الزيزونة..العوجا.. العميين..العافية..المعافرين..الكوبة..التقلية..الفقراء...ماذا أيضا؟هذا المزيج من العاهات والأسماء الغريبة والمثيرة في الآن ذاته ليس في النهاية سوى أسماء أحياء شعبية بعاصمة المال والأعمال المغربية.والحصيلة مرشحة لمزيد من الإثارة.تكفي فقط جولة بسيطة بين عدد من الأحياء الشعبية والهامشية بالدارالبيضاء كي يكتشف المرء أسماء أحياء لم يسبق له أبدا أن سمع بها:الكرواوي..الزبوجة.. زرابة..الجْران..التناكر...أسماء عديدة بدون دلالة أو جمالية، ومجرد النطق بها يجعل سكان هذه الأحياء أحيانا موضع شبهة. ويبقى السؤال الأكثر حيرة وإلحاحا هو: لماذا سميت هذه الأسماء بهذه البشاعة؟ وأي خيال ضحل كانوراء إطلاقها؟ داخل أسوار المدينة العتيقة وغير بعيد عن مسجد «ولد الحمرا» الشهير يقبع زقاق يخاصر ممرا ضيقا وملتويا يؤدي إلى المسجد التاريخي. عند مدخل الزقاق علقت لوحة معدنية كتب عليها «درب الجناوة».مجرد قراءة العنوان قد تثير شيئا من الخوف في دواخل أي غريب عن المنطقة.يضحك أحد الشباب بمجرد سؤاله عن سر التسمية.يبدو كأن السؤال فاجأه، قبل أن يبتلع ضحكته ويجيب باختصار شديد: لا أدري. نفس الجواب سيردده أشخاص آخرون. فيما قال أحد سكان الحي: «هاد الدرب عادي بحالو بحال باقي الدروب كلهم». لماذا «الجناوة» إذن؟ هل هناك سبب ما وراء هذه التسمية الغريبة؟ «نكدب عليك إيل اكلت ليك باللي عارف» يجيب هذا الشخص، قبل أن يضيف «أنا ساكن هنا من مدة وما عمري ما فكرت علاش سمّاوه هاكدا. هاد المسائل شكون اللي غادي يصدع بيها راسو فهاد الوقت.. الواحد ولى مضارب غير مع طرف دالخبز وفين يسكن هو واولادو». في الأخير يقول وهو يهم بمغادرتنا «ما نظنكش تلقى شي واحد هنا يكول ليك علاش هاد الدرب مسمينو الجناوة». نبحث عن أشخاص آخرين، ونكرر السؤال ذاته، لكن في كل مرة نصطدم بهذه «اللاأدري». في الأخير نغادر الحي دون أن نعثر على من يفك شفرة هذه التسمية. «الزيزونة» نبتعد قليلا عن «درب الجناوة» بمائتي متر تقريبا حيث يقبع «درب الزيزونة».صخب الزقاق الصباحي لا علاقة له إطلاقا باسمه. منذ سنوات طويلة تحول المكان إلى سوق شعبي لبيع الخضر والسمك.وسط الزقاق توجد سقاية تقليدية ما زال السكان يلجؤون إليها للسقاية وغسل الملابس أحيانا. بالقرب منها لا تزال آثار الخراب لم تمح بعدُ بعدَ مرور شهور على انهيار أحد المنازل العتيقة هناك. في هذا الزقاق تقطن «ح». قالت إنها تسكن هنا منذ خمسينيات القرن الماضي. هنا رأت النور وهنا ظلت مقيمة بعد وفاة والديها، حتى صار الحي جزءا منها، لكنها لا تعرف بالتحديد لماذا سمي ب«الزيزونة». «من نهار ما عقلت على راسي وانا تنعرفو بهاد السمية.صافي تعودت عليها كيفما تعودت على الدرب والناس ديالو». تقول «ح» دون أن تضيف أي شيء آخر. مثل هذا الارتكان إلى العادة لا يستسيغه رشيد (اسم مستعار)، الذي كان يسكن قديما قرب «درب الزيزونة» قبل أن يغادر المدينة العتيقة ويقطن ببلفدير. لا يخفي رشيد امتعاضه من مثل هذه الأسماء. ويقول بشيء من الحسرة: «أنا لا أفهم صراحة ما الذي يدفعهم (لا يحدد أحدا بالاسم) إلى وضع مثل هذه التسميات على الأحياء الشعبية.هل نضب معينهم لدرجة أنهم لم يجدوا سوى الزيزونة مثلا كي يلصقوها بذلك الحي؟. هؤلاء الذين سموه بهذا الاسم.. هل كانوا يجرؤون على فعل ذلك مثلا في منطقة عين الذياب أو كاليفورنيا أو بلفدير؟. لماذا المدينة القديمة إذن؟ ألأنها مهمشة ولا ثقل لها وسكانها «طُز» فيهم؟ ألا تستحق أحياؤها أيضا أسماء جميلة وراقية مثل أحياء أخرى؟ أم أن هذه الأسماء حكر فقط على المعاريف وبالمييه والأحياء الغنية الأخرى، فيما الأحياء الفقيرة والمهمشة لا تستحق سوى أسماء من قبيل الشحومات والعافية والرماد وكل الأسماء الغريبة التي لا أعرف من أين يأتون بها وكأنه لم يكفهم ما تعانيه هذه المدينة من تهميش وإهمال ومشاكل يومية فأضافوا إلى مآسيها هذه الأسماء المنفرة؟». يصمت رشيد قليلا، قبل أن يضيف وعلامات الضيق ما تزال لا تغادر ملامح وجهه «لقد سكنت قرب درب الزيزونة أزيد من عشرين عاما.أنا ابن ذلك المكان، فيه ترعرعت وفيه كبرت، وكنت يوميا أمر به، وأحيانا كنت أتساءل إن كان سكانه لا يشعرون بالضيق بسبب اسم حيهم. الآن بعد هذه السنوات الطويلة يبدو لي الأمر فعلا مثيرا للضيق، وهؤلاء الذين وضعوا مثل هذه التسميات لا يدركون أي إساءات تسببوا فيها لسكان هذه الأحياء. تصور مثلا أن تضع نهج سيرتك لدى شركة معينة بحثا عن عمل، فيقرأ مسؤول الشركة بياناتك.كيف سيتعامل مع ملفك حين يرى بأنك تقطن مثلا في درب العوجا؟ أو تخيل أن يوقفك شرطي لسبب من الأسباب ويطلب منك بطاقة هويتك. أول شيء سيثيره طبعا هو اسم الجناوة، متبوعا بالمدينة القديمة..تخيل أي سيناريوهات ستعبر ذهنه في تلك اللحظة. كيفما كان الحال لن ينظر إليك نظرة بريئة». «العوجا» نترك «درب الزيزونة» هو الآخر ونعرّج على ساحة باب مراكش حيث حي الملاّح الشهير. أقل من خمس دقائق من المشي تكفي للوصول إلى الساحة الشهيرة.أصوات باعة الخضر والفواكه والسمك تختلط بأغنية لناس الغيوان تنبعث من أحد المقاهي المجاورة للساحة. نلج الملاّح بصعوبة بسبب كثرة الزحام وتكدس البضائع والعربات.هنا لا تهدأ الحركة إلا بعد منتصف الليل. داخل الملاّح، الذي كان عدد من اليهود يقطنونه سابقا، يوجد زقاق صغير بمنفذين. زقاق ملتو عند مدخله علقت لوحة معدنية كتب عليها «زنقة عوجاء»، لكن الناس اعتادوا على مناداة الزقاق ب»درب العوجا». تبدو لفظة «عوجاء» صفة لكلمة «زنقة» وليست اسما لها.أحد الباعة القريبين من الزقاق علق على الاسم ساخرا: «سماوها العوجا حيت هي عوجا».تفسير قد يكون منطقيا بالنظر إلى شكل الزقاق المتعرج، لكنه يطرح سؤالا أساسيا حول المقاييس التي تعتمدها اللجان المكلفة بتسمية الأحياء، وما إن كانت هذه الأسماء تخضع لمعايير معينة أم فقط تكون اعتباطية ورهينة المزاج واللحظة كما هو واضح في حالة «درب العوجا». «الجران» نغادر ساحة باب مراكش وضجيجها الذي لا يهدأ في اتجاه «درب بوسبير» الشهير. لهذا المكان ذاكرته الخاصة، التي لا يمكن محوها من تاريخ المدينة. في الأزقة الخلفية ل«بوسبير» يقبع درب «الجران»، الذي يتفرع إلى عدة أزقة تحمل كلها نفس الاسم. في أحد هذه الأزقة كانت تقطن الحاجة فاطنة سنوات الستينيات، قبل أن تغادره سنة 1974. تتذكر هذه المرأة السبعينية بشيء من الحنين حياتها في الزقاق الذي كانت تسكنه.كما تتذكر كيف أن الناس كانوا يرددون بأن أصل تسمية الحي يعود إلى وجود بِركة بالمنطقة كانت تكثر فيها الضفادع والطحالب، فأصبح الناس يطلقون على هذا المكان درب «الجران»، وظل الاسم لصيقا بالمنطقة دون أن تعمد السلطات المحلية إلى تغييره واستبداله باسم آخر، رغم اختفاء البركة والضفادع. لماذا ارتكن المسؤولون المحليون إذن إلى هذا الحل البسيط، رغم آلاف الأسماء التي يمكن أن يعثروا عليها؟ سؤال آخر يداهمنا دون أن نجد له جوابا. «الفقراء» ما يقع بأحياء وأزقة المدينة العتيقة لا يختلف كثيرا عما يقع في أحياء أخرى، شعبية وهامشية، بعاصمة المال والأعمال المغربية.نفس اللعنة تطارد هذه الأحياء والأزقة. في درب السلطان ينتصب «درب الفقراء» كأحد أقدم الأحياء بالدارالبيضاء.الحي استمد شهرته من أسماء بعض الفنانين واللاعبين المغاربة، الذين كانوا يقطنون به وتركوا بصمات عميقة في عدة ميادين. كما استمد شهرته أيضا من رائعة محمد الركاب السينمائية «حلاق درب الفقراء».لماذا الفقراء إذن مادام الحي له رصيده التاريخي وغناه الخاص؟ يجيبنا أحد السكان، الذين عاشوا بالحي منذ خمسينيات القرن الماضي، قائلا إن «هناك تأويلين وراء تسمية الحي ب«الفقراء». الأول أن الدارالبيضاء عرفت نهاية الأربعينيات عملية نزوح جماعي من منطقتي دكالة والشاوية، وكان من بين النازحين «الفقرا»، أي الفقهاء، الذين سكنوا بالمنطقة التي يُطلق عليها الآن درب الفقراء. أما التفسير الثاني فهو أن الحي سمي بدرب الفقراء لأن الذين كانوا يعيشون به فقراء». أي الاحتمالين أرجح؟ كيفما كان الحال، فإن تسمية حي بهذا الغنى التاريخي ب«الفقراء» ليس سوى سبة في حقه وفي حق سكانه.
غياب استراتيجية في عنونة الأحياء والشوارع قبل أكثر من ثلاث سنوات أجرت شركة "جيوماتيك" دراسة حول أنظمة التشوير بمدينة الدارالبيضاء. الدراسة خلصت إلى غياب أي استراتيجية في عنونة الأحياء والشوارع، وأشارت إلى أن هناك حوالي 2768 حيا لا تحمل أي اسم، وأن أحياء أخرى تحمل فقط أرقاما أو حروفا أو عناوين مكرورة. فيما أهملت الدراسة الإشارة إلى الأحياء والأزقة الشعبية، التي تحمل أسماء غريبة، وتثير الامتعاض في كثير من الأحيان. من يتحمل مسؤولية مثل هذه التسميات؟ سؤال طرحته “المساء” على كمال الديساوي، رئيس مقاطعة سيدي بليوط، فأوضح بأن مجلس مدينة الدارالبيضاء هو المكلف قانونيا بتسمية هذه الأحياء.قبل أن يضيف بأن ذلك يتم خلال بعض دورات المجالس العادية. الديساوي أوضح أيضا أن مشكل تسمية بعض الأزقة في المدينة القديمة مشكل قديم، "منها ما يعود إلى عهد الاستعمار، وأخرى إلى ما بعد الاستعمار"، نافيا في الآن نفسه أن يكون المجلس الحالي الذي يرأسه مسؤولا عن تلك التسميات. ما ينفيه الديساوي عن المجلس الحالي يعني بشكل ضمني أن المجالس الجماعية السابقة تتحمل مسؤولية تلك الأسماء. وهذا ما أكده بشكل صريح مصطفى الحايا، عضو مجلس مدينة الدارالبيضاء. إذ أوضح في تصريح سابق ل"المساء" أن "المجالس الجماعية التي تعاقبت على تسيير شؤون العاصمة الاقتصادية تتحمل مسؤولية الأسماء البشعة التي تحملها العديد من الأحياء الشعبية بالمدينة". أحد هذه المجالس سبق له أن قام بتغيير أسماء عدد من الأحياء الحديثة التابعة لنفوذ جماعة سيدي بليوط (قبل أن تتحول إلى مقاطعة) دون أن يهتم بإجراء نفس العملية على أحياء شعبية تابعة هي الأخرى لسيدي بليوط، رغم أن تلك الأحياء كانت أحوج إلى عملية التغيير تلك، بسبب بشاعة أسمائها.لكن المجالس المتعاقبة على تسيير تلك المقاطعة لم تكن تهتم بذلك، مكرسة فرقا شاسعا في الأسماء بين الأحياء الشعبية والأحياء الحديثة، وإن كان هذا الفرق لا يمثل شيئا أمام فروق أخرى أكثر عمقا. ويرى الديساوي بأنه "لا طائل من من تغيير بعض أسماء الأحياء بالمدينة القديمة لأنها ضاربة في التاريخ ولها قصص وحكايات مرتبطة بهذه التسميات مثلما تمثل جزءا من تاريخ هذه المدينة". ويضيف بأن أسماء الأحياء الشعبية بالمدينة القديمة ليست "مخلة بالحياء"، وأنه إذا ثبت وجود أي اسم يخل بالحياء فآنذاك يمكن تغييره. قبل أن يؤكد بأن "مشكل التسمية في المدينة القديمة غير مطروح أصلا". فيما يرى العديد من سكان المدينة القديمة والأحياء الشعبية أن هذه الأسماء المنفرة التي تطلق على أحيائهم ليست في النهاية سوى صورة مصغرة عن واقع "الحكرة"، التي يعانونها يوميا بسبب سياسة التهميش واللامبالاة، التي تنهجها المجالس الجماعية وكذا مجلس المدينة تجاههم.