إذا كان التحريض الإعلامي والاستهداف الأمني والإقصاء والتهميش والتمييز من أهم وسائل استهداف المجموعات الدينية أو السياسية التي تمارسها بعض الأنظمة في المنطقة فإن تعمق التوجه إلى تدمير المنشآت الدينية أصبح ظاهرة خطيرة بعد أن تكررت في بلدان عربية وإسلامية شتى. هذه الظاهرة تؤكد ليس غياب القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية فحسب، بل تشير إلى إصرار على استمرار التوتر الاجتماعي وفق نمط يهدف إلى إضعاف الصف وتمزيق الأمة وفق خطوط العرقيات والمذاهب والأديان؛ فالإسلام يحترم دور العبادة، أيا كانت ديانات أصحابها، واعتبر في آيات قرآنية أن حالة التوازن الإنساني في المجتمعات تؤدي إلى الحفاظ على دور العبادة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا). ويتحدث المفسرون هنا عن «قانون التدافع» بين الناس، أي التسابق لتحقيق التوازن المؤدي إلى الاستقرار، وبذلك تصان دور العبادة. ونظرا إلى ارتباط الشعوب والأمم بالحالة الدينية لكونها تتصل بمشاعر البشر وقلوبهم وضمائرهم ووجدانهم، فإن التعرض لدور العبادة يؤدي إلى حالة التوتر والاقتتال التي لا تقرها الآية المذكورة. وقد وجد أعداء الثورة والتغيير في التعرض للمقدسات وسائل فاعلة لمنع التلاحم المجتمعي والوئام النفسي والسياسي، فحركوا العناصر المستعدة، بسبب تنشئتها الدينية، لممارسة ذلك الدور الذي يؤدي إلى سفك الدماء على أوسع نطاق؛ فحرق مسجد أو تدمير كنيسة أو التعرض لكتاب مقدس بالإساءة المتعمدة، عود ثقاب يشعل النار في أجواء قابلة للاشتعال بسبب الخلافات والاختلافات، الحقيقية أو المصطنعة. وكان حرق المسجد الأقصى في 1969 على أيدي الصهاينة جريمة أثارت غضب المسلمين في العالم، وجسدت خطر استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كما أن استمرار الحفر تحت المسجد مقدمة لهدمه، الأمر الذي يتغافل عنه الحكام العرب والمسلمون. وعلى صعيد الثورة، فإن إحداث حالة شقاق بين مواطني أي مجتمع يحول دون تحقيق موقف اجتماعي داعم للثورة، ويضعف حماس المواطنين لمواجهة الاستبداد والقمع والديكتاتورية. ولذلك ستظل الأنظمة التي قامت بعد الثورات، في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا، مستهدفة بشكل خاص من القوى التي تخطط لتوجيهها سياسيا وإيديولوجيا، خصوصا من قبل تحالف قوى الثورة المضادة. في خريف 1978 عمد جهاز الاستخبارات الإيراني، سافاك، في عهد الشاه، إلى إحراق سينما «ريكس» في مدينة عبادان، وكانت مكتظة بأكثر من 400 شخص يشاهدون عرضا سينمائيا، بعد إحكام غلق أبوابها. كانت الجريمة تهدف إلى إثارة الشعب ضد الثورة، بإظهار أن الثورة التي يقودها العلماء رجعية ومتخلفة وأنها ضد السينما والمظاهر الحديثة؛ غير أن سرعة قيادات الثورة لكشف هوية الجهة التي خططت للعملية ونفذتها أفشلت مخطط إجهاض الثورة. ولكن السينما شيء ودور العبادة شيء آخر. ولذلك أصبح استهداف تلك الدور ممارسة تكررت كثيرا في العقد الأخير. وعندما استهدفت جماعة طالبان تمثال بوذا بمدينة باميان، ونسفته كاملا ارتفعت ضجة ضد ذلك الفعل، وأصبح رمزا لغياب روح التحمل الديني، واعتبر مؤشرا على انتشار ظاهرة استهداف البشر في معتقداتهم بأساليب تثير الغضب ومن شأنها تأجيج الفتن الدينية والمذهبية. هذه التصرفات تحمل دلالات كثيرة تثير القلق لدى المسلمين أنفسهم. هذه الدلالات تتجاوز تفسير رد الفعل الآني ضدها، وتتصل بالعقلية التي يحملها مرتكبو أعمال التخريب التي تُؤسَّس على قناعات دينية. ومن الضروري الإشارة إلى موقف الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، برفض أداء الصلاة بكنيسة القيامة في مدينة القدس عندما دعاه بطريركها إلى ذلك؛ فقال عمر إنه إذا صلى في الكنيسة فسوف يأتي مستقبلا من يطالب بتحويلها إلى مسجد لأن الخليفة صلى فيها؛ ولذلك بقيت تلك الكنيسة قائمة حتى الآن. ولم يكن من ثقافة المسلمين على مدى قرون حضارتهم استهداف دور عبادة النصارى أو اليهود، فالحضارة القوية هي القادرة على احتضان الجميع في كنفها، والابتعاد عن سياسات الإقصاء من منطلقات دينية أو ثقافية أو عرقية. ويقول تاريخ سقوط الأندلس إن اليهود الذين عاشوا فيها خلال الحكم الإسلامي فضلوا الانسحاب مع المسلمين لأن ذلك أضمن لسلامتهم وأمنهم من العيش في كنف النصارى. كما يؤكد التاريخ أنهم إنما استهدفوا بسبب دينهم في ظل الحضارة الغربية، وتعرضوا القرن الماضي لحرب إبادة بسبب دينهم، الأمر الذي لم يحدث لهم في تاريخ الإسلام. منذ مطلع هذا الشهر استهدفت مجموعة «أنصار الدين» مساجد تاريخية تابعة للصوفيين في مدينة تومبوكتو، عاصمة مالي، ودمرت عددا منها؛ ففي الأول والثاني من يوليوز، قام مسلحو حركة «أنصار الدين»، الذين يسيطرون على المدينة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بهدم سبعة أضرحة من أصل 16 في تومبوكتو وحطموا «الباب المقدس» لجامع سيدي يحيى، مما أثار استنكارا داخل مالي وخارجها. ودعت المغرب إلى تدخل دولي لحماية المساجد في مالي من التدمير، معتبرة أن ذلك تراث إنساني يجب الحفاظ عليه. وقال ساندا ولد بامانا، المتحدث باسم «أنصار الدين»، لهيئة الإذاعة البريطانية إن الحركة قد أكملت الآن نحو تسعين في المائة من هدفها الرامي إلى تحطيم جميع الأضرحة التي «لا تتماشى مع أحكام الشريعة». وأوضح أن الشريعة لا تسمح ببناء قبور يتجاوز ارتفاعها عن الأرض 15 سنتيمترا. وقبل أسبوع دمرت ميليشيات جماعة «أنصار الدين» ضريحين في مسجد دجينغاريبر في تومبوكتو بعد أن أطلقوا النار في الهواء لإبعاد الحشود وتخويفها، مستخدمين مجارف ومعاول لإكمال الهدم. وأفاد موقع اليونيسكو على الأنترنيت بأن تومبوكتو تضم 16 مقبرة وضريحا، تعد من المكونات الأساسية للنظام الديني، حيث إنها، حسب المعتقدات الشعبية، كانت حصنا يحمي المدينة من كل المخاطر». وقد لقبت المدينة التي أسستها قبائل من الطوارق في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ب«مدينة الأولياء ال333»، وكانت مركزا ثقافيا إسلاميا، ومدينة تجارية مزدهرة تعبرها القوافل التجارية.