يبدو السؤال أعلاه غريبا بعض الشيء في ظل العلاقة التي تبدو جيدة بين الدول العربية وتركيا، وفي ضوء الجولة التي قام بها رئيس الوزراء التركي في مصر وتونس وليبيا، وكلمته أمام وزراء الخارجية العرب في القاهرة. لكنّ مزيدا من التدقيق في المواقف قد يشير إلى ضيق العديد من الأنظمة العربية بالدور المتصاعد لتركيا في الإقليم، ولاسيما تلك الشعبية العارمة التي يحظى بها أردوغان في الأوساط الشعبية العربية على خلفية مواقفه القوية حيال الدولة العبرية، وهي بالطبع مواقف تصنف قوية ليس من الزاوية المبدئية، بل مقارنة بمواقف العرب الرسمية، إذ يدرك العقلاء أنه لا الشعب التركي ولا أي شعب عربي أو مسلم يعترف بالكيان الصهيوني، فضلا عن أن يتعامل بإيجابية مع أي شكل من أشكال العلاقة به. عندما يقول أردوغان إن «إسرائيل» طفل مدلل أفسده المحيطون به بمرور الوقت، لا يمكن أن يلقى ذلك ارتياحا كبيرا في الأوساط العربية الرسمية التي لا ترغب في سماع المزايدة على مواقفها من قبل الجار التركي، خاصة العسكر الذين يمسكون بالسلطة في مصر والذين أحرجهم موقف تركيا الأخير المتمثل في سحبها سفيرها من الدولة العبرية ووقف التعاون العسكري معها (لا يشمل ذلك العلاقات التجارية)، مقابل رد باهت من قبلهم على الاستفزازات الإسرائيلية (الرد الشعبي باقتحام السفارة والفعاليات الشعبية الأخرى كان رائعا من دون شك)، كما أن القيادة المصرية (العسكرية) لن تكون مرتاحة لحديث أردوغان المتواصل عن حصار غزة، وهي تشارك فيه بهذا القدر أو ذاك. ولعل إلغاء زيارة أردوغان للقطاع كان ذا صلة بعدم استفزاز تلك القيادة، وإن لم يكن السبب الوحيد، إذ تحضر الأبعاد الدولية وحرص أنقرة على عدم استفزاز الأمريكان والغربيين، فضلا عن سؤال عن شكل الزيارة، إذ إن دخول الرجل من البوابة المصرية سيحشر الزيارة في البعد الإنساني لا أكثر، مما يقلل من قيمتها وأهميتها، خلافا لحالها لو تمت عن طريق مروحية أو سفينة تركية تتحدى الحصار وتدخل القطاع رغم أنف الإسرائيليين. الجانب الآخر في إشكالات العلاقة بتركيا يتعلق بالدور الإقليمي، حيث يصعب على النظام المصري أن يستوعب التمدد التركي في المنطقة، حتى لو أخذ شكل الأخوة والتعاون، ولاسيما أنه لا أحد يمكنه الزعم بأن المبادئ هي وحدها ما يحكم سياسة تركيا الخارجية. ثمة جانب آخر يثير الحساسية العربية الرسمية حيال تركيا، وهو المتعلق بدعمها وتبنيها لسياسة الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، في مقابل أنظمة عربية، تتصدرها المملكة العربية السعودية، تعمل على وقف مد الثورات العربية برمتها؛ والأسوأ أن تلاحظ تلك الدول تعاونا جيدا بين الإسلاميين الذين يتصدرون الثورات وبين أنقرة التي باتت تحتضن العديد من نشاطاتهم، ويعلم الجميع بأن الأنظمة العربية تبدو مجمعة على السعي إلى الحيلولة دون تصدرهم الساحة السياسية. سيشير البعض هنا إلى واقعة حديث أردوغان عن الدولة العلمانية في مصر التي أثارت قدرا من عدم الارتياح لدى جماعة الإخوان وعموم الإسلاميين، لكن مزيدا من التدقيق في كلام أردوغان يجعل حديثه مقبولا بعض الشيء، وبالطبع تبعا لحديثه عن حرية الأديان، وهي مكفولة في الدستور الذي يقترحه الإسلاميون وإن تحدثوا عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وهو ما يلتقي بقدر ما مع كلام أردوغان عن نماذج العلمانية المتباينة في العالم. وفي العموم، لا يغير ذلك في طبيعة العلاقة التي تثير الحساسيات بين تركيا والإسلاميين، لأن رفضهم من قبل الأنظمة لا صلة له بطبيعة الدولة التي يريدونها أو نمط نظام الحكم الذي يقترحونه وإنما باقترابهم من السلطة؛ ولو وافقوا على الدولة العلمانية بالكامل لما تغير الموقف منهم، بل ربما صاروا أكثر خطورة تبعا لإمكانية قبولهم من الغرب الذي تعول الأنظمة على استمرار رفضه لهم كعامل مساعد في الصراع معهم. الملف السوري ربما يبدو حاضرا في إشكالات العلاقة التركية العربية أيضا، إذ تميل بعض الأنظمة العربية إلى مقاربة سياسية تحافظ على النظام مع إصلاحات معقولة مثل تلك التي وردت في ما عرف بالمبادرة العربية، لكن تركيا تبدو في مزاج آخر يميل إلى تغيير جذري في سوريا. صحيح أن الأخيرة على تحالف مع إيران التي لا تهضمها الأنظمة ذاتها بسبب الحساسيات السياسية المتعلقة بالأقليات الشيعية في المنطقة، لكن ذلك شيء واستمرار الثورات ومنحها دفعة جديدة بإسقاط النظام السوري شيء آخر. في ضوء ذلك كله، ثمة ملامح حلف عربي جديد أخذ يتشكل في المنطقة ضد التمدد التركي يتزامن، للمفارقة، مع استمرار الحشد ضد إيران، وهو حلف يسعى إلى وقف الثورات العربية من جهة، في ذات الوقت الذي يوقف التدخل «الخارجي» في الشأن العربي، من دون نسيان البعد المتعلق بالقوى الإسلامية وتعاون حزب العدالة والتنمية التركي معها. أمريكا، ومعها أكثر دول الغرب، لا تقف بعيدا عن هذا الحلف الجديد، أولا من أجل الدولة العبرية التي تخيفها الثورات العربية وتخيفها التحركات التركية في آن واحد، وثانيا من أجل تحجيم تركيا وإيران واستعادة العالم العربي المعتدل الذي يلبي المصالح الغربية كما كان عليه الحال قبل الربيع العربي، وبتعبير أدق: المحافظة على صراعات الإقليم على حالها القديم، بوصفها صراعات تلبي حاجة الدولة العبرية ومصالح الغرب معا. ما يمكن أن يفسد هذا المخطط هو تقدم الثورات العربية ذاتها، ولاسيما أنه مخطط يستدعي بالضرورة وجود مصر في قلبه، وإذا ما سارت الأوضاع فيها لصالح المزاج الشعبي الرائع، فإن أية قيادة جديدة لن تجد لها مصلحة في مخطط ينسجم مع مصالح أنظمة مرعوبة من التغيير أكثر من انسجامه مع مصالح مصر ودورها، ولاسيما أن تقدم تركيا لا يعني بالضرورة تراجع مصر، بل إن الإقليم في حاجة إلى حضور الطرفين من أجل الاستقرار ومن أجل لجم الطموحات الإيرانية الزائدة عن الحد (ستضطر إيران إلى التواضع في طموحاتها في حال وقع التغيير في سوريا)، وصولا إلى تعاون إيجابي بين المحاور الثلاثة لصالحها جميعا، وضد أي حشد مذهبي سيتضرر منه الجميع، ومع تعاون جاد ضد الكيان الصهيوني وطموحاته في المنطقة، بل ضد سياسة «فرق تسد» التي لا تخدم غير المصالح الغربية. في نهاية المطاف، نحن أمام مخاض تاريخي داخل العالم العربي بين قوى التغيير والأنظمة الحاكمة، وعلى مستوى الإقليم بين قواه الفاعلة، ومن ثم علاقاته بالقوى الدولية، وسيمضي وقت لا بأس به حتى يتبين خيطه الأبيض من خيطه الأسود، والأمل والطموح إلى أن يأتي منسجما مع تطلعات الإنسان العربي إلى الحرية والكرامة واستعادة الحقوق والمقدسات، ومع تطلعاته إلى علاقات جوار إيجابية مع الجارين التركي والإيراني. ياسر الزعاترة