لعله تخيل نفسه للحظات السلطان محمد العثماني، فاتح القسطنطينية، وهو يرى حشودا كبيرة من الشباب العربي في دول «الربيع العربي»، مصر وتونس وطرابلس، تحمل الأعلام التركية، تهتف، تصيح بأعلى أصواتها للترحيب بمن حسبته هي كذلك للحظات خليفة المسلمين الجديد، رجب طيب أردوغان. إنه رجل يمتلك شخصية كاريزمية مؤثرة، ويحظى بقبول شعبي واسع لدى الشباب العربي في ظل غياب قيادة في العالم العربي.. مفرداته تملك القدرة على إقناع الجماهير والاقتراب من مفتاح قلب رجل الشارع البسيط، حسه الخطابي العالي ولغته البعيدة عن التنظير والإيديولوجيا والتي ينهلها من تعبيرات البسطاء، إضافة إلى مواقفه الصلبة تجاه القضية الفلسطينية، جعلت من رجب طيب أردوغان بطل العالم العربي والإسلامي، وقد وصفته صحيفة «الفاينانشل تايمز» الأمريكية ب «ربما كان الزعيم غير العربى الوحيد الذي يعجب به العرب هكذا بعد تحرير صلاح الدين وهو كردي للقدس من الصليبيين سنة 1187». إنه رجل الواجهة في الوقت الراهن على الساحة الدولية والإعلامية. إنه، بالنسبة لكثيرين، الزعيم الإسلامي الوحيد الذي لا يخشى الوقوف في وجه إسرائيل والدفاع بشراسة عن القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، الذي يعد من بين أكثر الزعماء شعبية في العالم العربي والإسلامي في الوقت الحالي، أنهى بنجاح جولته في بلدان «الربيع العربي» والتي بدأها بعد أيام من طرد بلاده للسفير الإسرائيلي من العاصمة أنقرة وخفض بعثتها الدبلوماسية في تل أبيب وتهديدها بإرسال سفن مرافقة مسلحة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة. شعبية فاقت كل التوقعات إن شعبية رئيس الوزراء التركي المتنامية في العالم العربي تعكس توجها ورغبة لدى الشارع العربي للاعتراف بنجاح التجربة التركية، وبأنها الأمثل للاقتداء بها من أجل تحسين الأوضاع الحالية سياسيا واقتصاديا. وتتمتع تركيا كنموذج لدولة تجمع بين الديمقراطية والعلمانية والإسلام بشعبية في الدول العربية, خاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان إلى السلطة. وقد زادت هذه الشعبية بعد أن قال أردوغان في كلمته في الجامعة العربية أمام الوزراء العرب: «قبل نهاية السنة الجارية سنرى وضعا مختلفا تماما لفلسطين في الأممالمتحدة...حان الوقت ليرفرف العلم الفلسطيني فوق المنظمة الدولية»، بالإضافة إلى مواقفه الحازمة والحاسمة تجاه تصرفات إسرائيل في عدد من الأحداث التي أدى آخرها إلى تعليق تركيا علاقاتها مع إسرائيل في المجالات التجارية والعسكرية وصناعة الدفاع . وكان هذا التحرك التركي ردا على تمسك إسرائيل برفض تقديم اعتذار رسمي بشأن الغارة البحرية التي وقعت العام الماضي على سفينة مساعدات كانت متجهة إلى غزة، راح ضحيتها ثمانية مواطنين أتراك، ومواطن أمريكي من أصل تركي. مواقف قوية في مواجهة إسرائيل «بكاء طفل فلسطيني في غزة يوجع قلب أم في أنقرة»، صرح أردوغان خلال كلمة ألقاها أمام الجامعة العربية أثناء زيارته للقاهرة، آسرا بذلك قلوب ملايين العرب الذين يتتبعون تصريحاته. وأضاف هذا «الفارس»: «الاعتراف بدولة فلسطينية هو الطريق الصحيح الوحيد. هذا ليس خيارا بل واجبا. ستتاح لنا الفرصة إن شاء الله بنهاية هذا الشهر لنرى فلسطين في وضع مختلف تماما في الأممالمتحدة». وتابع قائلا: «حان الوقت لرفع علم فلسطين في الأممالمتحدة. دعونا نرفع علم فلسطين وليكن هذا العلم رمزا للسلام والعدل في الشرق الأوسط. دعونا نساهم في ضمان الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط». وأكد أردوغان، أمام الجماهير العربية، على كون إسرائيل تقوم بممارسات غير مسؤولة لكونها تسحق الكرامة الإنسانية والقانون الدولي والاعتداء على المواكب الدولية، وذلك في إشارة إلى أسطول الحرية. وأضاف أن «الحكومة الإسرائيلية تجاهلت مطالبنا بالاعتذار، وتتجاهل القوانين الدولية». وحذر أردوغان الأممالمتحدة وكل الأوساط الدولية من أنهم إذا استمروا في دعم إسرائيل فإنهم سيكونون شركاء في الجريمة التي ترتكبها. وقال إن على إسرائيل أن تعتذر وتعوض أسر الشهداء وترفع الحصار عن قطاع غزة، وإلا لن يكون هناك تطبيع للعلاقات بين تركيا وإسرائيل. حادثة مؤتمر دافوس مواقفه القوية هذه، ذكرت الجميع بما قام به أردوغان في المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس في 2009، حيث استشاط غضبا وترك القاعة وسط تصفيق الحضور، بعدما رد بقساوة لافتة على كلام للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بشأن العدوان على غزة. بعدما أنهى بيريز كلمته، التي دافع فيها بحرارة عن العدوان، طلب أردوغان من منظم الحوار أن يسمح له بالكلام، فأجابه أن لديه «دقيقة واحدة»، عندها انتقد أردوغان دفاع بيريز بشراسة قائلا: «أذكر اثنين من رؤساء حكومتك قالا إنهما يشعران بالسعادة لأنهما تمكنا من الدخول إلى غزة عبر الدبابات»، مضيفا: «إن إسرائيل قد ارتكبت عملا بربريا في غزة، أجده أمرا محزنا أن يصفق الناس على ما قلته، لأن أشخاصا كثيرين قتلوا، أعتقد أن ذلك خاطئ جدا وغير إنساني». وقال أردوغان متوجها إلى الرئيس الإسرائيلي: «أعتقد أنك تشعر ببعض الذنب، لذلك تكلمت بهذه الحدة»، مضيفا: «لقد قتلتم أناسا، وأنا أتذكر أطفالا قتلوا على الشواطئ». وقال أردوغان مغادرا المنصة التي كان يجلس عليها أيضا شيمون بيريز وبان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، وعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية: «لا أعتقد أنني سأعود مرة أخرى إلى دافوس». عمت موجة من التصفيق المكان، وهمّ عمرو موسى، الذي كان يجلس إلى جانب بان كي مون، بمصافحة أردوغان بقوة، غير أنه احتار بشأن الخطوة التالية، لكن الأمين العام للأمم المتحدة أشار إليه بالجلوس فعاد إلى مقعده. وفي وقت لاحق، عقد أردوغان مؤتمرا صحافيا لشرح ما حصل. وقال «خلال خطابه (بيريز)، كان يلتفت إلي من وقت لوقت ويخاطبني بطريقة وأسلوب لا يشبهان روح النقاشات الحرة التي نراها في دافوس»، مضيفاً أن «الرئيس الإسرائيلي رفع صوته بين الحين والآخر». وأشار أردوغان إلى أن انفعاله كان باتجاه مدير الجلسة، وأنه ترك اللقاء الذي كان على وشك الانتهاء، موضحا أنه «أُعطي (بيريز) 25 دقيقة من أجل الكلام، بينما لم يحصل هو سوى على 12 دقيقة» تحدث خلالها قبل الرئيس الإسرائيلي. سر الشعبية المتزايدة في بحثها عن سبب شعبية أردوغان الكبيرة في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي، تقول مجلة «تايم» الأمريكية، في مقال بعنوان: «هل أردوغان بطل العرب؟»، إن مأساة غزة أظهرت مدى ضعف الزعماء العرب عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع إسرائيل، سواء كانوا من المعتدلين مثل الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، أو من المتشددين مثل الرئيس السوري بشار الأسد. وشبهت «التايم» أردوغان بأحمدي نجاد، حيث أكدت أن هناك قاسما مشتركا بين الرجلين، فكلاهما أهان الإسرائيليين. أحمدي نجاد وأردوغان يتمتعان بمكانة الأبطال في أعين العرب، تضيف «التايم»، حيث إن الناس في المنطقة يشعرون بالأسى من عجزهم عن منع معاناة وموت الأبرياء في قطاع غزة، ويسرهم قيام شخص ما بدفع الرئيس الإسرائيلي إلى أن يلقى القصاص العادل لأفعاله. من كرة القدم إلى السياسة طيلة حياته التي بدأت يوم 26 فبراير 1954 في حي قاسم باشا، أفقر أحياء إسطنبول، كانت لأردوغان مواقف صلبة لا يتزحزح عنها ولا يهمه ما قد تسفر عنه من نتائج قد تكون سلبية عليه، رغم أن شخصيته مرنة جدا ومنفتحة على أفكار جديدة، فبعد أن درس في مدرسة «الإمام الخطيب» في إسطنبول وتلقيه علم الإدارة في جامعة «مرمرة»، طلب منه رئيسه في إدارة المواصلات، وكان برتبة كولونيل متقاعد من الجيش، أن يحلق شاربه، تطبيقا لمجموعة من القوانين الجديدة، ومن بينها حلق الشارب والذقن ومنع النساء من دخول الجامعات والمؤسسات الحكومية بالحجاب، فرفض أردوغان حلق شاربه، وكلفه هذا عمله، بعدما اضطر إلى الاستقالة. أردوغان الذي وصل إلى منصب رئيس فرع حزب الرفاه، بقيادة نجم الدين أربكان، وهو في الخامسة والثلاثين، ثم رئيس بلدية إسطنبول، أكبر بلدية عامة بتركيا سنة 1995، رأى حلمه السياسي الذي فضله على مسيرة ناجحة في عالم كرة القدم، يتبخر بسبب الشعر. «مساجدنا، ثكناتنا، قبابنا، خوذاتنا، مآذننا، حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا»، هذه الأبيات الشعرية، التي ألقاها أردوغان وسط الجماهير الشعبية، أدت سنة 1999 إلى حبسه عشرة أشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية ومحاولة قلب النظام العلماني، كما تم منعه من العمل في وظائف حكومية ومنها الترشح للانتخابات العامة. قضى أردوغان بالسجن فترة أربعة أشهر خرج بعدها، وبعد فترة أصدرت الحكومة عفوها العام عنه، وتم إدخال بعض الإصلاحات على قانون الجزاء التركي في البرلمان، مما أتاح الفرصة أمام أردوغان لممارسة نشاطه السياسي بحرية. وبعد أن تم تأسيس حزب الفضيلة على أنقاض «الرفاه» الذي صدر حكم قضائي بحله، قاد أردوغان، ومعه عبد الله غل، الجناح الإصلاحي في الحزب الجديد الذي أصبح نواة لحزب العدالة والتنمية. ولدى أردوغان قدرة كبيرة على تغيير مواقفه بنسبة 180 درجة كاملة والدفاع عن هذه المواقف في الحالتين بشكل يدهش خصومه ويجعلهم يقولون إنه ميكيافيلي. حدث ذلك في قضية مشروع القانون الخاص بتجريم الزنا سنة 2004، عندما أصر على المضي قدما في إقرار المشروع في البرلمان رغم رفض الجيش والمعارضة والاتحاد الأوربي له، وعندما هدد الأخير بعدم منح موعد لبدء مفاوضات العضوية مع تركيا تراجع وسحب المشروع من البرلمان. ويرى البعض أن أردوغان لم يكن حكيما في بعض تصرفاته التي أعطت إحساسا بالعظمة، إذ وصف بأنه تظهر عليه أعراض سلطانية مثل حفل الزفاف الأسطوري الذي أقامه لابنته سنة 2005، وبلغت تكلفته مليوني دولار في بلد حوالي ثلث سكانه تحت خط الفقر، إضافة إلى تلقيه وزوجته هدايا شخصية ثمينة. وبينما يرى كثيرون من أبناء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في أردوغان بطلا استطاع أن يحقق ما لم يستطع أحد من قبله أن يقوله أو يفعله، يرى البعض الآخر أن التصريحات الأخيرة لأردوغان تدخل ضمن نطاق اللعبة السياسية والمصالح الاقتصادية. أسباب الجولة العربية يرى المحللون أن تركيز سياسة تركيا الخارجية، مؤخرا، على الشرق تقف وراءها عدة عوامل من أبرزها النمو الاقتصادي السريع الذي شهدته تركيا في السنوات الأخيرة وعدم نجاح مساعيها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى الآن، والأهم من ذلك، أن «الربيع العربي» أتاح لها فرصة نادرة لتعزيز مكانتها في المنطقة في ظل تراجع الدور القيادي لمصر على الساحة السياسية الإقليمية. وتسعى تركيا إلى توسيع الأرضيات المشتركة وإرساء أسس متينة للعلاقات مع دول المنطقة. وأخذت مصر وتركيا، على سبيل المثال، خلال زيارة أردوغان خطوات إضافية باتجاه التكامل الاقتصادي عبر الاتفاق على رفع حجم التبادل التجاري إلى عشرة مليارات دولار وزيادة الاستثمارات وتوقيع المزيد من مذكرات وبرتوكولات التعاون. وانخفض حجم التبادل التجاري بين تركيا وكل من ليبيا ومصر وسوريا وتونس واليمن، البلدان التي تشهد انتفاضات «الربيع العربي» في الفترة بين يناير ويوليوز من السنة الجارية بنسبة تبلغ 11 في المائة مقارنة مع الفترة نفسها إلى السنة الماضية. تركيا تطمح في أن تكون لاعبا قويا وفاعلا في المنطقة العربية يتيح لها المساهمة في إعادة تكوين دول الثورات العربية والاشتراك, إذا تطلب الأمر ذلك, في إعادة رسم خرائط المنطقة. وبالنسبة للعرب فتركيا تبقى حليفا أفضل من إيران إذ أن الأخيرة، حسب المحللين، لها أطماع معلنة وخفية في الأراضي العربية.
أردوغان والإسلام التركي الزعيم التركي أردوغان يريد لبلاده أن تصبح القوة الإقليمية المركزية الأولى في المنطقة العربية، وأن تبسط نفوذها على العالم الإسلامي كله، وهو يعتقد أن «الإسلام التركي» الذي يزاوج بين الدين والديمقراطية هو النظام الأمثل للدول الإسلامية في العصر الحديث. كما يعتقد أن تركيا، برفعها راية «الإسلام الديمقراطي» والتوفيق بين الدول العربية والإسلامية، ستكون قادرة على ملء الفراغ الذي سينشأ عن انسحاب الولاياتالمتحدة الاضطراري وغير البعيد من المنطقة، وأنها ستتمكن بتفاهمها الاستراتيجي مع مصر من لجم مطامع «إسرائيل» من جهة، ومن جهة أخرى طمأنة الدول المنتجة للنفط المتوجسة من صعود إيران وتحالفها مع سوريا وقوى المقاومة في المنطقة. «إن الإسلام والديمقراطية لا يتعارضان»، أكد أردوغان خلال زيارته لتونس، مضيفا أن: «المسلم قادر على قيادة الدولة بنجاح كبير». وأوضح رئيس الوزراء التركي أن «99 في المائة من شعب تركيا من المسلمين، لكنها دولة ديمقراطية علمانية، حيث تحظى جميع الأديان بالمكانة نفسها».