لا تقل العلاقة بروسيا تهديدا لحالة التوازن الاستراتيجي، بل إن واشنطن بالغت في استهداف المصالح الروسية التي كانت لديها خلال الحرب الباردة، وأسست استراتيجياتها على فرضية غياب روسيا الكامل عن المسرح السياسي الدولي. وأدركت موسكو في السنوات الأخيرة خطأها بالتخلي عن مواقع نفوذها في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهرولة واشنطن لاحتلال مواقعها، سواء في دول أوربا الشرقية أو في الدول العربية أو أمريكا اللاتينية. ولا شك أن صعود اليسار في الساحة الخلفية لأمريكا خفف من هذا القلق، ولكن روسيا أدركت ضرورة استعادة بعض مواقع نفوذها ومنع التمدد الأمريكي على حسابها. وربما كانت حرب العراق قبل عشرة أعوام نقطة التحول في التفكير الاستراتيجي الروسي. وأعقب ذلك قرار الرئيس جورج بوش إقامة منظومة دفاع صاروخية في بولندا، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديدا لأمنها القومي. ورغم محاولات واشنطن إقناع الروس بأن تلك المنظومة موجهة إلى إيران وصواريخها البالستية التي أصبح بعضها يصل مداه إلى الأراضي الأمريكية، فقد اعتبرتها موسكو موجهة إليها، لأنه من غير المنطقي إقامة هذه المنظومة بعنوان التصدي للسلاح النووي الإيراني الذي ما يزال وجوده محصورا في أذهان الغربيين وليس له وجود. يضاف إلى ذلك أن روسيا أصبحت شريكة اقتصادية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما تزال تتعاون معها في بناء محطة بوشهر النووية، وتصر على أنها ليست موجهة لصناعة قنبلة نووية. ويمكن القول إن الوضع السوري وفر لكل من الصين وروسيا فرصة لإثبات الذات، فمع أن الولاياتالمتحدة اعتادت استعمال حق النقض مرات كثيرة تجاوزت ستين مرة، فإنها شعرت بالامتعاض الشديد عندما استعملت روسيا والصين معا حق الفيتو لمنع مرور قرار دولي عن مجلس الأمن الدولي يدين سوريا ويمهد لتدخل عسكري من حلف الناتو على غرار ما حدث في ليبيا، وقبلها العراق؛ فتصدى الصينيون والروس ومنعوا تمرير القرار. ماذا يعني ذلك؟ رغم علاقات الولاياتالمتحدة الوثيقة بأنظمة الاستبداد العربية، فهناك شعور يتعمق بضرورة الحفاظ على مسافة بين أنظمة الثورة الجديدةوواشنطن. ومن المتوقع أن تكون لدخول روسيا والصين بهذا الشكل القوي انعكاسات على مجمل أوضاع الشرق الأوسط. ورغم عدم جدوى الاعتماد الكامل على روسيا كحليف استراتيجي، فإن غيابها شبه الكامل في العقدين الأخيرين عن المنطقة، بسبب انشغالها بشؤونها الداخلية بعد سقوط المنظومة الشيوعية، ساهم في إضعاف الموقف العربي في قضايا عديدة، أهمها الصراع مع العدو الإسرائيلي، وبقيت الولاياتالمتحدة اللاعب الدولي بلا منافس. فجاءت اتفاقات أوسلو ومؤتمر مدريد لتجميد الحراك السياسي ومشاريع التحرير، وشعرت «إسرائيل» بأنها تعيش ربيعها، فاستهدفت رموز المقاومة الفلسطينية بالاغتيال البشع، وكادت تقضي على كافة أشكال المقاومة. ومن المؤكد أن عودة روسيا إلى المنطقة، رغم سلبيات ذلك على الثورة السورية، سوف يعيد شيئا من التوازن ويمنع الهيمنة الغربية، خصوصا الأمريكية، على الوضع السياسي والتوازن الاستراتيجي فيها. ويستبعد أن توافق روسيا على أي مشروع عسكري أمريكي في الشرق الأوسط في المستقبل المنظور، رغم محاولات السعودية وقطر شراء السياسة الروسية بالمال. وعلى الجانب السلبي المتوقع حدوثه العام الحالي فإن قوى الثورة المضادة سوف تزداد نشاطا بهدف إجهاض الثورات الشعبية التي انطلقت في إطار «الربيع العربي». فإذا كانت السنة الماضية «عام الربيع العربي» بجدارة، بسبب حالة المفاجأة والمباغتة التي تميزت بها الثورات، فقد استطاعت قوى الثورة المضادة استعادة توازنها والتدخل بشراسة للتصدي لمحاولات التغيير السياسي. وحتى البلدان التي سقط زعماؤها ما تزال تواجه مخاطر الإجهاض، سواء بإثارة التوترات الأمنية أو الاجتماعية والدينية والمذهبية. وبعضها يواجه التجويع، مثل تونس ومصر. وقال المصريون إنهم قد يراجعون اتفاقات كامب ديفيد إذا خفضت الولاياتالمتحدة معوناتها المالية لمصر في ضوء التحقيق في نشاطات عشرات المصريين الذين يتلقون الدعم من منظمات حقوقية وسياسية أمريكية. الثورة المضادة انطلقت بقوة وبشكل كاسح لمنع نجاح الثورات، واستعملت أقذر الأساليب لضمان وأد الثورات، فلا تكفي كتابة دساتير جديدة أو إجراء انتخابات وتشكيل مجالس نيابية إذا بقيت التجربة مهددة من الداخل إما بسبب الجوع أو الحصار أو التوتر، خصوصا إذا كان وفق خطوط دينية أو مذهبية. ويمكن القول إن من أبشع وسائل إجهاض الثورات التدخل العسكري الذي قامت به السعودية في البحرين. وعندما فشل الاحتلال العسكري الذي لا يختلف كثيرا عن اجتياح قوات صدام حسين للكويت، تطرح الآن مقولة «الاتحاد» بين البحرين والسعودية، بقرار من زعماء البلدين وليس بتفويض من شعبيهما. هذه الأساليب في استهداف الثورات من شأنها خلق أجواء جديدة تمثل خطرا ليس على الثورات فحسب، بل على وحدة الأمة وقدرتها على التقاط أنفاسها للتصدي للقضايا الكبرى الأكثر تعقيدا، خصوصا قضية فلسطين. ويمكن الربط التاريخي بين غياب الحريات بسبب الاستبداد والديكتاتورية من جهة واحتلال فلسطين من جهة أخرى، فالشعوب المستعبدة لا تستطيع النهوض بأعباء التحرر والدفاع عن الأوطان، بل تتراجع إمكاناتها حتى تتلاشى. وما أكثر الذين يتصدون علنا للدفاع عن أنظمة القهر والاستعباد والاستبداد، في مقابل ملء البطن بالدولارات النفطية. وعندما تتعمق ظاهرة «الاستحمار» للشعوب، تستطيع قوى الثورة المضادة التآمر ضد الشعوب ومنع التغيير الديمقراطي المنشود. وثمة مصاديق عديدة لهذا الأمر في العديد من البلدان العربية، فالحرية لا يستحقها إلا الأحرار الذين يتمردون على القيود ويكسرون الأغلال ليس من أيديهم فحسب، بل من نفوسهم وعقولهم كذلك. تعيش أمة العرب عاما صعبا تتآمر فيه قوى الثورة المضادة للقضاء على آمال التغيير والتحرر والحرية لديها، وما لم ينبر دعاة هذه الحرية للاستمرار في الحراك الثوري بوضوح وبصيرة وإصرار وإيمان فستظل الثورات مهددة من داخلها، والشعوب أسيرة لدى قوى الثورة المضادة، خصوصا في مجالات الفكر والهوية والانتماء.