعناوين الفساد في الداخل، أمة تريد الحرية والكرامة في الداخل والعزة في التعامل مع قوى الخارج. لماذا ينبغي علينا أن نشكك في ذلك كله، ونجلس مثل العجائز نشتم المؤامرة والمتآمرين، ونشكك في أنفسنا وشعوبنا. هل هذه هي المقاومة والممانعة كما يراها بعض مثقفي الثورية البائسة أم إن تصدر الإسلاميين للثورات لا زال يُشعر أولئك بالقهر فيدفعهم إلى التشكيك فيها بشكل مستمر رغم ما يثيره ذلك (أعني تصدر الإسلاميين) من هلع في الدوائر الإسرائيلية والغربية؟! إنه مخاض عسير تمر به المنطقة، وهو مخاض لن يمر من دون الكثير من الصراعات والدماء والتضحيات، لكننا واثقون من أن القادم سيكون في صالح الأمة وهويتها وأبنائها، وفي صالح تحررها من كل أشكال الذل والتبعية، وستكون فلسطين على موعد مع الحرية بإذن الله. ومن يتابع الجدل الدائر في الكيان الصهيوني يدرك أن هذا الهاجس بات معششا في عقل المجتمع الصهيوني. وقد كان رائعا أن يشعر المرء بذلك من خلال كلمة نتنياهو أمام الكنيست يوم الاثنين 28 نونبر حين قال إن موجة من «الإسلام الراديكالي» تجتاح المنطقة وإن هذا ليس وقت «الأعمال المتسرعة».