يتناول الدكتور أحمد الريسوني، الأمين العام السابق لحركة التوحيد والإصلاح والعضو المؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في هذه الحلقات التي يخص بها قراء جريدة «المساء» في هذا الشهر الفضيل، قضايا على قدر كبير من الأهمية يعرفها المغرب والعالم الإسلامي، خصوصا «التطورات السياسية الجارية حاليا في عدد من أقطار العالم العربي، حيث فُتحت للإسلاميين أبواب العمل السياسي وجبهاته، وأبواب المشاركة في الحكم ومؤسساته»، مذكرا الإسلاميين بأن «الجبهات والمواقع الجديدة لا ينبغي النزوح إليها بإفراغ المواقع الاستراتيجية للعمل الإسلامي»، محذرا إياهم من «أنفسهم» قبل كل شيء. كما يتطرق إلى ورطة إيران بسبب موقفها المتخاذل من الثورة السورية، معتبرا أن «الموقف الإيراني المتحالف مع الطغمة العسكرية الانقلابية الحاكمة في دمشق، طعنة عميقة الغور لشعارات الثورة الإيرانية وإسلاميتها، قبل أن يكون صدمة عنيفة للحركات الإسلامية السنية عبر العالم». ويتناول الدكتور الريسوني بالدراسة والتحليل، أيضا، العديد من القضايا ذات الطابع الشرعي، كموضوعي «الشهوات بين الانضباط والانفلات» و«الإجهاض بين الحق في الحياة والحق في القتل!». وارتباطا بالجدل الدائر في المغرب، مؤخرا، حول الحريات الفردية، والدعوة إلى حرية الاعتقاد والممارسة الجنسية، اختار الريسوني أن يدلي بدلوه في الموضوع، متسائلا عن «الجديد الذي حرك هذه الحملة الجريئة والمكثفة ضد المنظومة الإسلامية عقيدة وشريعة وخلقا؟». من أهم المعايير التي اعتمدها الشرع وعلماء الشرع في التفريق بين الحكام الراشدين والحكام الفاسدين: معيار التدبير والتصرف في الأموال العامة. وقد كان معيار النزاهة المالية واضحا ومعتمَدا عند الصحابة في تفريقهم بين نموذج الخلافة الراشدة الذي جاء به الإسلام، ونموذج الحكم المُلوكي الكسروي والقيصري، الذي كان سائدا معظمَ أنحاء العالم. فعن سلمان أن عمر بن الخطاب قال له: أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جَبَيْتَ من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر (أي بكى). وعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملِك؟ فإن كنتُ ملكا فهذا أمر عظيم (أي بالغ السوء والخطورة). قال قائل: يا أمير المؤمنين إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر. (انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/306 كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال 12/567). وهذا المعيار من معايير الحكم الراشد قد أرست قواعدَه نصوص شرعية عديدة، منها ما أخرجه البخاري عن خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة. قال ابن بطال في شرحه للحديث: «وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله». وقد كان الخليفة عمر رضي الله عنه النموذجَ الأقوى في التطبيق الصارم لهذا المعيار. من ذلك ما أخرجه ابن زنجويه - في كتاب الأموال (2 /331) عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال :أرسل عمر إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال؟ ألا تأخذ منه ثم ترده؟ فقال عمر لابن عوف: أن يصيبني قدري (يقصد الوفاة)، فتقول أنت وأصحابك: اتركوا هذا لأمير المؤمنين، حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة! ولكني أستسلفها منك لما أعلم من شحك، فإذا مت جئت فاستوفيتها من ميراثي. وفي موطأ الإمام مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري - وهو أمير البصرة - فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أَقْدِرُ لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال :بلى ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأُسلِفُكُماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك. ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكُلُّ الجيش أسلفه مثلما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر بن الخطاب :ابنا أمير المؤمنين فأَسلَفَكُما، أديا المال ورِبْحَهُ. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا. لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال عمر: قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصفَ ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصفَ ربح المال. في ضوء ما سبق ننظر فيما أحدثه الملوك والحكام - في هذا الزمان وفي قديم الزمان - من وجوه التصرف في الأموال العامة. فنجد الاغتناء الشخصي والعائلي للحكام وذويهم، من خلال الأخذ من المال العام، ومن خلال امتيازات وإعفاءات غير مشروعة لفائدة أعمالهم التجارية والصناعية والزراعية. ومثل هذا أو قريب منه يتاح للمقربين والنافذين لدى الحكام وأقاربهم. وهناك مَنحُ الأموال العامة للمشايخ والأدباء والكُتَّاب والصحفيين والسحَرة والمهرجين، لا لشيء إلا لمدحهم وتمجيدهم وممالأتهم للحاكم وحزبه وسياسته، وتضليلهم وإلهائهم للعامة من الناس. وهناك الصرف السري للمال العام. وأعني به كل صرف لا يُكشف عنه وعن تفاصيله أمام الملأ، ولا يخضع للمراقبة والمحاسبة. وصرف المال لا يكون سريا إلا وفيه ما فيه. ولذلك فكل صرف سري غير شرعي وغير جائز، حتى يثبت العكس. وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: «والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يَطَّلِع عليه الناس». ومن وجوه الصرف السري للأموال العامة: - بذل نفقات سرية (تحت الطاولة) للضيافات والحفلات والمكافآت (تذاكر سفر، إقامات، هدايا...) - تمويلات سرية لأحزاب ومنظمات وأنشطة مشبوهة. - اتخاذ صناديق سوداء تكون تحت تصرف الحاكم أو بعض أعوانه بلا حسيب ولا رقيب، ويكفيها قبحا وصفها بالسوداء. والأدهى من كل ما سبق: صرف الأموال العامة في أعمال هي من أصلها محرمات ومفاسد، فتكون ظلمات بعضها فوق بعض؛ كما في الإنفاق على أجهزة ظلامية تقتل الناس أو تعذبهم أو تظلمهم أو تخوفهم بأي وجه كان. وكذلك الإنفاق على ما فيه نشر للفساد والانحلال والرذيلة، كبعض المهرجانات الإفسادية، وبعض الإنتاجات «الفنية» بزعمهم، فيصبح الفساد هنا ماديا ومعنويا.